ص1

 

الأساطير المؤسسة لخطاب التنمية

 في البلدان العربية الإسلامية

رؤيـة نقـديـة

 

العلوي الأمراني عبد العزيز

لا يرمي هذا المقال إلى التشكيك في نوايا صناع القرار في المجتمعات العربية الإسلامية حيال قضايا التنمية المستدامة في هذه المجتمعات، لأنه من الصعوبة الحكم على النوايا الداخلية للأفراد والجماعات. بل الغاية تسليط بعض الضوء على خطاب التنمية والتحديث كما يروج في وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية لكثير من الدول العربية الإسلامية، وإجراء نقد صارم لتجليات هذا الخطاب على ضوء ما يحبو به الواقع في هذه البلدان على مختلف الأصعدة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.

صحيح أن ثمة جهودا كبيرة تبذل من قبل العديد من الحكومات العربية، والجمعيات المدنية لإصلاح أوضاع المجتمع العربي، وانتشاله من مستنقع التخلف الذي يقبع فيه منذ زمن بعيد، ومحاولة إلحاقه بركب الدول المتقدمة، لكن تظل كل هذه الجهود دون النتائج المرجوة. لقد أنفقت مبالغ مالية خيالية في الوطن العربي الإسلامي على التنمية والتحديث منذ زمن بعيد والى اليوم، وتحديدا منذ نشوء ما يسمى بمشروع الدولة الحديثة في مصر على يد محمد علي. وسنكتفي في هذا المقام بذكر رقم واحد فقط ، وهو رقم الأموال المستثمرة في اثني عشرة دولة عربية ما بين 1950-1968 أي في فترة ثمانية عشر سنة، حيث بلغ الرقم الإجمالي ما يناهز 65 مليار دولار[1]، أي ما يقرب من خمسة أضعاف قيمة المساعدات التي قدمتها دولة الولايات المتحدة الأمريكية إلى أوربا عقب نهاية الحرب العالمية الثانية في إطار ما عرف بمشروع مارشال سنة 1947.  فلماذا نجحت جهود الغرب في إعادة إعمار أوربا حتى أصبحت على ما هي عليه اليوم من تقدم وقوة، بينما فشلت وما تزال كل جهود التنمية والتحديث في البلدان العربية الإسلامية؟

نحن إذن أمام إشكالية حقيقية، إشكالية تنمية لم تتحقق بعد في الواقع العربي، على الرغم مما يبذل ويصرف من ثروات ومقدرات بشرية ومادية باسم الإصلاح والتحديث. فهل من المقبول أن تظل آمال وحقوق الشعوب العربية في التنمية الشاملة والتحديث الفعلي مؤجلة إلى أجل غير مسمى؟ وهل من المقبول كذلك أن تبقى الأمة العربية الإسلامية- وهي التي كانت ذات يوم تمتلك ناصية التحضر والمدنية والعلم- في المراتب الأخيرة في كل تقارير التنمية الإنسانية التي تصدرها الأمم المتحدة في نهاية كل سنة ؟

إن نقطة البداية، هي أن نبدأ بغربلة واقعنا العربي بكل أبعاده وتجليا ته. فلا نكتفي فقط بلطم الخدود والصدور على ما فات ومات،  بل نضع واقعنا عاريا على طاولة التشريح النقدي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى  فالنقد الذاتي هو البداية الحقيقية في كل مشروع تنموي حقيقي. لقد أثبتت التجربة التاريخية الحديثة  للمجتمعات الأوربية أن النقد الهادف والبناء يشكل مؤشرا دالا على الحركية والدينامية الداخلية التي تتمتع بها تلك المجتمعات، والتي تعد مصدر مهما من مصادر تفوقها ورقيها. فالمجتمعات التي تقدس قيم النقد والمساءلة هي الأقدر على تجاوز كل العقبات والعراقيل التي تواجهها، وهي القادرة على تحقيق تنمية مستدامة وشاملة، في حين تظل المجتمعات التي ترذل النقد وتنظر إليه بوصفه فعلا متناقضا للقانون والسيادة الوطنية والانتماء القومي قابعة في مستنقعات التخلف والانحطاط وتزداد تخلفا وتراجعا[2]. فحيثما تتلاشى قيمة النقد وما تستتبعه من آليات المراقبة والمحاسبة داخل أي مجتمع إنساني، تستفحل الانحرافات وتتراكم الأخطاء ويكثر الخلل، دون أن تكون هنالك إرادة حقيقية لإزالتها وتصحيحها. 

لقد أتى على الكثير من المثقفين العرب حين من الدهر ربطوا فيه فشل جهود التنمية والإصلاح في الأوطان العربية بما اعتبروه دور المؤامرة الخارجية في انحطاط الأمة العربية الإسلامية، وانكبوا على دراسة أثر الضغوط الخارجية والاستعمارية على مصير العرب داخليا. بينما اتجهت فئة أخرى إلى تبرير الواقع العربي الممقوت والمهلل بعوامل داخلية وبنيوية متسلحين بمناهج معرفية لا تمت إلى الواقع العربي بصلة، ولذلك فان جهودهم لم تتجاوز حدود المقاربة التنظيرية، أفرزت في نهاية المطاف خطابات أكاديمية مفصولة عن الواقع المعيش، خطابات تقول كل شيء وفي الآن ذاته لا تعني أي شيء. وهو ما يفضح جانبا مهما من جوانب أزمة المثقف العربي في التعامل مع مشكلات محيطه الاجتماعي داخل الوطن العربي، وهو الأمر الذي أشار إليه المفكر والانتروبولوجي المغربي عبد الله الحمودي حينما أكد على أنه قد يكون من باب المستحيل أن تجد خمسة باحثين وكتاب كتبوا كتبا، عاشوا ولو ستة أشهر مع الفلاحين في الريف المصري أو غيره في البوادي العربية[3]. فارتباط النخب العربية  المثقفة بكل اتجاهاتها وقناعتها الإيديولوجية بالمجتمع العربي، كان وما يزال ارتباطا نظريا فقط، ولم يكن ارتباطا يمس المعيش اليومي والمعرفة القريبة. كما أنه لم يكن ارتباطا عضويا بالمعنى العلمي الذي يجعل الباحث والمثقف العربي ينصت لنبض المجتمع ، ويعرف عن قرب المفاهيم والنظرة التي يفسر بها الأشخاص حياتهم اليومية.

ثمة مسلمة سننطلق منها ومؤداها أن خطابات التنمية المستدامة المتداولة اليوم في كثير من البلدان العربية لا تحمل حقائق نهائية، بل مرحلية وظرفية فقط، بنيت على أساس ترتيب معين انطلاقا من خلفيات محددة. فما تقوله هذه الخطابات لا يعكس الواقع الحقيقي، ومن ثمة يكون الكشف عن مضامين هذه الخطابات ومناقشتها ونقدها بمثابة الصخر الذي ينكسر عليه كل ادعاء.

ما لم يرد في تقارير التنمية البشرية العربية.

لا أحد يستطيع أن ينكر الأهمية البالغة لتقارير التنمية البشرية التي يصدرها كل سنة برنامج الأمم المتحدة للتنمية (P. N. U. D ) ، خصوصا بعدما اتخذتها الكثير من وسائل الإعلام المرئية والمقروءة مادة إعلامية لها قراءة وعرضا وتحليلا. وهو ما سمح لشرائح عريضة من أبناء الوطن العربي  بالتعرف على واقع الحال في العديد من البلدان العربية، واكتشاف العديد من الحقائق التي ظلت معرفتها – وإلى عهد قريب – حكرا على الحكام العرب ومستشاريهم السياسيين و الاقتصاديين، لا تثار عادة سوى في بعض المناسبات الانتخابية.

إن كل التقارير السنوية التي اعتاد برنامج الأمم المتحدة للتنمية على إصدارها منذ سنة 1990 وانتهاء بالتقرير الأخير لسنة 2005 تعكس جميعها المناخ العام الجديد الذي أصبحت عليه دول العالم،  والتي لم يعد بإمكانها الابتعاد عن مواكبة المتغيرات الجديدة والحاصلة في شتى الميادين والمجالات الاقتصادية والمعرفية. ولهذا جاءت تقارير التنمية البشرية في السنوات الأخيرة[4]متضمنة لكثير من التحليلات والإحصاءات والمعطيات الموضوعية التي تكشف العديد من مواطن الخلل التي تحول دون تحقيق تنمية إنسانية شاملة وحقيقية في الوطن العربي.

وبعيدا عن التشكيك والافتراء على الخبراء وواضعي هذه التقارير، لا يمكن تجاوز بعض الملاحظات تجاه الخطاب الذي تحمله هذه التقارير بالرغم مما تدعيه من شمولية وعلمية في تناول الواقع العربي وتشخيصه.

لا بد من التنبيه بداية إلى أن هذه التقارير تصدر عن منظمة عالمية تُمجد وتدافع عن العولمة الرأسمالية.  ففي الوقت الذي يوهم فيه خطاب تقارير التنمية الإنسانية بتقديم استراتيجية شاملة للنهوض بالأوضاع المتردية للعالم العربي بين التحديات العالمية، والحاجيات الداخلية للمجتمعات العربية،  نجد إشادة واضحة بقيم الحرية والديمقراطية والمشاركة باعتبارها قيما قادت الدول المتقدمة إلى التقدم والتحديث، والعمل على تقديمها كمفاتيح جاهزة في عملية التنمية بالبلدان الفقيرة.  والواقع أن هذه الشعارات لا تعدو أن تكون آليات قسرية لإدماج المجتمعات العربية إدماجا قسريا في السياسات والمخططات الإصلاحية، والتي انطلقت منذ الثمانينات من القرن العشرين في إطار ما يعرف ببرنامج التقويم الهيكلي، الذي وضعت أهدافه وخططه دوائر المال والعولمة الرأسمالية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي). ومن هنا يأتي تغيب التقارير لكل حديث عن الأسباب الحقيقية  الكامنة وراء الاختلالات البنيوية المالية والنقدية، وتحديدا الفساد السياسي والإداري وضعف الاندماج الوطني والقومي اقتصاديا وثقافيا وعلميا.  مع العلم أن جميع هذه الاختلالات البنيوية تضطلع الأنظمة العربية الحاكمة بالمسؤولية حيالها. فعدم إشارة تقارير التنمية الإنسانية إلى الاختلالات البنيوية الحقيقية داخل المجتمعات العربية هو هروب متعمد ومقصود عن مواطن العطب التي تعتري جسد الأمة العربية الإسلامية. هذه الاختلالات أفرزت واقعا وطنيا ممقوتا ومهلهلا يطبعه شعور عميق عند كل مواطن عربي بعدم الرضا مما هو سائد   والذي عجزت كل المحاولات الإصلاحية عن تغييره و إصلاحه.  فاستفحلت الأزمة يوما بعد يوم، علما أن دوام الأزمة زمنا طويلا خلق مشاعر الإحباط واليأس واليقين بعدم اليقين بين شرائح عريضة من أبناء الوطن العربي مما يؤجج ظواهر التعصب والاستيلاب والتطرف داخل المجتمعات العربية. 

ومن جهة أخرى،  المتفحص لخطاب تقارير التنمية الإنسانية الأخيرة،  لا يجد ولو إشارة بسيطة إلى دور النمو الأخطبوطي للشركات المتعددة الجنسية في إجهاض كل مشاريع التنمية الداخلية في البلدان العربية.  ففي ظل نظام اقتصاد السوق، ونظام تجاري عالمي لا يرحم الضعيف ولا يحد من جبروت القوي،  تتعرض اقتصاديات البلدان الفقيرة للانكماش والتراجع بينما تتزايد هيمنة الدول الغنية على العالم.  و هو ما حدا بأحد الخبراء الاقتصاديين إلى وصف هذه الوضعية اللامتكافئة بين دول الشمال ودول الجنوب بالدروينية العالمية[5]حيث الأقوى يبتلع الأضعف. 

القارئ المتفحص لتقارير التنمية الإنسانية يلمس بوضوح ودون كبير عناء،  تغاضيها الحديث عن مسؤولية الاحتلال الصهيوني الإسرائيلي في تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية للشعب الفلسطيني، الذي تتزايد أحواله المعيشية ترديا يوما عن يوم.  كما أنه من الغريب جدا،  أن لا ينتبه واضعو هذه التقارير إلى أن من أهم أسباب الارتداد والتراجع الذي يشهده المجتمع العراقي في مختلف مناحي الحياة  الحصار الطويل الذي فرض عليه،  لينتهي الأمر باحتلال هذا البلد العربي،  وتدمير مقدراته الطبيعية والبشرية،  وتجريف تراثه الثقافي والحضاري،  الذي يفوق عظمة وشموخا المحتل الغاصب. كما لم تشر التقارير كذلك إلى الآثار السلبية التي خلفها الحصار الغربي على الشعب الليبي الذي عاش زمنا ليس باليسير معزولا عن العالم.

تقارير التنمية الإنسانية العربية، وعلى الرغم من ادعاءها شمولية قراءة الواقع العربي بكل مكوناته،  لم تشر إلى دور الصراعات العربية والخلافات البينية  بين الدول العربية، وآثارها السلبية على قضايا التقدم والتنمية في العالم العربي.  فالاجتياح العراقي السافر على الشعب الكويتي خلال كارثة الخليج ساهم في زعزعت الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي ليس فقط في منطقة الخليج العربي،  بل في مختلف الأقطار العربية من المشرق إلى المغرب ولو بدرجة متفاوتة [6].  فالتنمية رديفة المدنية، وهاته الأخيرة لا توجد سوى في واقع إنساني يطبعه الاستقرار في كل مستوياته. وعليه فمن المستحيل تصور تنمية شاملة في واقع اجتماعي هش تتخلله الصراعات والحروب، فالحرب أكبر عدو للتنمية. كما أنه ومن جهة أخرى، فعلى الرغم من العشرات من الاتفاقيات التجارية والاقتصادية والخدماتية المبرمة بين الدول العربية، سواء تلك التي عقدت بشكل ثنائي، أو جماعي في المغرب العربي كما في مشرقه، فان النتائج المحصل عليها متواضعة إلى حد يدعو إلى الاستغراب والدهشة،  إذا ما تمت مقارنتها بما تحقق في محيطات وكتل اقتصادية أخرى في العالم.

هل للتنمية نموذج واحد... ؟

يتوجب – وبدن شك – على كل المهتمين بدراسة مفهوم التنمية الاحتياط من الاستعمال العشوائي والمجاني للمقولات والنماذج المتعلقة بالتنمية.  فهذا المفهوم من المفاهيم التي يجب أن يعاد النظر فيها، ليس من ناحية حمولة القيم الإنسانية التي يتضمنها هذا المفهوم، بل من جهة النماذج والقوالب التي تصاغ لهذا له.  وبالتالي هل هناك نموذج واحد للتنمية،  وهو المتمثل في النموذج الغربي؟

صحيح أن الغاية النهائية للتنمية واحدة، وهي ضمان حياة أفضل للبشر، وتحقيق الرفاهية لأفراد المجتمع.  لكن إذا كان منتهى التنمية واحدا، فان منطلقاتها متعددة ومختلفة. هناك نماذج عديدة في  العالم المعاصر تظهر أن الطريق إلى التنمية الاقتصادية والاجتماعية ليس – بالضرورة – كما تسعى البرامج والمخططات الغربية الموجهة إلى العالم العربي إظهاره للصناع القرار في الوطن العربي. ففي الوقت الذي اجتهدت فيه كثير من الحكومات العربية في اتباع إرشادات وتوجيهات برنامج التقويم الهيكلي، ودون أن تحقق ما كانت تصبو إليه من تحديث وتقدم، اتبعت بلدان شرق آسيا سياسة إنمائية خاصة بها، وبعيدة كل البعد عن إملاءات الدوائر المالية والسياسية الغربية،  إلى حد أن الخبير الاقتصادي العربي  مهدي الحافظ اعترف بأن تجربة التنمية والتحديث في دول شرق آسيا كانت تجري على الضد من توجيهات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي،  والتي كانت تلح على نمط إطلاق اليد للسوق والتقليل من دور الدولة، وفرض وصفة الإصلاحات الهيكلية والتحديث الاقتصادي[7]. فلماذا إذن يعتقد الكثير من عرب هذا الزمن بأن تحقيق التنمية في أوطانهم، لا يتأتى سوى بتقليد النموذج الغربي قلبا وقالبا؟

لعل من أهم أسباب سيادة هذا التصور عند شرائح عريضة داخل المجتمعات العربية، الفهم الخاطئ لجوهر مضمون التنمية الإنسانية، حيث تم ربط تنمية المجتمع بالبعد التقني والتكنولوجي. وكأن التنمية الشاملة تقتصر فقط في إدخال بعض المستحدثات التقنية، وتداولها بين أفراد المجتمع. ولأن الغرب مصدر التكنولوجية، وهو المنتج الأول للتقنيات الحديثة أصبح محط انبهار وإعجاب كثير من العرب.  حتى إن كل البرامج الإصلاحية ومخططات التحديث في العالم العربي تقدم التكنولوجية الحديثة كحل نهائي أو كوصفة سحرية قادرة على حل معضلات التخلف.

 من المؤكد أن لهذا الاعتقاد جانب من الصحة، لكن لا يجب أن ننسى أن التنمية الإنسانية عملية مركبة ومعقدة في مضمونها الحقيقي، والتكنولوجية هي في النهاية نتاج ومحصلة التحولات البنيوية التي يشهدها المجتمع على الصعد كافة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وعلميا.  فالمجتمعات التي تعيش تنمية إنسانية حقيقية لا يقتصر أفرادها على استهلاك المحدثات التقنية واستعمالها فقط، بل وإنتاجها وخلقها بشكل ذاتي بما يضمن لهذه المجتمعات المناعة والقوة.  وعليه يمكن أن نتساءل هل توظيف التقنيات التكنولوجية في مجتمع أكثر من نصفه أمي، ويقبع أغلبيته في البؤس والحرمان يمكن أن يؤدي إلى تحقيق تنمية إنسانية شاملة.

جماع القول، إن كل الخطابات التي تتضمنها المخططات الغربية الموجهة إلى البلدان العربية بدعوى مساعدتها لتحقيق التنمية المنشودة، تحمل كثيرا من المغالطات التضليلية التي تتخذ من التنمية شعارا جذابا لإدخال الدول العربية في برامج تنموية شكلية، تقوم على التبعية المطلقة للغرب تماما كما حدث قبل قرنين من الزمن،  حينما رفعت الدول الاستعمارية الغربية شعار "الإصلاح" لبسط سيطرتها على المنطقة العربية واستعمار شعوبها.  أولم يحن الوقت بعد ليتعظ العرب من دروس الماضي، ويدركوا أن التنمية الحقيقية هي عملية مجتمعية واعية وهادفة، قوامها الاعتماد على الذات. فكيف يترك العرب للغرب ودوائره المالية والسياسية تحديد أهدافهم واختياراتهم الوجودية.

إن تحقيق تنمية إنسانية عربية شاملة يقتضي بادئ ذي بدء، الاعتماد على الذات والإيمان بقدراتنا الذاتية على تغيير أوضاعنا بشكل ذاتي، عبر الأهداف التي يحددها المجتمع بذاته ولذاته، وفق إمكاناته الذاتية، خصوصا وأن كل تقارير التنمية الإنسانية العربية تتفق جميعها على أن الأمة العربية تمتلك من الثروات البشرية والطبيعية ما يؤهلها لإصلاح أوضاعها وخلق تنمية اقتصادية واجتماعية "تكمن الثروة الحقيقية للأمة العربية من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي في ناسها ، نساء ورجالا وأطفالا هم أمل الأمة، كما هم ثروتها، وتحرير هؤلاء الناس من الحرمان بجميع أشكاله وتوسيع خياراتهم، لابد من أن يكونا محور عملية التنمية في البلدان العربية "(تقرير التنمية الإنسانية العربية 2002). كما تزخر بواطن الأراضي العربية وسطوحها بمقدرات طبيعية متنوعة ومهمة.  ويكفي أن نشير فقط أن الاحتياطي العربي من النفط يناهز (643. 4 مليار برميل )أي ما نسبته (62. 1%) من إجمالي الاحتياطي العالمي من هذه المادة. والى جانب النفط نجد مادة الغاز الطبيعي التي يبلغ الاحتياطي العربي منها حوالي(23. 6%) من إجمالي الاحتياطي العالمي.

إن توفر البلدان العربية على ثروات طبيعية لا يعني بتاتا أن تنميتها سيكون بالأمر الهين، بل ثمة شروط أخرى يتوجب توفرها حتى يتم استغلال كل الثروات المتاحة طبيعيا وبشريا بكيفية معقلنة وهادفة. لذلك نقدم مقترحين أعتقد أنهما يشكلان حجر الزاوية في كل مبادرة حقيقية وفعلية لتحقيق التنمية الإنسانية الشاملة والمستدامة التي تطمح إليها كل البلدان العربية ، وهي :

أولا : تحديد مشروع مجتمعي ديمقراطي واضح المعالم، ويحظى بإجماع كل المواطنين بمختلف أصولهم وطوائفهم العرقية والثقافية.  فكثيرة هي الدول العربية التي لا تمتلك مشروعا مجتمعيا واضح الأهداف، وحتى وان وجد في بعض الأقطار، فغالبا ما نجده يفتقر إلى الواقعية والوضوح، مما يفسح المجال للحديث عن بعض العموميات. وعليه فلابد من وضع مشروع مجتمعي حقيقي ينطلق من تحليل معمق للأوضاع الحالية للمجتمع، ويرسم ملامح المجتمع الذي يراد تحقيقه من حيث مستواه الاقتصادي والثقافي والتكنولوجي، ومن حيث طبيعة مؤسساته السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية. كما تحدد فيه نوعية العلاقات التي يجب أن تربط بين الأفراد داخله، كما يحدد نوعية الإنسان المراد تكوينه وتعليمه، باعتبار أن هذا الأخير يعد قطب الرحى في كل عملية تنموية حقيقية.

إن من أهم شروط نجاح هذا المشروع المجتمعي، أن يحظى بقبول مختلف المكونات المجتمعية. وهذا يفترض تبني المنهج الديمقراطي كأسلوب لإدارة الاختلافات الطبيعية السياسية والثقافية داخل المجتمع، فالديمقراطية الحقيقية القائمة على إشراك الكل في اتخاذ القرار دون تهميش ولا إقصاء لأي طرف في تحمل المسؤولية الوطنية كفيلة بأن تكون الوعاء الذي يحمي المجتمع من كل الاضطرابات والتوترات الداخلية، ويجعل من تنوع المجتمع وتعدديته الإثنية والثقافية والسياسية مصدر ثراء وقوة لا مصدر ضعف وتشتت. فالاستقرار الاجتماعي هو أساس المدنية والحضارة والتحديث الحقيقي، وشرط مهم في كل تنمية شاملة.  

ثانيا : اتباع إستراتيجية عمل واضحة ومعقلنة،  فللوصول إلى وضعية المجتمع المنتج للتنمية يتطلب الأمر اتباع إستراتيجية عمل. وذلك من خلال الإجراءات الآتية :

·                   تحديد الأهداف التنموية بشكل دقيق وواضح على المدى القريب والمتوسط والبعيد.

·                   تعبئة الموارد المادية والبشرية المتوفرة، وتحديد الوسائل العملية والإجرائية لتحقيق الأهداف المنشودة، مع تحديد المراحل الزمنية لإنجاز البرامج والمشاريع التنموية.

·                   خلق آليات واقعية وملموسة للتقويم المستمر والمراقبة، والوقوف على كل ما تحقق وما لم يتحقق من المشاريع التنموية.  

 

الهوامش



[1]  د. جورج قرم ، التنمية المفقودة :دراسات في الأزمة الحضارية والتنموية العربية، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت ،  الطبعة 1 ، 1981. ص : 182.

[2] محمد محفوظ ،  الإصلاح السياسي والوحدة الوطنية ، كيف نبني وطنا للعيش المشترك ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، الطبعة1، 2004 ، ص:43.

[3]  د. عبد الله الحمودي ،  مصير المجتمع المغربي:ر ؤية أنتربولوجية لقضايا الثقافة والسياسة والدين والعنف، سلسلة دفاتر وجهة نظر5 2004 ،  ص :17.

[4]  - أنظر في هذا الصدد تقارير التنمية الإنسانية لسنوات 2003 – 2004 – 2005،  برنامج الأمم المتحدة للتنمية .

   [5] - Oswaldo de Rivero , Le Mythe du Développement , Enjeux Planète, Tunisie , 2003 , p : 87.

[6]  - د.  الحبيب الجنحاني ،  الغزو العراقي للكويت ( المقدمات ، الوقائع وردود الفعل ، التداعيات ) ،  عالم المعرفة العدد :195 ،  مارس ،  1995 ،  ص 311.

[7]  -  د.  رفيف رضا صيداوي ،  هل يمكن قيام نهضة عربية ؟ مجلة العربي ،  العدد :549 ،  2004 ، ص: 25.