الأساطير
المؤسسة لخطاب التنمية
في البلدان العربية الإسلامية
لا يرمي هذا المقال إلى التشكيك في نوايا صناع القرار في
المجتمعات العربية الإسلامية حيال قضايا التنمية المستدامة في هذه المجتمعات، لأنه
من الصعوبة الحكم على النوايا الداخلية للأفراد والجماعات. بل الغاية تسليط بعض
الضوء على خطاب التنمية والتحديث كما يروج في وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية
لكثير من الدول العربية الإسلامية، وإجراء نقد صارم لتجليات هذا الخطاب على ضوء ما
يحبو به الواقع في هذه البلدان على مختلف الأصعدة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا
وثقافيا.
صحيح أن ثمة جهودا كبيرة تبذل من قبل العديد من الحكومات
العربية، والجمعيات المدنية لإصلاح أوضاع المجتمع العربي، وانتشاله من مستنقع
التخلف الذي يقبع فيه منذ زمن بعيد، ومحاولة إلحاقه بركب الدول المتقدمة، لكن تظل
كل هذه الجهود دون النتائج المرجوة. لقد أنفقت مبالغ مالية خيالية في الوطن العربي
الإسلامي على التنمية والتحديث منذ زمن بعيد والى اليوم، وتحديدا منذ نشوء ما يسمى
بمشروع الدولة الحديثة في مصر على يد محمد علي. وسنكتفي في هذا المقام بذكر رقم
واحد فقط ، وهو رقم الأموال المستثمرة في اثني عشرة دولة عربية ما بين 1950-1968
أي في فترة ثمانية عشر سنة، حيث بلغ الرقم الإجمالي ما يناهز 65 مليار دولار[1]، أي ما يقرب من خمسة أضعاف قيمة المساعدات التي
قدمتها دولة الولايات المتحدة الأمريكية إلى أوربا عقب نهاية الحرب العالمية
الثانية في إطار ما عرف بمشروع مارشال سنة 1947. فلماذا نجحت
جهود الغرب في إعادة إعمار أوربا حتى أصبحت على ما هي عليه اليوم من تقدم
وقوة، بينما فشلت وما تزال كل جهود التنمية والتحديث في البلدان العربية
الإسلامية؟
نحن إذن أمام إشكالية حقيقية، إشكالية تنمية لم تتحقق
بعد في الواقع العربي، على الرغم مما يبذل ويصرف من ثروات ومقدرات بشرية ومادية
باسم الإصلاح والتحديث. فهل من المقبول أن تظل آمال وحقوق الشعوب العربية في
التنمية الشاملة والتحديث الفعلي مؤجلة إلى أجل غير مسمى؟ وهل من المقبول كذلك أن
تبقى الأمة العربية الإسلامية- وهي التي كانت ذات يوم تمتلك ناصية التحضر والمدنية
والعلم- في المراتب الأخيرة في كل تقارير التنمية الإنسانية التي تصدرها الأمم
المتحدة في نهاية كل سنة ؟
إن نقطة البداية، هي أن نبدأ بغربلة واقعنا العربي بكل
أبعاده وتجليا ته. فلا نكتفي فقط بلطم الخدود والصدور على ما فات ومات، بل نضع واقعنا عاريا على طاولة التشريح النقدي
بكل ما تعنيه الكلمة من معنى فالنقد
الذاتي هو البداية الحقيقية في كل مشروع تنموي حقيقي. لقد أثبتت التجربة التاريخية
الحديثة للمجتمعات الأوربية أن النقد
الهادف والبناء يشكل مؤشرا دالا على الحركية والدينامية الداخلية التي تتمتع بها
تلك المجتمعات، والتي تعد مصدر مهما من مصادر تفوقها ورقيها. فالمجتمعات التي تقدس
قيم النقد والمساءلة هي الأقدر على تجاوز كل العقبات والعراقيل التي تواجهها، وهي
القادرة على تحقيق تنمية مستدامة وشاملة، في حين تظل المجتمعات التي ترذل النقد
وتنظر إليه بوصفه فعلا متناقضا للقانون والسيادة الوطنية والانتماء القومي قابعة
في مستنقعات التخلف والانحطاط وتزداد تخلفا وتراجعا[2]. فحيثما تتلاشى قيمة النقد وما تستتبعه من آليات
المراقبة والمحاسبة داخل أي مجتمع إنساني، تستفحل الانحرافات وتتراكم الأخطاء
ويكثر الخلل، دون أن تكون هنالك إرادة حقيقية لإزالتها وتصحيحها.
لقد أتى على الكثير من المثقفين العرب حين من الدهر
ربطوا فيه فشل جهود التنمية والإصلاح في الأوطان العربية بما اعتبروه دور المؤامرة
الخارجية في انحطاط الأمة العربية الإسلامية، وانكبوا على دراسة أثر الضغوط
الخارجية والاستعمارية على مصير العرب داخليا. بينما اتجهت فئة أخرى إلى تبرير
الواقع العربي الممقوت والمهلل بعوامل داخلية وبنيوية متسلحين بمناهج معرفية لا
تمت إلى الواقع العربي بصلة، ولذلك فان جهودهم لم تتجاوز حدود المقاربة التنظيرية،
أفرزت في نهاية المطاف خطابات أكاديمية مفصولة عن الواقع المعيش، خطابات تقول كل
شيء وفي الآن ذاته لا تعني أي شيء. وهو ما يفضح جانبا مهما من جوانب أزمة المثقف
العربي في التعامل مع مشكلات محيطه الاجتماعي داخل الوطن العربي، وهو الأمر الذي
أشار إليه المفكر والانتروبولوجي المغربي عبد الله الحمودي حينما أكد على أنه قد
يكون من باب المستحيل أن تجد خمسة باحثين وكتاب كتبوا كتبا، عاشوا ولو ستة أشهر مع
الفلاحين في الريف المصري أو غيره في البوادي العربية[3]. فارتباط النخب العربية المثقفة بكل اتجاهاتها وقناعتها الإيديولوجية
بالمجتمع العربي، كان وما يزال ارتباطا نظريا فقط، ولم يكن ارتباطا يمس المعيش
اليومي والمعرفة القريبة. كما أنه لم يكن ارتباطا عضويا بالمعنى العلمي الذي يجعل
الباحث والمثقف العربي ينصت لنبض المجتمع ، ويعرف عن قرب المفاهيم والنظرة التي
يفسر بها الأشخاص حياتهم اليومية.
ثمة
مسلمة سننطلق منها ومؤداها أن خطابات التنمية المستدامة المتداولة اليوم في كثير
من البلدان العربية لا تحمل حقائق نهائية، بل مرحلية وظرفية فقط، بنيت على أساس
ترتيب معين انطلاقا من خلفيات محددة. فما تقوله هذه الخطابات لا يعكس الواقع
الحقيقي، ومن ثمة يكون الكشف عن مضامين هذه الخطابات ومناقشتها ونقدها بمثابة
الصخر الذي ينكسر عليه كل ادعاء.
جماع القول، إن كل الخطابات التي تتضمنها
المخططات الغربية الموجهة إلى البلدان العربية بدعوى مساعدتها لتحقيق التنمية
المنشودة، تحمل كثيرا من المغالطات التضليلية التي تتخذ من التنمية شعارا جذابا
لإدخال الدول العربية في برامج تنموية شكلية، تقوم على التبعية المطلقة للغرب
تماما كما حدث قبل قرنين من الزمن، حينما
رفعت الدول الاستعمارية الغربية شعار "الإصلاح" لبسط سيطرتها على
المنطقة العربية واستعمار شعوبها. أولم
يحن الوقت بعد ليتعظ العرب من دروس الماضي، ويدركوا أن التنمية الحقيقية هي عملية
مجتمعية واعية وهادفة، قوامها الاعتماد على الذات. فكيف يترك العرب للغرب ودوائره
المالية والسياسية تحديد أهدافهم واختياراتهم الوجودية.
إن تحقيق تنمية إنسانية عربية شاملة يقتضي بادئ
ذي بدء، الاعتماد على الذات والإيمان بقدراتنا الذاتية على تغيير أوضاعنا بشكل
ذاتي، عبر الأهداف التي يحددها المجتمع بذاته ولذاته، وفق إمكاناته الذاتية، خصوصا
وأن كل تقارير التنمية الإنسانية العربية تتفق جميعها على أن الأمة العربية تمتلك
من الثروات البشرية والطبيعية ما يؤهلها لإصلاح أوضاعها وخلق تنمية اقتصادية
واجتماعية "تكمن الثروة الحقيقية للأمة العربية من المحيط الأطلسي إلى الخليج
العربي في ناسها ، نساء ورجالا وأطفالا هم أمل الأمة، كما هم ثروتها، وتحرير هؤلاء
الناس من الحرمان بجميع أشكاله وتوسيع خياراتهم، لابد من أن يكونا محور عملية
التنمية في البلدان العربية "(تقرير التنمية الإنسانية العربية 2002). كما
تزخر بواطن الأراضي العربية وسطوحها بمقدرات طبيعية متنوعة ومهمة. ويكفي أن نشير فقط أن الاحتياطي العربي من النفط
يناهز (643. 4 مليار برميل )أي ما نسبته (62. 1%)
من إجمالي الاحتياطي العالمي من هذه المادة. والى جانب النفط نجد مادة الغاز
الطبيعي التي يبلغ الاحتياطي العربي منها حوالي(23. 6%)
من إجمالي الاحتياطي العالمي.
إن توفر البلدان العربية على ثروات طبيعية لا
يعني بتاتا أن تنميتها سيكون بالأمر الهين، بل ثمة شروط أخرى يتوجب توفرها حتى يتم
استغلال كل الثروات المتاحة طبيعيا وبشريا بكيفية معقلنة وهادفة. لذلك نقدم
مقترحين أعتقد أنهما يشكلان حجر الزاوية في كل مبادرة حقيقية وفعلية لتحقيق
التنمية الإنسانية الشاملة والمستدامة التي تطمح إليها كل البلدان العربية ، وهي :
أولا : تحديد مشروع مجتمعي ديمقراطي واضح المعالم،
ويحظى بإجماع كل المواطنين بمختلف أصولهم وطوائفهم العرقية والثقافية. فكثيرة هي الدول العربية التي لا تمتلك مشروعا
مجتمعيا واضح الأهداف، وحتى وان وجد في بعض الأقطار، فغالبا ما نجده يفتقر إلى
الواقعية والوضوح، مما يفسح المجال للحديث عن بعض العموميات. وعليه فلابد من وضع
مشروع مجتمعي حقيقي ينطلق من تحليل معمق للأوضاع الحالية للمجتمع، ويرسم ملامح
المجتمع الذي يراد تحقيقه من حيث مستواه الاقتصادي والثقافي والتكنولوجي، ومن حيث
طبيعة مؤسساته السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية. كما تحدد فيه نوعية
العلاقات التي يجب أن تربط بين الأفراد داخله، كما يحدد نوعية الإنسان المراد
تكوينه وتعليمه، باعتبار أن هذا الأخير يعد قطب الرحى في كل عملية تنموية حقيقية.
إن من أهم شروط نجاح هذا المشروع المجتمعي، أن
يحظى بقبول مختلف المكونات المجتمعية. وهذا يفترض تبني المنهج الديمقراطي كأسلوب لإدارة
الاختلافات الطبيعية السياسية والثقافية داخل المجتمع، فالديمقراطية الحقيقية
القائمة على إشراك الكل في اتخاذ القرار دون تهميش ولا إقصاء لأي طرف في تحمل
المسؤولية الوطنية كفيلة بأن تكون الوعاء الذي يحمي المجتمع من كل الاضطرابات
والتوترات الداخلية، ويجعل من تنوع المجتمع وتعدديته الإثنية والثقافية والسياسية
مصدر ثراء وقوة لا مصدر ضعف وتشتت. فالاستقرار الاجتماعي هو أساس المدنية والحضارة
والتحديث الحقيقي، وشرط مهم في كل تنمية شاملة.
ثانيا : اتباع إستراتيجية عمل واضحة ومعقلنة، فللوصول إلى وضعية المجتمع المنتج للتنمية يتطلب
الأمر اتباع إستراتيجية عمل. وذلك من خلال الإجراءات الآتية :
·
تحديد الأهداف التنموية بشكل دقيق وواضح على
المدى القريب والمتوسط والبعيد.
·
تعبئة الموارد المادية والبشرية المتوفرة، وتحديد
الوسائل العملية والإجرائية لتحقيق الأهداف المنشودة، مع تحديد المراحل الزمنية
لإنجاز البرامج والمشاريع التنموية.
·
خلق آليات واقعية
وملموسة للتقويم المستمر والمراقبة، والوقوف على كل ما تحقق وما لم يتحقق من
المشاريع التنموية.
الهوامش
[1] د. جورج قرم ، التنمية المفقودة :دراسات في
الأزمة الحضارية والتنموية العربية، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت ، الطبعة 1 ، 1981. ص : 182.
[2] محمد محفوظ ،
الإصلاح السياسي والوحدة الوطنية ، كيف نبني وطنا للعيش المشترك ، المركز
الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، الطبعة1، 2004 ، ص:43.
[3] د. عبد الله الحمودي ، مصير المجتمع المغربي:ر ؤية أنتربولوجية لقضايا
الثقافة والسياسة والدين والعنف، سلسلة دفاتر وجهة نظر5 2004 ، ص :17.
[4] - أنظر في هذا الصدد تقارير التنمية الإنسانية
لسنوات 2003 – 2004 – 2005، برنامج الأمم
المتحدة للتنمية .
[6] - د.
الحبيب الجنحاني ، الغزو العراقي
للكويت ( المقدمات ، الوقائع وردود الفعل ، التداعيات ) ، عالم المعرفة العدد :195 ، مارس ،
1995 ، ص 311.