ص1       الفهرس  81-90

قصص قصيرة

عبد الله المتقي

عبد الله باعلي

عبدا للطيف الزكري

علي الوكيلي

فتيحـة أعرور

 

 

ــــــــــــ

عبد الله المتقي

سبعة أيام

 

الكل يشتهي فاكهة الليل ...

الكل يريد غنيمة من شجرة التفاح ...

لم يعد يصدق أن جدته ماتت بشيخوخة الدماغ ،حدج صورتها المعلقة في غرفة أمه بنظرة استفهام ، و لم  يضحك باستخفاف ، كما يضحك باستخفاف على صورة أبيه...

في اليوم الأول، جلس على كرسي بالحديقة، وبدأ يتفرج على هياكل شاخت من فرط  زمن القمل ...

الشيخ الأول يكاد السعال يمزق صدره...

الشيخ الثاني يبصق الدم...

الشيخ الثالث كان كالنائم...

الشيخ الرابع كان يسوي رزته...

الشيخ الخامس والسادس كانا يتهامسان...

شعر

بالدوار ، فأغمض عينيه ...

تراجع إلى الوراء خطوتين كأنه يفر ، بحث في ذاكرته عن شيخ ما ، ولكنه لم يجد سوى جدته التي بلغ دماغها من التخمام عتيا...

 

الكل حول طبق التفاح...

الكل يريد عضة من تفاحة حمراء أو صفراء ...

وفي اليوم الثاني ، ذهب إلى العيادة ، حدث الطبيب النحيل الملفوف في وزرة بيضاء ، عن السعال الذي كاد يمزق السحايا ، وعن الشيوخ ، استمع إليه الطبيب بإمعان ، ثم تضاحك بسخرية :

- ازدرد غصتك

فوق  الكرسي القريب من الدرج ، كان عطر الممرضة ينتشر في الزوايا ، وكان جسدها ثريا ،وكانت تشبك يديها حول صدرها الثري ، وكانت قد ابتلعت غصة الطبيب.

في مساء نفس  اليوم ، كان المرحاض يتنفس رائحة الأدوية ، وكانت زوجته تتوجع ، وكان امتداده يعانق دمية في عنقها شريط كالأحمر، وكان الجمر يتوهج ،  في تنور ما من الذاكرة.

سارا معا إلى المشفى ، وبصقت نصفه الثاني طفلة جميلة ، تشبه المائدة التي أنزلها الله من السماء .

الكل يسيل لعابه...

الكل انفتحت شهيته...

وفي اليوم الثالث، كان يمشي على رصيف الشارع، فاكتشف أنه يسير بلا سروال، شعر بزلزال لم يقرأ له حسابا، حتى في خصامه مع السعال ، ثم ريثما تنفس الصعداء ، حين وقع بصره على المارة يمشون مثله بدون سراويل...

الكل أخذ مكانه بالقرب من طبق التفاح...

الكل يمضغ التفاح ، ويتلمظ التفاح ...

في صباح اليوم الرابع ، أمسكه الراوي من شحمة أذنه ، وجذبها بقوة ، حتى قالت : طق .

وحين قالت : طق ، صاح في وجهه : أرجوك فارقني .

 

الكل ينظف أسنانه الأمامية...

الكل يمضمض فمه ...

قبل آذان ظهر اليوم الخامس ، اشترت له أمه سلة من الخبز ، وطلبت منه أن يذهب بها إلى الضريح ، ليوزعها على الفقراء  ، فجدته أوصت ببيع بيتها،  وتوزيع ثمنه خبزا ، فقد يخفف عنها من عذاب القبر، وحين عاد للبيت ، وجد أمه تفتش جيوب أبيه.

 

الكل يريد نصيبه من الكعكع ...

الكل يطالب بسكين ليقطع نصيبه ...

في اليوم السادس ، قال له صديقه الطيب حميد:

(السبت كالأحد

  ليس لدينا ما نفعله )

وكانت فناجين الأصدقاء تبرد على طاولة المقهى ...

 

الكل أكل من طبق التفاح ...

الكل استحلى الكعكع ...

جدتي تحللت جثتها في القبر...

 الشيوخ يسعلون ...

 سلة الخبز ملأى بالخبز الحافي ...

جيوب الأب فارغة من الصرف ....

الممرضة تزدرد غصة الطبيب...

السبت كالأحد ...

الراوي مفقوس ...

الطفل والبنت يلعبان الغميضة ...

وحمار الأسبوع يمشي بإيقاع بطيء ، قد يصل وقد لا  يصل .

 

ــــــــــــ

 

 

صورة

عبد الله باعلي

صباح الخير... لم يكن أمسك سعيدا.. أعرف أن الأمر كان صعبا. بلاغة الصورة أخرست حاسة الدعابة لديك، فبقيت طيلة المساء واجما...

هل كان ضروريا أن تمر كل تلك الأيام، كي تبدو الصورة عارية. هل كان ضروريا أن تمر كل تلك الصور عبر ساحل العمر، كي تفهم حكمة صديقك القديم / كل شوق يسكن باللقاء لا يعول عليه.

هذه الصورة التي أمامك، الآن، تدعوك لسفر في الجهة الأخرى للزمن... أمامك باقة ورد، في يدك شمعة، و في القلب بضع شعر. تبدأ القصيدة بقتل الذاكرة...

كل الحكايات آثمة،

وجهك قبلتي الآثمة،

و الناس عيد،

و الناس سفر،

و الناس غبار.

وحدك تعصين الغياب،

عندما تنفض الذاكرة فراشها

آخر العمر.

كنت مستعدا لتقطيع أوصالك ذلك المساء، و أنت تلقي القصيدة... كنت مستعدا أن تذبح القبيلة، أمام عينيها. كنت تبحث عن كيمياء تحول أحزانك الثقيلة إلى أهرامات لا حارس لها، لتنفرد بغزل مرآة لا تعرف وجه الليل.

ثم ضاعت مرآتك، و انطفأت شمعتك، و انتحرت القصيدة أمام كل القبيلة... ضحك خوفو كثيرا، و لم تجد ما يسعف بكاءك، فركبت وجه القبيلة و اختفيت.

اليوم، وأنت تعبر شارع العاصمة الكبير، والمفجع، كان عليك أن تقرأ الصورة إياها مجددا. كان لزاما أن تدع كل النظريات جانبا. كان عليك أن تحتمي بمرآة تعرف ألوان الاستعارات البائدة... لكن المرآة هجرها الماء، و أكلتها عفونة الوقت ... والذاكرة أصابها الخجل، والقلب شاخ...

كانت عيناك جامدتان أمام المرأة السمراء البدينة...

هل كانت هذه المرأة بدينة...

هل كانت سمراء... هل كنت قارئا لهذه

الألوان قبلا...

هل كنت شاعرا من قبل.

 

ــــــــــــ

نيران المجنون

 

عبدا للطيف الزكري

كانت النيران الملتهبة تزداد استعارا ، والمجنون يغذيها بأعواد يابسة جديدة ، ويلقي فوقها الحشائش والأوراق . وكان هذا العمل يفرحه ويطربه ، فكلما اشتدت النيران التهابا ازدادت قهقهاته بصوت عال ، كان يجلس حول النار وحده . تتراقص ظلال النيران على وجهه المتسخ . رأيته فوقفت أتأمله ، كان يدهشني بلغته العربية الفصيحة التي يتكلمها وكأنه يلقي عن ظهر قلب خطبة سياسية ، عادة ما كان يدعو جمهورا شبحيا من حوله إلى التصويت على اسمه في الانتخابات ، ولم يكن ثمة جمهور ولا انتخابات ، لكنه هكذا كان يفعل . وكنت أسجل في دفتر مفكرتي بعض أقواله السياسية: ( خذوا حذركم فقد اختلط الحابل بالنابل ، وتمييز صالحكم أمر ضروري) .. ( خذوا حذركم صوتي يعمل على تحقيق طموحاتكم وأمانيكم) .. ( خذواحذركم لوني أسود ) وهكذا.. هكذا.. في جمل متتابعة مترادفة يلقيها كأنه يحفظها عن ظهر قلب . وكان مشهده وهو يخطب والنيران تلتهب يثيرفضولي ويدفعني إلى أن أمثل جمهوره المفترض...

ذات مرة شرع يخطب بصوت عال ، وهو يسب خصومه المتخيلين ، وكان هذا السباب مزيجا من الدارجة والفصيح.. لم أجرؤ على المكوث قبالته ، أسرعت الخطو وأنا أفكر في حقيقة أمره وسبب جنونه ، وكنت قد سمعت كثيرا من الناس يتداولون فيما بينهم قصة جنونه ، فمنهم من يقول بأن المخزن استولى على جميع أملاكه من الأراضي ليحولها إلى سد ، ومنهم من يقول إنه كان في أوروبا متزوجانصرانية وهي التي دفعته إلى الجنون ، ومنهم من يقول بأنه أفلس في تجارة كبيرة كان يديرها بمدينة فرنسية ، وقد كثرت هذه الأقوال وذاعت وشاعت بين الناس . لكن المجنون ظل مجنونا ولا أحد كان يسعفه .

أما اليوم في هذا النهار البارد ، أغرتني نيران المجنون بالاقتراب منها للتدفئ. رحب بي المجنون ( أهلا بك في فيلتي ) قال ، مددت يدي أسلم عليه فسلم كأي عاقل . بعد لحظات من ذلك شرع يتحدث إلي عن حاله وكيف يعيش في غنى باذخ ، يحيط به الخدم والحشم . طلب مني أن أحدد المشروب الذي أريد ليحضره خدمه ، قلت بصوت خفيض عصير برتقال ، صفق بيديه وخاطب الفراغ من حوله : ( عصير برتقال لصديقنا علي ) ، هكذا سماني . سعدت كثيرا لأن المجنون لا يزال على شئ من الأدب ، بقيت معه قليلا ولما تدفأت انصرفت وأنا جد مسرور .

ومرت أيام ، دون أن أرى للمجنون أثرا . غاب وترك فجوة في حياتي ، فقد كنت تعودت على الاستمتاع بمنظر النيران الملتهبة التي يشعلها . وذات مساء رأيته قد عاد لمكانه ونيرانه . ترددت في البدء أن أسأله عن سر غيابه ، لكني ساءلته بعد حين ، وكم كانت دهشتي كبيرة وهو يخبرني أنه ذهب لحمام مولاي يعقوب ، كي يغسل عنه أدرانه ، وحقا كان ، فقد بدا لي وسيما أنيقا حتى وهو في ثيابه الرثة . أصبح رأسه حليقا لا شعر فيه ، بدا أنيقا صامتا لا يقول شيئا ، فأثرته كيما يتكلم لكنه أصر على الصمت في هذا المساء .

ومضت الأيام والمجنون يلهب النيران وهو صامت ، إلى أن فاجأني ذات يوم وهو يلهج بكلام كثير فصيح متشعب ، لا رابطة بين أجزائه : ( الحمق . قالوا الحمق. نسوا أمهم الحمقاء. أنا برلماني. أمي معلمة. أبوهم باع البلدة. الثمار ناضجة . لم آكل منها . سقطت التفاحة على رأسي. سال دمي . كل دمائي مرهونة في البورصة . البطيخ . البطيخ . لا طعم له. ما آكله مر. سافرت إلى أوروبا. تركت رأسي متدحرجا هناك في الشوارع الفسيحة. أوروبا. أوروبا. لست أدري متى ينتهون من الفيزا . الفيزا . الفيزا . أكلت هذا الصباح بطيخا مرا . أين الموز؟ من سرقه من فيلتي ؟ الغيوم لا تمطر . السياسة . السياسة . تعب كلها الحياة. شربت من ماء البئر . تتدفق المياه عكرة . لا يوجد شئ صاف. النار. النار وبئس القرار . النمر عيناه محمرتان . يتدلى العنب من سقف السماء . نهبوا عرق جبيني . نهبوا كل شئ دمي وأطرافي . كل شئ يتبخر حتى الحديد . اللعنة على أمهم . سرقوا أبنائي . أنا وحدي..وحدي..وحدي . هذا العام سينتشر فيه الجوع . الجوع . متى تموء قطتي ؟ الموسيقى جميلة...) ظل يهذي هكذا دون أن ينتبه لوجودي . انصرفت دون أن أكلمه . رمقني وابتسم . تركته مبتسما . وفي سري كنت أتساءل : أين يقضي لياليه في هذا الشتاء الممطر البارد ؟ ظللت لمدة أمر من قرب مكانه دون أن أكلمه ، بيد أنه بادرني – في هذا اليوم الصحو الجميل – بالكلام ، نادني : ابراهيم ! .. ابراهيم ! .. التفت إليه وقلت له : كنت تناديني باسم علي ، هل نسيت ؟ ضحك مني بصوت عال وقال : - كل الأسماء تتشابه ، ما يختلف هو بني آدم . قلت له : - لا! كل اسم له ما يميزه من غيره .

- قلت لك الأسماء متشابهة ، انظر إلي أنا اسمي اسماعيل وأمي تناديني البشير وأنا أستجيب لها .

- هذا رأيك . أنا أرى أن اسم الشخص ينبغي ألا يتبدل. ما يتبدل هو الإنسان في أطوار عمره .

شرع يضحك مني ، وهو يقول أنت على حق . لم يشعل في هذا اليوم النيران . وكان حليق الوجه ، تبدو آثار الوسامة باقية فيه ، كأنما لا تريد أن تزول رغم معاناة صاحبها . قدمت له شيئا من الأكل ومنحته لباسا جديدا أنيقا . أخذ مني كل ذلك وهو يضحك بصوت عال ضحكات تهتز لها أركان المكان .   

ــــــــــــ

 

 

سعاد في المكتبة

 

علي الوكيلي

في التاسعة والنصف استظهرت آخر آية من سورة يس "فسبحن الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون"، فاغتبط فقيه الكتاب الذي هو أخي الأكبر، وكان يحفّظني القرآن في البيت أيضا، يعني أنه يضربني في كل مكان، وحين أرفض له طلبا من طلباته الجائرة، يأمرني بحماس شديد أمام أمي الساذجة: :"آرا داك المصحف اعرض علي من (الله الذي جعل لكم الانعم لتركبوا منها ومنها تاكلون) يالله!", وفي العاشرة سندخل نحن الفوج الثاني المغضوب عليه، نحن الذين سخط الله عليهم، فلا نغادر المدرسة سوى مع سقوط الظلام في الساعة السادسة والنصف.

    جريت إلى مدرسة "السكة" حيث ينتظرنا معلمنا الطيب السيد الأمراني، الذي يترك الدرس ويحكي لنا حكايات جميلة حين يحس ضيقنا بترديد" ثور، تمثال، محراث، ثا، ثو، ثي.. وحيث سنتوقف اليوم عن الترديد أخيرا ونقرأ نصا مسترسلا لأول مرة، فإني شديد الاغتباط. الآخرون لا يعرفون شيئا عن سعاد في المكتبة، أنا وحدي قرأت التلاوة كلها وفهمتها، لذلك فأنا الأول في القسم، أعرف ماذا قرأنا وماذا سنقرأ. حفظت إلى اليوم خمسة عشر حزبا فكيف لا أقرأ التلاوة بسهولة؟

    أفرح بهذه المسافة التي تفصلني عن الآخرين، وأفتخر أمام المعلم أن أكون ملجأه الأخير حين تصيب اللقوة كل التلاميذ، فيشير إلي أخيرا بعد أن ظل مدة طويلة يتجنبني. في كثير من الأحيان أفسد عليه الدرس، يريد أن يبنيه ببعض التشويق فأعطيه الجواب قبل السؤال، فيقول لي"أنت ياك قلت ليك ما تهضر حتى نعطيك الإذن!" لكن لا أستطيع أن أقمع الطاقة الكبيرة داخلي.

    اليوم فتحنا التلاوة عند الصفحة 37، فرأينا فتاة جميلة تكتب فوق قمطر عال، وقد اعتلت كرسيا صغيرا، أقرأ المعلم كثيرين فكانوا غير قادرين على القراءة وهم لم يتقنوا بعد حتى ثور، تمثال، محراث، فلم يجد بدا من الإشارة لي كي أقرأ، فقرأت بسرعة مذهلة، فأوقفني وطلب مني أن أتمهل، فكنت أتمهل السطور الأولى ثم أعود إلى السرعة المفرطة، تماما كما أحفظ وأستظهر القرآن، لا يفقه التلاميذ شيئا من سعاد في المكتبة، أما أنا، فقبل اليوم، حفظت سعاد في المكتبة والديك والثلج ويا إخوتي جاء المطر..

   نهرني المعلم ومنعني من القراءة، وحول الحصة إلى تدريب في همزة الوصل. لم يعجبني ذلك، حزنت ووضعت خدي بين يدي، مثل الطفل في درس الليل، حزنت، ربما كان عليهم أن ينقلوني إلى قسم الابتدائي الأول، هناك يمكنني أن أقرأ بالسرعة التي أرتاح لها. لاحظت ذلك سعاد، فوضعت القلم أمام المكلفة،وأخذت كتابها ثم جلست بجانبي وقالت"أنا سعاد السوسي، وأنت؟" قلت لها وأنا منفوخ الأحناك من الغضب:"أنا سعيد البرجاوي" ثم حكت لي عن قميصها الأحمر كيف اشترته لها أمها من السوق الداخل، وكيف منعها أبوها من لباس التنورة الأسكتلندية في البداية قبل أن يسمح لها بعد ذلك، وحكيت لها عن حينا القصديري وكيف نعترض قطرات المطر بالأواني التي تحدث في الليل موسيقى خاصة. ضحكت من ذلك واستأذنتني في التعرف على حينا الفقير، فخرجنا معا من المدرسة بعد أن أخذنا حصتنا من الخبز والشكلاط والحليب الموضوع في سلة كبيرة أمام باب المدرسة.

    - شحال عندكم ديال الدجوع فهاد الموطع؟

تعجبت سعاد من تخاطف أولاد البرج حفاة الأقدام نصف عراة الجسد، على قطع الكومير المتساوية، أزالت لبابة الخبز وألقت بها في الأرض، فاعترضتها قبل أن تتسخ بالتراب وأعدتها إلى المطحنة، قالت:"أنا ما ناكلشي البطعة" ووضعت في خبزها نصيبها من الشكلاط ثم مضت أمامي تتقافز بحدائها الجميل الذي لا مثيل له في برج مولاي عمر كله.

    ذهلت سعاد حين ملت عينها من القصدير الذي لا يحده بصر"والله ما عندكم حيط واحد دليادجور" وحين طرقت الباب خرجت أمي فوسعت عينيها ثم رحبت بسعاد:

- مرحبا ببنتي سعاد،والله ما تقول يلا ديك البنت للي فالتلاوة، راه سعيد قتلنا بالحفاظة، ما كاينش للي ما سمعوش كايحفظ سعاد في المكتبة سعاد في المكتبة، دخلي آبنتي، مرحبا ونهار كبير هذا.

   دخلت سعاد براكتنا وهي مرعوبة لا تصدق أنها ستخرج سليمة من هذا الاكتشاف غير المسبوق في حياتها، وانتظرت العشاء حتى تقطعت مصارينها، وحين جاءتها أمي بطبق استثنائي يوضع للضيوف فقط، انتفضت غاضبة ثم تراجعت إلى الخلف قائلة:

- والله ما نتعشى لكم الخبز وأتاي، حل ديك التلاوة نرجع فين كنت!

   أحسست بأصابع المعلم تأخذ شعيرات مقدمة رأسي ليقول لي وهو يبتسم:

- يالله اقرا سعاد في المكتبة ولكن غير بالشوية!

     

 

ــــــــــــ

 

شكـراً أبـي...

 

فتيحـة أعرور

أمي تصفني بالمدللة وترى بأنني حساسة بعض الشيء لأنني أبالغ في انزعاجي عندما يشتد مزاح إخوتي معي، جدتي تقف في صفي دوماً، تنهرهم كلما رأتهم قد التفوا حولي وأمعنوا في إغاظتي وهم يسترجعون سنوات الطفولة.

 يقول إخوتي إنني كنت أكولة إلى درجة مخيفة..

-                   يبالغون!

ترد جدتي

 يؤكدون كذلك أنني في طفولتي كنت متعجرفة ومغرورة وقد لا زمني شعور دائم بالاختلاف والتميز عنهم في كل شيء.. غير أن أكثر ما يضحكني الآن هو نوبات البكاء التي كنت أنخرط فيها كلما كان أشقائي الكبار، مجيد وحفيظة وحامد، يقسمون بأغلظ إيمانهم بأني لست أختهم ودليلهم في ذلك لون بشرتي الفاتح نسبياً!

-                   عفاريت سيدنا سليمان! أدْجات زيكونْ (اتروكوها وشأنها)..

تنهرهم جدتي

كانوا يحاولون إقناعي بأن "نانا" تبنتني بعدما عثرت علي قرب مقبرة قبيلة "آيت محفوظ" التي يتحدر منها والدي، يا للهول!.. الأنكى من ذلك أن أمي الحقيقية، حسب زعمهم، امرأة بكماء تدعى "ماركة" (رحمة الله عليها)، هذه التي كان كل أطفال القرية يرتعدون خوفاً كلما رأوها، كانوا يمعنون في إثارة غضبي حين يرددون على مسمعي أن "باكة"، وهذا هو لقبها بعد تصغيره، قد أنجبتني وتركتني قطعة لحم طرية وسط نبتة "الدوم"!..

إلهي كم كان مجرد تخيل ذلك أمراً مروعاً!

 أذكر كيف كنت أصيح بكل ما أوتيت من قوة بأنهم كاذبون وأن أمي هي "يامنة غايت" ووالدي هو "محمد بنعمر أعرور"، وأن جدي هو  "الحاج بنعمر"  وجدتي هي "الحاجة محجوبة"!.

- موتوا بالسم.. يا اللاَّه !.

كاد مزاحهم يسبب لي عقدة نفسية لو لم يتأكد لي أنهم يفعلون ذلك فقط لأجل المتعة الطفولية التي يجدونها.

 حدث ذات مرة أن سمعت جدتي تحدث إحدى قريباتها التي جاءت من قرية "عين السبيت"، وهي إحدى قرى منطقة "زعير" القريبة من قرية "الريستو" بناحية آيت بومكسى تيداس، حيث ولدت ونشأت، كانت تحكي لها قصة ولادتي بأسلوب ملحمي، وكأن الأمر يتعلق بمعجزة أو مأثرة من المآثر التي تفخر بها!.

جدتي تضخم مثل عادتها في سرد القصص، تمزج الواقع بشيء من الخيال على نحو لا يخلو من مبالغة كانت تحكي لها بعربية تميزها لكنة "زعرية"، فهي لم تنس لهجة أهل والدتها قط رغم إجادتها للأمازيغية، تتحدث العربية بشكل جيد كلما جاء أحد أقاربها لزيارتها:    

-  ما كانتش  آكْبيدتي  عتولد كاع! كون آخيتي ما دوك جوج كينات، جوج كينات صافي.. شربتهم وبعد شهر حملت !.

 تواصل "نانا" حديثها بنبرة من يرجع إليه القرار الأول والأخير في كل كبيرة وصغيرة، بما في ذلك تحديد أو زيادة نسل الأسرة! لقد كانت كذلك حقاً.. لا أحد يجرؤ على مخالفتها، والدتي تحملت حدة طباعها من أجلنا، هي التي اضطرت بعد وفاة والديها إلى العودة رفقة إخوتها من مدينة وزان (شمال المغرب) من أجل الإقامة مع أهلها، بعدها بقليل تزوجت بوالدي، أكثر شيء شده إليها صبرها وطول بالها:

-                   ما من امرأة كانت لتتحمل مثلها، لقد وهبها الله صبر أيوب!.

يقول والدي

تحكي "نانا" بأن والدتي عجزت عن الإنجاب لمدة تفوق ست سنوات بعد مجيء شقيقتي وشقيقي، ومع أنها رغبت في الاكتفاء بطفليها هذين، وبربيبها اليتيم الأم الذي تولت تربيته وعاملته دوماً كما لو كان من صلبها، فقد وجدت نفسها غير قادرة على الوقوف ضد رغبة جدتي التي طالما تمنت أن تحظى بالكثير من الأحفاد والحفيدات على وجه الخصوص!.

 لم تترك "نانا" فقيها ولا ولياً صالحاً إلا واصطحبت إليه أمي مستجيرة به كي تشفى كنتها من هذا "العقم" الذي كاد يحرمها من بيت عامر بالأطفال.. ولأن زيارة الأولياء الصالحين لم تأت بنتيجة تذكر بسبب "قلة نية أمي"، كما تصر على ذلك جدتي، فقد قررت البحث عن طبيب متمكن يكون أخصائياً في أمراض النساء والولادة!

سافرت "أمي" ذات يوم برفقة "نانا" إلى الرباط من أجل زيارة طبيب مغربي يهودي مختص في علاج أمراض النساء والولادة، كان صيته قد بلغ قريتنا الأطلسية النائية، بعد فحص دقيق لحالتها وصف لها العلاج:

- علبة دواء من حبتين، حبتين فقط كانتا كافيتان ليتأكد حملها! أنجبت بعدها فتيحة التي نسميها "بنت الكينة" ثم جاءت بعدها سعيدة ومنة ونزهة، سبحان الله كل هذا بفضل حبتي دواء!

سمعت هذه الحكاية عشرات المرات، ومازلت أسمعها من جدتي (أطال الله في عمرها) ، مع فارق طفيف في نبرة الحكي وبعض التفاصيل الصغيرة التي أصبحت تفوتها  بسبب تقدمها في السن.

 "نانا" امرأة في منتصف التسعين، ما تزال تحب الحياة بالطريقة والنهم ذاته، مع أنها تبدو  اليوم كجندي متقاعد يعلق الكثير من النياشين والأوسمة التي غدت بلا قيمة تذكر.. جندي يشده الحنين إلى ماضيه المجيد بعدما ذهبت كل سلطاته بفعل الزمن الذي لم يعد كما كان!.

ماتزال تعاملني كما لو كنت طفلتها المدللة تلك التي كان ميلادها أشبه بمعجزة! لقد تكفلت بتربيتي منذ ولادتي، كنت بالنسبة إليها بمثابة ابنة أنجبتها.

 كنا نعيش في أسرة تتكون من عدد كبير من الأفراد، وكانت "نانا" هي عصب الحياة فيها، كنت أشعر أن عالمي وإياها مختلف، أذكر عندما كنت أرافقها إلى حفلات الزفاف في قريتنا كيف كانت تُثقلني بحليها الذهبية على نحو لا يناسب سني، ذلك كان يغضب أمي وأبي لكنهما لم يجرؤا يوماً على مواجهتها بالأمر.

ظل عالم جدتي عالمي الوحيد الذي أعرفه أكثر من غيره قبل أن أكتشف سحر الحكاية مع والدي، فبعد بلوغي السابعة بدأت أنفلت شيئاً فشيئاً من ربقة تملكها وحبها الشديد لي، أصبحت أقترب من عالم آخر مختلف هو عالم أبي، عالم أكثر حرية وانطلاقاً.. وجدته مدهشاً حقاً!

اعتاد أبي مع حلول كل مساء، وبعد إنهاء واجباتنا المدرسية، أن يحيطنا به ليحكي لنا حكاية من حكاياته الأمازيغية الرائعة قبل أن يداهم الكرى جفوننا المتعبة ثم يأخذنا إلى فراش النوم.. "نانا" لم تستلطف ذلك في البداية، خيل إليها أنها أصبحت عديمة الفائدة، لذلك حاولت أن تستأثر باهتمامنا بسرد قصصها هي أيضاً، لكنها لم تفلح في استقطابنا البتة، لم تتمكن من مضاهاة والدي في سبر أغوار الحكاية.

أشعر بأنني مدينة لأبي بعشقي للمحكي، بحبي للحياة، بجنوني الطفولي، بكبريائي وحساسيتي الزائدة أحياناً، برومانسيتي وأفكاري الحالمة.. بإصراري وحزمي، بصلابتي عند الضرورة..

 أشعر  بأنني مدينة بكل شيء لهذا الرجل العصامي البسيط، هذا الرجل الذي عرف القراءة والكتابة صدفة مع أنه لم يحظ مثل أشقائه الذين يصغرونه سناً بفرصة التعلم، رجل آمن بضرورة تمدرس بناته وإكمال تعليمهن في وسط قروي لا تتوفر فيه أدنى شروط تعلم الفتيان بالأحرى تعليم الفتيات!

 رجل رفض دوماً فكرة الزواج المبكر لأنه برأيه عائق يحول دون تحقيق الفتاة للنجاح الذي تستحقه.

 لم يكن أبي يساري الميول، لم يناصر يوماً مبادئ "لنيـن" أو "تشي غيفارا"، لم يكن ماوياً أو ماركسياً أو تروتسكياً.. هو رجل أمازيغي بسيط ولد ونشأ في أحضان جبال الأطلس المتوسط، علمته الحياة أن يحلم ويسعى جاهداً إلى تحقيق أحلامه حتى وإن بدا ذلك في الوهلة الأولى ضرباً من ضروب العبث..

 مرت السنوات ولم تذهب أمانيه سدى، فقد واصل أبناءه تعليمهم الجامعي والتحقوا بوظائفهم، ومنهم من يتابع دراسته العليا بالخارج، منهم أيضاً من تواطأ معه في عشق الحكاية وسبر أغوارها حتى وإن كان ذلك بأسلوب غير أسلوبه، وبلغة غير الأمازيغية التي تعود أن يسرد بها حكاياته المدهشة، كل هذا بفضل حب وصبر وإصرار رجل بسيط اسمه محمد بنعمر أعرور.. لولاه ما كنت الطفلة التي كنتها، والمرأة التي هي أنا الآن.

 

ــــــــــــ

 

أقاصيص عينية

 

 مبارك حسني

 

نوع من البلادة

نظرت إلي. نظرت إليها. ولما تناظرنا في رأت ما لا يرى. رأت الآخر الذي كنته. رجلا ليس إلا، واله أغراه جمالها حد الدهشة فصارت نظراته بليدة..لم يستطع معها سد فمه الفاغر البليد أيضا.

 

----------

 

حجاب ربما

في ذاك المكان رأيتها. ورأتني في المكان. لكن لم يرانا المكان. فأين تحققت الرؤية؟

في المسافة ربما، التي كانت لا بعيدة و لا قريبة. كانت  المسافة في شاطئ ضاج وكان تموج  أجساد سابحات نحيلات عاريات، و ضوضاء الأحاديث والجري لا تنفك تحجب عيني، ذاك ما قلت أنا. وأنا كنت إحداهن لكني كنت صامتة فقد لحظتك، ذاك ما قالت هي.

كنا هناك لا محالة والمسافة الممتلئة ضمت عينانا.

----------

 

لنقل أنها حيلة

رأتني أرنو نحو الخارج، محدقا في الواجهة العريضة. التفتت و رأت في الجهة التي كنت أحدق فيها. رأت فتاة بتنورة وردية قصيرة تعلو ساقين بيضاوين و بضتين. الحق أني زممت فمي لكي لا يمتد لساني و يخرج مني الكلب القابع داخلي..

ـ  ألا تخجل يا هذا ؟ أنا برفقتك و تنظر إلى الأخريات..

ـألم تقولي أنك تحرجين لما أمسك يدك؟..لما أقبل صدغك القريب مني ؟

ـ نعم و لكن...ردت و قد ارتبك عقلها.

ـ فدعيني أتلذذ عطرك جسدك..و أراك..

ـ آه ما أخبثك..  ابتسمت و إصبعها يهددني!!

 

----------

 

ما همني

لا تنظري إلي يا فاتنة الحان البنفسجي الظلال.

ما همني أن تكون لك غابة داكنة من الشعر الأسود البراق المتهدل حد الخصر، أو ساقان مرمريتان لا تنتهيان. ما همني أن يكون لك فم جد مضمخ بحمرة الإغراء يريقان الماء من الشفاه العطشى. ما همني أن يتحدى نهداك الواقفان العالم كإعلان فاضح للدخول في حمى اللذة الوحيدة. ما همني أن لا تكفي عن رفع التنورة القصيرة و تمسيدها. ما همني.

ما همني إن كنت لا أقدر على استقدامك إلى فراشي.

 

----------

 

تقريبا ذكرى

أعرفها حتما المرأة التي تقف هناك أمامي في محطة الباص. كانت جوار رجل لا أعرفه.

ربما كانت زميلتي التي داعبت وسط العشب البري الطويل النابت خلف أقسام العلوم في ثانويتنا. هي في الغالب وإلا كيف تذكرت الحادث اللذيذ هذا. لن أنساه لأن بعض الشوك كان ينغرز في ظهرها و لم أكن أبالي فقد ظننتي السبب في صراخها. هل أنسى الذبيب الذي غزانا معا يومها؟.

 لمحت بصري الملح و تلخبطت. الرجل أيضا لاحظ. شك في فقطب حاجبيه و نفخ أوداجه و استعد لقطع الطريق وتدمير وجهي. لكن سرعان ما تشاغلت بتأمل ملصق سينما فوقهما و قراءة لوحات العناوين العالقة بطبقات العمارة التي تطل على المحطة. من حسن حظي وصل الباص. صاحت فيه فالتفت و هرعا معا نحو الباب المنفتح. لكنها قبل أن تصعد بلغتني رسالة. عند الدرج لمحتني بنصف عين و راحت تحك ظهرها كما لوتسللتت حشرة ما إليها. وتسمر نظري فقد اشتعلت في الرغبة القديمة.