ص1       الفهرس  81-90

دائرة الخيال في مصر ابن بطوطة

 

      عبد النبي ذاكر

       تقديم :

معلوم أن شيخ الرحالين شمس الدين أبا عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي الشهير بابن بطوطة قد سافر إلى شتى أصقاع المعمور، وصور بدقة متناهية ما عرض له من صور المغايرة والتشاكل إلى حد أن بصيرته لم تعد محط جدل في الدراسات والبحوث الحديثة، غير أننا لن نقارب نص ابن بطوطة ـ مهما كان نصيب تدخل ابن جزي فيه ـ من زاوية الصدق والكذب، فهذا لا يدخل في اهتمامات الدراسة الأدبية للصور (Imagologie)، وإنما سنحاول ـ في إطار رصدنا للمتخيل والمحتمل في الرحلات العربية والغربية [1]ـ متابعة مشروعنا الذي يعتبر الرحلة أدبا أولا وقبل كل شيء. من هنا يأتي تساؤلنا عن دائرة الخيال في رحلة ابن بطوطة إلى مصر تحديدا. ووََكْدُنا في هذا التساؤل الالتفات إلى ملمح لم يحظ ـ في حدود علمنا[2] ـ بما يستحق من جهد ودراسة تسْبر طاقة الخيال في استقصاءات ابن بطوطة ـ عبر القص والتخييل ـ لعوالم مدهشة وعجيبة وغريبة لها صلة بفضاءات مصر في تنوعها وجِدَّتها. بمعنى أننا سنبئر بَسطتنا حول استراتيجيات ابن بطوطة في تذويب الحدود التي تفصل الممكن عن المحال، جاعلة هذا الأخير ممكنا في توهُّم المتلقي وذهنه. وهنا نطرح السؤال كيف تأتى لابن بطوطة رتق الهوة بين الواقعي والمتخيل، الممكن والمحال، ما يمكن قبول وقوعه في الأعيان وما لا يمكن قبول وقوعه؟ لعل الجواب في تصورنا يكمن في تبني ابن بطوطة لاستراتيجيات معينة في سرده للواقع والوقائع، معتمدا في ذلك على آليات للقص، تتجاوز حدود المتوقع لتسافر بمتلقيها إلى نهايات التخييل وأقاصيه. وسنميط النقاب عن بعض تلك الاستراتيجيات السردية، نظرا لخصوبة نص الرحلة وعجائبه التي لا تنقضي بحكم مراوحته الفريدة بين متعة القص ولذة التخييل       :

  1 ـ بناء النص الرحلي وسلطة بنية الكرامة :  فقد كان ابن بطوطة مفتونا بالحكي عن الغريب والعجيب والمدهش والمتحِف، وهذا ما يتجلى للعيان منذ ميثاقه العنواني الدال : "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، غير أن ما يشد الانتباه أكثر إلى بنائه السردي هو قدرته الفائقة على لف فتنة الغرابة في إيهاب المقدس، مما يكسب خطابه مُسوح الصِّدقية (véridicité) والمصداقية، على الأقل بالنسبة لمتلقٍّ وَسيطي يصعب خَطْب وُدِّه دون مشاركته الوجدانية ومراودة آفاق انتظاراته الثقافية. من هنا جاء هذا التحويل لانتباهات القارئ من فتنة الحكي إلى أحابيل الكرامة؛ أي من لحظة الغريب والمدهش والمُبهِر والمشاركة الوجودية إلى زمن المهيب والمقدس والاعتبار والمشاركة الوجدانية. وفي هذا الإطار يمكن فهم إصراره على رصد فضاءات معينة بمصر، بكل حمولتها الدينية وهالتها القدسية، كـ"المزارات الشريفة"[3] و"الرباطات" و"المدارس" و"المشاهد" و"المساجد" و"الزوايا" و"قبور العلماء والصالحين[4]. ولذلك تراه وجد ضالته مثلا في(القرافة) التي تحوي قبور العلماء والصالحين والزوايا والمزارات والمدارس والرباطات وقبور الصحابة وصدور السلف والخلف ومشاهير الفقهاء والعبّاد والعلماء والأئمة، فوصفها بـ"العظيمة الشأن في التبرك بها"[5]. وتشمل القداسة الأموات والأحياء والجمادات. فمن قداسة الجمادات حكاية مَنْبر الملك الناصر الذي لما وصل المركب الذي احتمله في النيل إلى مدينة منفلوط وحاذى مسجدها الجامع امتنع من الجري  مع مساعدة الريح، فعدل السلطان عن نقله إلى مكة وأمر أن يجعل بجامع مدينة منفلوط[6]. ومن قداسة الأموات زيارة قبور أصحاب "البراهين العجيبة والكرامات الشهيرة[7]. أما قداسة الأحياء، فتتجلى في ذكر أصحاب الأحوال والكرامات كالشيخ الصالح أبي عبد الله المرشدي الذي هو من كبار"الأولياء المكاشفين" منقطع بمُنْية ابن مُرشد، يقصده الملك الناصر نفسه، وهو يطعم طوائف الناس"وكل واحد منهم ينوي أن يأكل عنده طعاما أو فاكهة أو حلواء فيأتي لكل واحد بما نواه (...) ويأتيه الفقهاء لطلب الخطط فيولي ويعزل"[8].

وفي هذا السياق يمكن سَلك قصة لِحية الشيخ جمال الدين الساوي الذي راودته امرأة عن نفسه فحلق لحيته وحاجبيه، فاستقبحت هيئته وعصمه الله بذلك[9]. ومن كرامته أن القاضي ابن العميد اتهمه بالابتداع في حلق لحيته فـ"زعق الشيخ ثم رفع رأسه فإذا هو ذو لحية سوداء عظيمة، فعجب القاضي ومن معه ونزل إليه عن بغلته، ثم زعق ثانية فإذا هو ذو لحية بيضاء،  ثم زعق ثالثة ورفع رأسه فإذا هو بلا لحية كهيئته الأولى، فقبّل القاضي يده وتَلمذ له وبنى له زاوية حسنة، وصحبه أيام حياته. ثم مات الشيخ فدفن بباب الزاوية حتى يكون كل داخل إلى زيارة الشيخ يطأ قبره"[10]جَرّاء جهله ومروره بدابته بين القبور[11]. ويكاد ابن بطوطة ـ لجهله بسلطة الأولياء أو على الأقل ركوبه بين الفينة والأخرى غواية التخفف منها استجابة لداعي هواه في التنقل والتجوال- أن يقع في المحذور. فقد أنبأه الشريف أبو محمد عبد الله الحسني، وهو من "كبار الصالحين" بمدينة (هُو) بساحل النيل، أنه سيحج أول حجة له على الدرب الشامي،  لكن ابن بطوطة أمضى عزمه على المخالفة : "فانصرفت عنه ولم أعمل على كلامه ومضيت في طريقي حتى وصلت إلى عيذاب، فلم يتمكن لي السفر، فعدت راجعا إلى مصر ثم إلى الشام، وكان طريقي في أول حجاتي على الدرب الشامي حسبما أخبرني الشريف نفع الله به"[12]. هكذا تأتي الكرامة لتغمس خطاب ابن بطوطة وسفره في بوثقة المقدس. صحيح أن عقاب ابن بطوطة لم  يكن قاسيا، لكنه درس قاسٍ لكل متلقٍّ تسول له نفسه التشكيك في أسفار ابن بطوطة التي ترعاها الكرامة وتتكفل بتحققاتها في الزمان والمكان. وفي هذا السياق يمكن إدراج مكاشفة أبي عبد الله المرشدي لابن بطوطة برؤياه حين نام بسطح زاوية هذا الشيخ، حيث رأى في منامه كأنه على جناح طائر عظيم يطير به في سمت القبلة يتيامن، ثم يشرق ثم يذهب ناحية الجنوب، ثم يبعد في الطيران ناحية الشرق وينزل في أرض مظلمة خضراء ويتركه هناك : "وقلت في نفسي : إن كاشفني الشيخ برؤياي فهو كما يحكى عنه (...) فلما غدوت لصلاة الصبح (...) دعاني وكاشفني برؤياي (...)، فقال سوف تحج وتزور النبي (ص) وتجول بلاد اليمن والعراق وبلاد الترك. وتبقى بها مدة طويلة، وستلقى بها دُلْشاد الهندي ويخلصك من شدة تقع فيها [13]هكذا يتخلص ابن بطوطة من غواية التشكيك ـ"إن كاشفني الشيخ برؤياي فهو كما يحكى عنه" ـ ليحمل متلقيه، الذي يمكن أن يتسرب إليه الارتياب في المحكي الرحلي، على الإخلاص الخالص، والتسليم التام بأقاويل تنتزع لنفسها هيبة القداسة ورهبتها.

2- دائرة الحس وشعْرَنة الخطاب : حين تتسع دائرة الحس، ويبلغ الانبهار مداه، يلوذ الخطاب بشعرية اليد الأولى (يد أو لسان ابن بطوطة) أو يد ثانية (يد ابن جزي أو غيره من الأدباء) مشهود لها بالبراعة في البيان، لتوسيع دائرة الخيال الذي أضحى أعجز وأضيق من أن يحوي الفضاء. وهذا ما نتبينه مثلا من خلال وصف ابن بطوطة للقاهرة، حيث يقول : ثم وصلت إلى مدينة مصر هي أم البلاد، وقرارة فرعون ذي الأوتاد، ذات الأقاليم العريضة، والبلاد الأريضة، المتناهية في كثرة العمارة، المتناهية بالحسن والنضارة، مجمع الوارد والصادر، ومحط رحل الضعيف والقادر. وبها ما شئت من عالم وجاهل وجاد وهازل، وحليم وسفيه، ووضيع ونبيه، وشريف ومشروف، ومنكر ومعروف. تموج موج البحر بسكانها، وتكاد تضيق بهم، على سعة مكانها وإمكانها، شبابها يجد على طول العهد، وكوكب تعديلها لا يبرح منزل السعد، قهرت قاهرتها الأمم، وتملكت ملوكها نواصي العرب والعجم، ولها خصوصية النيل التي جل خطرها، وأغناها عن أن يستمد القَطر قُطرها، وأرضها مسيرة شهر لمجد السير، كريمة التربة، مؤنسة لذوي الغربة.

قال ابن جزي : وفيها يقول الشاعر :

لعمرك ما مصرٌ بمصرٍ وإنما
فأولادها الولدان والحور عينها

 

هي الجنة الدنيا لمن يتبصر
وروضتها الفردوس، والنيل كوثر

      وفيها يقول ناصر الدين بن ناهض :

شاطئ مصرٍ جنة

 

ما مثلها من بلد[14]

وأهل مصر ذوو طرب وسرور ولهو، شاهدت بها مرة فرجة بسبب بُرء الملك الناصر من كسر أصاب يده فزين كل أهل سوق سوقهم وعلقوا بحوانيتهم الحلل والحلي وثياب الحرير وبقوا على ذلك أياما.[15] وابتهاج ابن بطوطة الكبير بهذا الفضاء القاهري الذي قهر المخيال بفردوسيته ونهره الجنائني، هو الذي حمله على توسيع دائرة الخيال موغلا بها في أقاصي تخوم الشعر.

3- دائرة المعنى القدسي ودائرة الحس : مهما اتسعت دائرة المحسوس من الفضاءات، تأتي دائرة المعنى القدسي لتفجر نواتها وتلقحها بتمثلات دينية تفتحها أكثر على تخييلات تهاجر بالمتلقي إلى أقاصي الثيولوجيا. وأحسن مثال على ما ذكرنا وصف ابن بطوطة لنيل مصر : "ونيل مصر يفضل أنهار الأرض عذوبة مذاق واتساع قطر وعظم منفعة، والمدن والقرى بضفتيه منتظمة ليس في المعمور مثلها ولا يعلم نهر يزدرع عليه ما يزدرع على النيل، وليس في الأرض نهر يسمى بحرا غيره قال الله تعالى : "فإذا خفت عليه فألقيه في اليم" فسماه يَمّاً وهو البحر.

وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصل ليلة الإسراء إلى سدرة المنتهى فإذا في أصلها أربعة أنهار : نهران ظاهران ونهران باطنان فسأل [ ص207 ]عنها جبريل عليه السلام، فقال : أما الباطنان ففي الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات.

وفي الحديث أيضا أن النيل والفرات وسيحان وجيحان كل من أنهار الجنة. ومجرى النيل من الجنوب إلى الشمال خلافا لجميع الأنهار. ومن عجائبه أن ابتداء زيادته في شدة الحر عند نقص الأنهار وجفوفها، وابتداء نقصه حين زيادة الأنهر وفيضها[16].

لتوسيع دائرة التخييل المتصلة بهذا النهر العظيم بكبره، المجيد بمنبعه، الغريب بمجراه، العجيب بزمن زيادته، تم المتح من المدونة الحديثية والنص القرآني. ولا شك أن الاسترفاد من الكتاب والسنة فيه توسيع لدائرة المعنى وتفتيق لأنوية القداسة، ودعم للشهادة بالإشهاد[17] أو التصوير بالإخبار.

4- تنسيب الصورة باعتباره استراتيجية لتوسيع دائرة الخيال : لقد تبنى ابن بطوطة استراتيجية أخرى لتوسيع دائرة الخيال تغطيةً لمتناقضاتِ دائرةِ الحس التي قد تحمل الرحالين على نقل صورة مبتسرة متسرعة عن عالم فيه ـ بخيره وشَرِّه ـ من التنوع والخصوبة ما يندُّ عن الحصر. وتتجلى هذه الاستراتيجية في نهج أسلوب التنسيب كما هو مبين من خلال المثال الآتي : "بالجملة فمصر أمُّ البلاد شرقا وغربا لا تستغرب شيئا مما يحكى عنها من خير أو شر، ومصداق ذلك ما حدثني به بعض أصحابنا من التجار في سنة أربع وستين، قال : دخلنا مصر في حدود الخمسين سكنْتُ في بعض الوكائل، وكان من قدر الله أن اجتمعنا في محل واحد جماعة، منا فلان وفلان تجار وفلان طالب علم وفلان ممن يميل لطريق الفقر، وفلان من أهل المجون، وذكر كلاّ بأسمائهم قال : فإذا أصبحنا تفرقنا كل يغدو لحاجته، فإذا جن الليل جمعَنا المنزل، فنتحدث بما رأينا، فيقول التاجر ما رأينا مثل هذا البلد في التجارة، فأهلها كلهم تجار، ويحكي من حكاية ما شاهد، ويقول الفقيه مثل ذلك، والفقير مثل ذلك، وذو المجون مثل ذلك. وما ذاك إلا لكثرة أجناس الناس فيها، فمن طلب جنسا وجد منه فوق ما يظن، فيظن أن غالب أهل البلد كذلك. وبالجملة، فأهلها لهم عقول راجحة وذكاء زائد. فمن استعملها في الخير، فاق فيه غيره، ومن استعملها في غيره فكذلك. ذكر ابن خلدون في كتابه "كتاب منتهى العبر" أن بعض ملوك المغرب سأل بعض العلماء ممن حج عن مصر. فقال له : أقول لك فيها قولا وأختصر : من المعلوم أن دائرة الخيال أوسع من دائرة الحسّ:  فغالب ما يتخيله الإنسان قبل رؤيته إذا رآه وجده دون ما يتخيل، ومصر بخلاف ذلك، كل ما تخيلتَ فيها، فإذا دخلتها وجدتها أكثر من ذلك. وسئل آخر عنها فقال : كأن الناس فيها قد حشروا إلى المحشر، لا ترى أحدا يسأل عن أحد، كل واحد ساعٍ فيما يرى فيه خلاص نفسه. وقد أخبرني شيخنا سيدي أبو مهدي عيسى الثعالبي أيام كنت أتردد معه إلى مجلس شيخنا شهاب الدين الخفاجي، فقال لي : من لدن دخلت هذه المدينة ما رأيت أحدا يمشي في أزقتها وأسواقها على مهل وسكينة وتؤدة، بل كل من تلقاه تراه مشمِّرا جادا في سيره إن كان راكبا  فراكبا وإن كان ماشيا فكذلك. فتأملت ما ذكر لي فوجدته صادقا. وسبب ذلك والله أعلم أمران : أحدهما الرغبة والحرص المستكن في القلب، فيحمل الإنسان أن لا يفوته شيء من أغراضه وهو يظن أنه لو توانى في مشيه لفاتَه غرض مع كثرة الأغراض وتزاحم الأشغال، والآخر كثرة الزحام في الأسواق، فكل سوق دخلته تقول هذا أكثرها زحاما، فإذا خرجت منه لآخر وجدته مثله أو أشد. وقد شاهدنا الناس في بعض الأسواق تارة يقفون هنيهة لا يقدر أحد أن يتحرك يمينا ولا شمالا  من غير أن يكون هناك حاصر لهم من أمام إلا الزحام. وربما رفع بعضهم صوته بالتكبير، فيكبرون حتى يظهر لهم بعض تحرك فيندفعون مثل السيل إذا اجتمع في مكان ضيق فيدفع بعضه بعضا حتى ينفجر من جهة"[18].

 ولبنْيَنة هذا التنسيب، عمل ابن بطوطة على دعم الدراية بالرواية. وفي ذلك توسيع لدائرة الخيال، استجابة لاتساع دائرة الحس.

5- الخارق وتوسيع دائرة المعنى : يأتي الخارق في رحلة ابن بطوطة كإستراتيجية إغرابية لتوسيع دائرة المعنى؛ من ذلك تصويره البديع لإمام أئمة علم اللسان في عصره قاضي الإسكندرية عماد الدين الكِندي، الذي"كان يعتم بعمامة خرقت المعتاد للعمائم، لم أر في مشارق الأرض ومغاربها عمامة أعظم منها. رأيته يوما قاعدا في صدر محراب وقد كادت عمامته أن تملأ المحراب[19]  فكل ما خرج عن الحد المعروف وزاد كثيرا ـ أو قليلا ـ عن القدر المألوف، يتم به توسع دائرة المعنى الغريب والعجيب والخارق للمعتاد.

6- أَسْطَرة الفضاء بتوسيع دائرة الخيال : حين يقصر العيان، ويعجز البيان، ويضيق الوصف، ويعز الخبر الثابت عن أداء المعنى الواسع القمين بأعجوبة من العجائب، تنهض الأسْطرة بتوسيع دائرة الخيال. ولا مهرب من الأسطرة لعين بصيرة وخيال مُقَصِّر يتقزم أمام إحدى عجائب الدنيا بأسرها. ويتعلق الأمر هنا بوصف ابن بطوطة لأهرام وبرابي مصر : "وهي من العجائب المذكورة على مر الدهور، وللناس فيها كلام كثير وخوض في شأنها، وأولية بنائها ويزعمون أن جميع العلوم التي ظهرت قبل الطوفان أخذت عن هرمس الأول الساكن بصعيد مصر الأعلى، ويسمى خنوخ وهو إدريس عليه السلام وأنه أول من تكلم في الحركات الفلكية والجواهر العلوية وأول من بنى الهياكل ومجد الله تعالى فيها وأنه أنذر الناس بالطوفان وخاف ذهاب العلم ودروس الصنائع فبنى الأهرام والبرابي وصور فيها جميع الصنائع والآلات ورسم العلوم فيها لتبقى مخلد (...)

والأهرام بناء بالحجر الصلد المنحوت متناهي السمو مستدير متسع السفل ضيق الأعلى كالشكل المخروط، ولا أبواب لها ولا تُعلم كيفية بنائها.

ومما يذكر في شأنها أن ملكا من ملوك مصر قبل الطوفان رأى رؤيا هالته وأوجبت عنده أنه بنى تلك الأهرام بالجانب الغربي من النيل لتكون مستودعا للعلوم ولجثث الملوك، وأنه سأل المنجمين : هل يفتح منها موضع؟ فأخبروه أنها تفتح من الجانب الشمالي، وعينوا له الموضع الذي تفتح منه، ومبلغ إنفاقه في فتحه، فأمر أن يجعل بذلك الموضع من المال قدر ما أخبروه أنه ينفق في فتحه، واشتد في البناء فأتمه في ستين سنة، وكتب عليها :  بنينا هذه الأهرام في ستين سنة فليهدمها من يريد ذلك في ستمائة سنة، فإن الهدم أيسر من البناء. فلما أفضت الخلافة إلى أمير المؤمنين المامون أراد هدمها فأشار عليه بعض مشايخ مصر أن لا يفعل، فلج في ذلك وأمر أن تفتح من الجانب الشمالي فكانوا يوقدون عليها النار، ثم يرشونها بالخل ويرمونها بالمنجنيق حتى فتحت الثلمة التي بها إلى اليوم ووجدوا بإزاء النقب مالاً أمر أمير المؤمنين بوزنه فحصر ما أنفق في النقب فوجدها سواء فطال عجبه من ذلك ووجدوا عرض الحائط عشرين ذراعا[20].

كسابقيه[21]، لجأ رحالتنا في وصفها وتوسيع دائرة الغرابة إلى إنعاش متخيَّله بجرعة من الأقاويل المزعومة والأخبار الشائعة وما تواتر عن المؤرخين، حتى يصير العجيب أعجوبة بالفعل.

استنتاجات وآفاق :

      نتبين مما سبق أن ابن بطوطة كان بارعا في تأسيس سرده على اختيارات إستراتيجية واضحة منذ عتبة العنوان؛ وعليه بات"الإتحاف" و"التعجيب" و"الإغراب" أهم العناصر المبنْيِنة لنص لا جدال في أدبيته ونسجه سَدى المتعة بلُحمة الإفادة. ولعل هذا ما جعلنا نميط النقاب عن مَكْر تلك الإفادات من خلال الكشف عن بناء النص الرحلي وطاقته التخييلية المدهِشة. لقد استطاع هذا النص الفاتن بتنويعاته السردية واستقصاءاته لدائرة الخيال أن يوسِّع من دائرة الحس ويستنفد مداها عبر تأسيس مشاهداته على بنية الكرامة وشَعْرَنة الخطاب وتمثلات المعنى القدسي وتنسيب الصورة المغايرة وإغرابية الخارق وأَسْطَرة الفضاءات المغايرة؛ كل ذلك، من أجل ضمان المشاركة الوجدانية والوجودية على حد سواء. وفي هذا توسيع لدائرة الإقناع التي تنقل المتلقي من لحظة الدهشة إلى ملكوت العبرة.

 



[1]- يدخل الاهتمام بالمتخيل والمحتمل في أدب الرحلة ضمن مشروع حاولنا بلورة معالمه منذ ما يربو عن عقد ونصف. وأهم ما ألّفناه في هذا الباب :

ـ ذاكر، عبد النبي:  الواقعي والمتخيل في الرحلة الأوروبية إلى المغرب، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير، مطبعة منشورات كوثر ـ الدار البيضاء 1997.

- المحتمل في الرحلة العربية إلى أوروبا وأمريكا والاتحاد السوفياتي، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة، جامعة ابن زهر، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ أ كَادير 1997/1998

ـ ذاكر، عبد النبي:  العين الساخرة : أقنعتها وقناعاتها في الرحلة العربية، منشورات المركز المغربي للتوثيق والبحث في أدب الرحلة، مارس 2000.

ـ ذاكر، عبد النبي:  عتبات الكتابة : مقاربة لميثاق المحكي الرحلي العربي، منشورات مجموعة البحث الأكاديمي في الأدب الشخصي، دجنبر 1998.

ـ ذاكر، عبد النبي:  صورة أمريكا في متخيل الرحالين العرب، سلسلة الزمن، 2002.

ـ ذاكر، عبد النبي : "تجليات الإيروسي في رحلة ابن بطوطة"، ع59، ماي 1999.

ـ ذاكر، عبد النبي : "استراتيجية الفكاهة في الرحلة العربية"، مجلة دراسات، عدد10. 2000.

ـ ذاكر، عبد النبي : إستراتيجيات الغرائبية في الرحلة البطوطية، منشورات مدرسة الملك فهد العليا للترجمة، طنجة، مطبعة ألطوبّريس 1996.

ـ ذاكر، عبد النبي :  ملفوظية الرحلات العربية إلى الغرب، مجلة علامات، ع20، س2003.

[2] - راجع بهذا الخصوص الدراسات التي لها صلة برحلة ابن بطوطة في أعمال ندوة : الرحالة العرب والمسلمون، اكتشاف الآخر، المغرب منطلقا وموئلا، منشورات وزارة الثقافة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2003. وكذلك العدد الخاص بقسميه حول ابن بطوطة في مجلة المناهل، العدد 59 ماي 1999 والعدد 60 يناير 2000، وندوة ابن بطوطة، منشورات مدرسة الملك فهد العليا للترجمة، طنجة، مطبعة ألطوبّريس ، طنجة 1996.

[3] - شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي : رحلة ابن بطوطة المسماة تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، المجلد1، تقديم وتحقيق د. عبد الهادي التازي، مطبعة المعارف الجديدة ـ الرباط 1997. ص205 وما بعدها، ج1.

[4] - المصدر السابق، ص206 ج1.

[5] - نفسه، ص205ج1.

[6] - نفسه، ص226ج1.

[7] - نفسه، ص228ج1.

[8] - نفسه، ص192ج1.

[9] - نفسه، ص199ج1.

[10]- نفسه، ص199/200ج1

[11] - نفسه، ص199ج1.

[12] - نفسه، ص228ج1.

[13] - نفسه، ص194ج1.

[14] - نفسه، ص201، ج1.

[15] - نفسه، ص203ج1.

[16] - نفسه، ص208ج1.

[17] - وقد سبق العبدري إلى هذه الإستراتيجية في وصفه لنيل مصر، إلى حد أننا نذهب إلى أن ابن بطوطة ـ إن لم ينقل عنه ـ تبنى الإستراتيجية نفسها التي راجت عند الجغرافيين قبلهما كالبكري. يقول العبدري : "ونيلها من عجائب الدنيا عذوبة واتساعا وغلة وانتفاعا وقد وضعت عليه المدائن والقرى فصار كسلك انتظم دررا. وقد روينا في الصحيح أن رسول الله صلى عليه وسلم في ليلة الإسراء وصل إلى سدرة المنتهى فإذا في أصلها أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان، فسأل عنها جبريل عليه السلام فقال : أما الباطنان ففي الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات. قال البكري فليس في الأرض نهر يسمى بحرا ويَمّاً غيره قال الله تعالى"فألقاه في اليم"؛ واليم البحر، فسماه بحرا وحق له ذلك. قال وليس في الدنيا نهر يزرع عليه ما يزرع على النيل ولا نهر يجبى منه ما يجبى من النيل وابتداؤه بالتنفس في حزيران وهو شهر يونيه (...) قلت والنيل نهر متسع جدا آخذ من الجنوب إلى الشمال (...) ومن غرائب صنع الله أن مده يبتدئ في معمعان الحر وشدته، في الوقت الذي تغيض فيه الأنهار؛ وينتهي في الوقت الذي تمد فيه الأنهار وتفيض فيحسر الماء عن الأرض في مبدأ زمان الحرث. وقد حكى البكري عن ابن حبيب أن الله تعالى جعل النيل معادلا لأنهار الدنيا فحين يبتدئ بالزيادة تنقص كلها وذلك لخمس بقين من شهر يونيه وحين يبتدئ بالنقصان تزيد كلها" [ ص146 ] أبو عبد الله محمد بن محمد العبدري الحيحي : رحلة العبدري المسماة الرحلة المغربية، تحقيق وتقديم وتعليق محمد الفاسي، وزارة الدولة المكلفة بالشؤون الثقافية والتعليم الأصلي ـ الرباط 1968.

      ويكاد العياشي يحتفظ بالتصور نفسه في وصفه لنيل مصر سنة 1679م، معتبرا إياه : "أشرف الأنهار الأربعة الخارجة من الجنة. وأثر بركته ظاهرة للعيان في مائه وترابه وقراه ومدائنه."ص121 ج1؛ أبو سالم العياشي : الرحلة العياشية ماء الموائد، مطبوعات دار الغرب الإسلامي للتأليف والترجمة والنشر، ط2 بالأوفسيط وضع فهارسها، محمد حجي 1977

[18] - نفسه، ص 122/123،ج1.

[19] - نفسه، ص185.ج1.

[20] - نفسه، 209/210

[21] - ـ نفس هذه الإستراتيجية تبناها العبدري قبله، كما هو واضح من نصه في وصف أهرام مصر وبرابيها:  "وأما أهرامها وبرابيها فمبان عجيبة في غاية الغرابة متضمنة من الحكمة وغرائب العلوم ما صار أعجوبة على وجه الدهر وبين الناس تنازع في أول من بناها وفي أي شيء قصد بها ولهم فيها خوض كثير لا حاجة بنا إليه وقد ذكر القاضي صاعد صاحب الطبقات أن جماعة من العلماء زعموا أن جميع العلوم التي ظهرت قبل الطوفان إنما [ ص146 ] صارت عن هرمس الأول الساكن بصعيد مصر الأعلى وهو الذي يسميه العبرانيون خنوخ وهو إدريس النبي عليه السلام وأنه أول من تكلم في الجواهر العلوية والحركات النجومية وأول من بنى الهياكل ومجد الله تعالى فيها وقالوا عنه أول من أنذر بالطوفان ورأى أن آفة سماوية تلحق الأرض من الماء أو النار فخاف ذهاب العلم ودروس الصنائع فبنى الأهرام والبرابي التي في الصعيد وصور فيها جميع الصناعات والآلات ورسم فيها العلوم حرصا منه على تخليدها. (...)

      والأهرام مبان من حجارة صارت لإحكامها كالحجر الواحد في غاية العلو متسعة الأسفل مستديرة الشكل فكلما طلعت انخرطت حتى صار أعلاها حادا على شكل المخروط وليس لها باب ولا مدخل ولا يعلم كيف بنيت وقد ذكر البكري في المسالك والممالك وذكره المسعودي ومن كتابه نقله البكري أن أحمد بن طولون صاحب مصر استحضر من أرض الصعيد شيخا له مائة وثلاثون سنة موصوفا بالعلم والحكمة فسأله عنها فقال إنها بنيت لحفظ جثة الملوك فقال له كيف بنيت بتلك الحجارة العظيمة ومن أين يصعد إليها قال إنهم كانوا يبنونها على مراق أبرزوها من البنيان فإذا فرغوا  نحتوها وذكر البكري أيضا أن شونيد بن سهلون ملك مصر قبل الطوفان رأى رؤيا هالته وحملته [ ص148 ]على بناء الأهرام بالصخور وأعمدة الحديد والرصاص بأمر المنجمين ليكون حفظا لجثته وجثث أهله ومستودعا للعلوم من آفة الطوفان واختير لها موضع بقرب النيل في الجانب الغربي فلما فرغ منها قال لهم أنظروا هل يفتح منها موضع فقالوا يفتح من الجانب الشمالي وحققوا له الموضع وأن ذلك يكون لأربعة آلاف دورة للشمس وأنه ينفق في هدمه كذا وكذا فأمر أن يجعل في الموضع ذهب يزن ما ذكروا وحث على الفراغ من الأهرام ففرغ منها في ستين سنة وكتب عليها "بنينا هذه الأهرام في ستين سنة فليهدمها من يريد ذلك في ستمائة سنة فإن الهدم أهون من البناء". فلما كان المأمون أراد أن يهدمها فقال له بعض شيوخ مصر : قبيح بمثلك أن يطلب شيئا لا يناله، فقال : لا بد أن أعلم علم ذلك ثم أمر بفتحها من الجانب الشمالي لقلة دوام الشمس على العمال فكانوا يوقدون النار عند الحجر، فإذا احمر رش عليه الخل ورمي بالمنجنيقات حتى فتحت الثلمة التي يدخل منها اليوم ووجدوا عرض الحائط عشرين ذراعا وبإزاء النقب مالا فأمرهم بوزنه وبإحصاء ما أنفق على نقبه فوجدوها سواء فعجب المامون من ذلك قال ووجد طول كل واحد من الهرمين الكبيرين أربعمائة ذراع بالمالكي وهو ذراع ونصف بذراع اليد ويقال ليس على وجه الأرض أرفع بناء منهما ويذكر أن عمقهما في الأرض مثل ارتفاعهما."ص148