ص1     السابق

 

 

حضور الرشدية في ألمانيا

 

محمد عابد الجابري

ومن ابن رشد ومؤاخذاته للغزالي على عدم التزام أخلاقيات الحوار في ردوده على الفلاسفة والمتكلمين ننتقل إلى الحوار العربي الألماني الصامت الذي جرى في القرن الثامن عشر في ألمانيا والقرن العشرين في أقطار عربية. إننا نقتصر هنا على هذين القرنين لأننا نملك نصوصا تثبت ذلك. ومع أن كثيرا من القرائن تسمح بافتراض حوار صامت مماثل، جرى في ذهن المصلح الديني الألماني المشهور مارتان لوثر Martin Luther (1483-1546)، بين معطيات من الدين الإسلامي ومعطيات من الإصلاح الديني الذي قام به: خصوصا وقد كان القرآن قد ترجم إلى اللاتينية وتعددت طبعاته وانتشرت انتشارا واسعا في الأوساط الدينية والمثقفة في أوروبا قبل حركة لوثر بما يزيد عن ثلاثة قرون. أضف  إلى ذلك التشابه الكبير، إن لم نقل التطابق، بين أسس مذهبه مثل ثورته على "صكوك الغفران" المبنية على عقيدة الخطيئة الأصلية التي ألغاها القرآن بإعلان توبة آدم وقبول الله لها، ومثل مناداته بأن  كل مسيحي معمد فهو قسيس، الشيء الذي أكده القرآن عندما شجب إقامة الوسائط بين الإنسان والله واعتبر ذلك شركا، إضافة إلى مناداته بوجوب السماح بالزواج للقساوسة، وإضفاء الطابع الشرعي على الطلاق... ومع هذا كله فإننا لا نريد أن نفترض قيام حوار بين لوثر والقرآن لعدم توفرنا على شهادات تثبت ذلك، والشهادة في مثل هذه الأمور يجب أن تكون نصوصا وليس مجرد حدوس.

لذلك سنقتصر هنا على الإشارة إلى ما لدينا عنه شهادات ونصوص، ترجع إلى القرن الثامن عشر بكيفية خاصة. من ذلك شهادة جوتيه (1749-1832) Johann Wolfgang von Goethe  وكان من أهم الشخصيات الأدبية في ألمانيا الذين أعجبوا إعجابا كبيرا بالآداب العربية: فقد تعلم اللغة العربية وقرأ القرآن وأعجب بالشعر العربي الخ. ومنها كذلك شهادة صديق جوته ومُلهمه يوهان جوتفريد فون هردر Johann Gottfried von Herder (1744-1803). الذي كان ناقدا أدبيا أشاد إشادة حماسية بالشعر العربي واللغة العربية في كثير من كتبه. لن نقف عند هاتين الشهادتين فهما معروفتان وموضوع تنويه في الأدب الألماني، وإلى حد ما لدى بعض الكتاب من الأدباء العرب.

إن الشهادة التي سنقف عندها بعض الوقت هي تلك التي تكاد تكون مجهولة، إلا من بعض الفلاسفة المختصين، والتي  تثبت لنا حضور ابن رشد بين هردر وصديقه الفيلسوف الألماني الكبير إيمانويل كانط Emmanuel Kant  1724-1804. لقد جرى بين هذين المفكرين الكبيرين سجال حاد حول التصور الذي ينبغي أن  تبنى عليه فلسفة التاريخ. وقد كانا بصدد تشييدها.

كان كانط قد كتب في نوفمبر من سنة 1784 مقالة بعنوان "فكرة من أجل تاريخ عام من منظور كوني" عرض فيها وجهة نظر جديدة في التاريخ تقوم على فكرة التقدم -وهي الفكرة التي تأسس عليها الفكر الأوربي منذ ذلك الوقت- فقال: إن التقدم يسري عبر التاريخ بخطى بطيئة ولكن متصلة، وأن هذا التقدم يتم على مستوى قدرات الإنسان الأصلية وأنه لا يظهر بصورة صريحة في الفرد، بل هو يتحقق في النوع الإنساني.

 وقد رد عليه هردر منتقدا فكرة التقدم تلك في كتاب جعل عنوانه "أفكار من أجل فلسفة لتاريخ البشرية" (1785): انتقد فيه نظريات فلاسفة الأنوار حول "اتجاه التاريخ" رافضا الفكرة القائلة بتفوق طبيعة الحضارة الأوربية على غيرها من الحضارات. كان هاردر يرى أنه لا يجوز النظر إلى التاريخ من زاوية مقولة "التقدم"، التي تعني أن كل حضارة تأتي بعد أخرى لابد أن تكون أكثر تقدما منها، وبالتالي فالحضارة الأوروبية التي جاءت بعد الحضارة الإسلامية لابد أن تكون أكثر تقدما من جميع الحضارات السابقة لها. أما هردر فيرى أنه من الضروري النظر إلى كل حضارة من زاوية أنها تحمل في ذاتها غايتها، وشبه الإنسانية كلها بكائن حي وُضع تصميمه بحيث يتمكن من خلق كائنات عليا تنمو من داخله. وبالتالي يحب النظر إلى كل حضارة من داخلها، وتجنب اعتبارها مجرد حلقة في سلسلة من التقدم الحضاري التاريخي. قال معترضا على كانط : "إذا قال شخص بأن ما يجب تربيته ليس الإنسان الفرد بل النوع البشري فهو بالنسبة لي يقول كلاما لا معنى له، فالجنس والنوع مفهومان مجردان لا يتحقق لهما وجود إلا في "الأفراد"، ثم أضاف -وهذا ما يهمنا هنا- فقال: "ينبغي أن لا نترك فلسفتنا للتاريخ تقوم بمغامرة على  شعاب فلسفة ابن رشد". 

رد كانط على زميله موضحا وجهة نظره، مؤكدا أنه لم يكن يقصد أن النوع يتحقق بصفة كاملة في الفرد، وإنما يقصد أن الفرد البشري يمكن أن يتقدم تدريجيا ويقترب من أن يتحقق فيه النوع، ولكن دون أن يتحقق يوما تحققا كاملا. ثم ختم بالقول: ومهما يكن فإن سوء التفاهم الذي أبرزناه في المقطع السجالي أعلاه لا يعدو أن يكون أمرا تافها، وأن الشيء الأهم هو أن: "لا نترك فلسفتنا للتاريخ تقوم بمغامرة على شعاب فلسفة ابن رشد".

ما نريد إبرازه هنا هو حضور ابن رشد في هذا السجال الذي جرى بين فيلسوفين ألمانيين كبيرين في أواخر القرن الثامن عشر. ولكي نفهم أهمية هذا الحضور يجب ربطه بالمجهود العظيم الذي بذله فيلسوف قرطبة في شرحه الكبير على كتاب"النفس" لأرسطو. فقد عمل ابن رشد على سد الثغرات التي تركها "المعلم الأول" مفتوحة في منظومته الفلسفية. من ذلك ما يتعلق بطبيعة ذلك الجزء من النفس البشرية الذي سماه أرسطو بـ "العقل بالقوة" intellect en puissance  وعُرف عند شراحه بـ"العقل الهيولاني" أو "المادي" intellect materiel والمقصود: ذلك الجزء من العقل البشري الذي هو عبارة عن الاستعداد لتقبل المعقولات intelligibles أي المفاهيم والتصورات والأحكام التي ليس لها وجود حسي. فقد جاءت عبارة أرسطو بشأنه غامضة تحتمل القول بفساده وعدم أزليته وتحتمل العكس. تصدى ابن رشد لهذه المشكلة فحلل كعادته آراء شراح أرسطو وبين مواطن الضعف فيها وانتهى إلى رأي خاص به يقول بأزلية هذا الاستعداد العقلي في الإنسان، والمسمى بالعقل الهيولاني،  ولكن دون أن يعني ذلك أنه يقع خارج النفس البشرية. فالعقل الإنساني واحد عند ابن رشد. وما يسميه شراح أرسطو بـ"العقل الهيولاني" أو المادي، و"العقل الفعال" أو الفاعل، أو"العقل بالفعل" أو المكتسب، ليس سوى مظاهر للنفس العاقلة، توجد كلها داخل النفس وليس خارجها، وهي واحدة في حقيقتها. وإنما تتبدَّى في صورة العقل بالقوة باعتبار، وفي صورة العقل الفاعل باعتبار، وعلى هيأة عقل بالفعل باعتبار آخر.

 والمشكلة التي تعترض القول بأزلية العقل الهيولاني –وهو كما قلنا ذلك الاستعداد الذي في النفس لأن تصير عقلا بالفعل يمارس عملية التعقل- هي أن أفراد النوع الإنساني الذي يتميز عن الحيوان، بالعقل (الإنسان حيوان عاقل) تفنى أجسادهم وبالتالي يفنى معها كل ما كان في نفوسهم من معارف وإحساسات، بينما لا تفنى معقولاتهم التي ليست من أصل حسي بل تبقى حية في نفوس الأجيال الآتية بعدهم، كما هي أفكار أفلاطون وأرسطو وغيرهما حية في نفوس الأجيال التالية من الفلاسفة ودارسي الفلسفة.

فكيف يمكن والحالة هذه تفسير أزلية العقل البشري أو جزء منه أو مظهر من مظاهره ؟ وبعبارة أخرى: كيف نجد في أنفسنا نحن العرب مثلا، "معقولاتٍ" (مفاهيم وتصورات لا توجد وجودا حسيا) ومع ذلك نومن بوجودها وجودا أقوى من الوجود الحسي؟ ثم كيف تفترق عقولنا (لكل عقله) مع أننا نشترك في معقولات واحدة؟ لماذا لا تختلط عقولنا مع أننا جميع نحمل معقولات هي هي بعينها؟

تلك هي المسائل التي كانت تعترض الفلاسفة زمن كانت والتي كان حلها ضروريا لإمكانية قيام فلسفة للتاريخ، وكان ابن رشد قد قدم لها، قبلهما بقرون، حلولا فلسفية مقنعة بالنسبة لزمانها... كما سنرى في المقال القادم.