الكتابة التاريخية بالمغرب
إشكالات مطروحة
مصطفى
المرون
إن المتتبع حاليا للساحة الثقافية
بالمغرب يلاحظ بأن هناك زخما ثقافيا بدأ يلوح على السطح بفعل تضافر جهود كافة
الفعاليات الثقافية بالمغرب، خصوصا في حقل البحث التاريخي، وذلك للنهوض به إلى
مستوى متقدم على غرار باقي الدول المتقدمة، بحيث برزت كتابات قيمة خلال الفترة
الأخيرة تنادي أساسا بإعادة كتابة تاريخ المغرب بمناهج ورؤى جديدة تعمل على دحض
مجمل الكتابات الكولونيالية اللاموضوعية والتي احتكرت كتابة تاريخ المغرب لمدة
طويلة كان الهدف الأساسي منها تركيز سيطرة المستعمر، وإضفاء صفة الشرعية على عمله
الدبلوماسي والعسكري.
وفي هذا السياق، نجد بأن
البحث التاريخي بالمغرب المعاصر قد عرف تطورا نوعيا وتدريجيا خلال المرحلة قبيل
الحماية إلى اليوم. وسننطلق هنا من ملحوظتين اثنتين:
ـ أولاهما أن هذا التطور تم
على أربع مراحل:
*الأولى قبيل الحماية
وخلالها.
*الثانية مع فجر الاستقلال.
*الثالثة مع بداية السبعينات.
*والرابعة والأخيرة أواخر
السبعينات إلى اليوم.
ـ ثانيهما أنه باستثناء المرحلة الأولى،
فإن تطور مفهوم الكتابة التاريخية انطلق من فكرة نبذ الكتابة التاريخية
الكولونيالية لينتهي إلى التساؤلات عما يمكن أن يستفاد من مناهج التاريخ الغربي
ومفاهيمه، مارا بفترة استقلال نسبي.
ومن ثم، في إطار حديثنا عن
مراحل تطور الكتابة التاريخية، نجد بأن المرحلة الأولى تميزت بذلك الإنتاج المغربي
التقليدي الذي استمر دون تغير معتبر في أسلوبه طول القرون من روض القرطاس،
الاستقصا، بل امتد إلى أيام الاستعمار مع عبد الرحمن بن زيدان، وحتى بعد رجوع
الاستقلال مع المرحوم محمد داورد
[1]. من جهة أخرى، ومع فجر
الاستقلال، بدأ الباحثون المغاربة يدعون إلى كتابة تاريخ وطني قومي:
ـ تاريخ يحاول إزالة
الاستعمار عن تصور ماضي المغرب بإبراز عيوب هذا النوع من الكتابة.
ـ تاريخ يحاول أصحابه إقناع
أنفسهم وإقناع الأجانب بإمكانية كتابة تظهر الشخصية العربية للمغرب وتبرز مزايا
ماضيه.
وقد اعتمد هذا التيار طرقا
مختلفة لإظهار عيوب الكتابة الاستعمارية وإبراز الحاجة إلى إعادة صياغة تاريخ قومي
وطني.
أولاهما الرد على الاتهامات
الموجودة في مضمون الكتابات الاستعمارية بالتشكيك في فهم الغربيين لخصوصية الدولة
العربية الإسلامية.
ثانيهما إعادة فهم النصوص
والوثائق التي قرأها مؤرخو العهد الاستعماري قراءة معينة. وقد تجلى هذا الاتجاه مع
فجر الاستقلال، وكان من أبرز المدافعين عنه زعماء أحزاب سياسية ومفكرون من بينهم
علال الفاسي، عبد الله إبراهيم، جرمان عياش، عبد الله العروي..الخ.
والواقع، فإن مفهوم التاريخ
القومي سيعرف تطورا نوعيا بعد سنة 1970، مع احتفاظه بمعطيات المرحلة الأولى، ذلك
أنه، إذا كان الباحثون الشباب المتخرجون من الجامعات المغربية أو الأوربية قد
طوروا شكليا صفحة الرد على المستعمر ودحض نظرياته بطريقة مباشرة، فإن جل أعمالهم
لازالت تحمل تلك السمة، فجلهم كان يبحث عن وثائق جديدة لفهم تاريخ المغرب فهما
عقلانيا، وكان يعيد قراءة المصادر والوثائق التي استعملها قبلهم مؤرخو المرحلة دون
أن يلجأوا في كتاباتهم إلى محاولة مواجهة آراء المستعمر وأغلبهم ركز إما على
محاولة تفسير علاقات المخزن بالرعية، أو على مواجهة الحركة الوطنية للتدخل
الاستعماري.
أما الاتجاه الرابع، وهو
عبارة عن محاولة للاستفادة من الاتجاهين الثاني والثالث، من حيث أنه يأخذ بفكرة
البحث في الوثائق المخزنية وكتابة تاريخ سياسي، كما يأخذ بفكرة إحياء التراث. ولكن
أصحاب هذا الاتجاه مقتنعون بأن كتابة تاريخ المغرب –على منوال ما يكتب اليوم في
بلدان متقدمة في مثل هذا العلم- لن تتأتى إلا عن طريق البحث الاجتزائي، حيث أن
أحسن طريقة لجمع الوثائق والمستندات والاستفادة من النصوص القديمة هي تحديد مواضيع
الأبحاث في مجالات زمنية أو مكانية ضيقة حتى يتسنى تعميق البحث أو التحري، على أن
يكون هذا العمل عملا مرحليا يتمم، فيما بعد، عندما تكون مناطق البلاد قد تمت
تغطيتها، وكل الفترات التاريخية قد شملها هذا البحث، بأعمال أشمل، تكون تلك
الأعمال خلاصة الأبحاث الأولية[2].
ومن جهة أخرى، فإن هؤلاء الباحثين قد واجهتهم صعوبات جمة، ذلك أن عملية تحقيق
التراث بمعناه الواسع، لا ينبغي أن تنفصل عن المشكل العام للبحث التاريخي، في
المغرب المعاصر، الذي يعاني في الدرجة الأولى من ضعف وسائل وتقنيات البحث العميق.
إذن كان استغلال المصادر المكتوبة ليس سهل المنال. ذلك أن أساتذتنا انصبت
مجهوداتهم كلها على النوع الأول دون الثاني. وأعتقد أن هذه الوضعية ستستمر مدة
أخرى، ما دامت برامج التاريخ في كلياتنا لا تضم أي درس منهجي يعطي للطلاب مبادئ
أولية لإدماج المصادر غير المكتوبة في حقل اهتماماتهم المستقبلية[3].
لكن رغم هذا التطور الحاصل في
الكتابة التاريخية، فإن الباحثين المغاربة لازالوا يرتكبون هفوات تضرر منها
التاريخ المغربي. ومن ثم، فإن مقالنا هذا كان بهدف استجلاء أهم تلك الهفوات التي
همت ثلاثة إطارات، عززناها بأمثلة من التاريخ المغربي، هذه الإطارات هي:
1 ـ الإطار المصطلحاتي: بحيث
إن باحثينا لم يتخلصوا بعد من بعض المفاهيم والمصطلحات الكولونيالية التي لازلنا
نراها تستعمل بشكل عادي نذكر من بينها مصطلحات: "بلاد السيبة وبلاد
المخزن"، "عمليات التهدئة"، الإصلاحات"، "الحماية"…
الخ. ولا داعي لشرح المرامي الإيديولوجية لمثل هذه المصطلحات، لأن المجال لا يسع.
2 ـ الإطار الزمني: في هذا
الإطار نسوق مثالين هما: الإطار الزمني لحرب تطوان[4].
بحيث نجد أن مجمل المؤرخين والباحثين عند التطرق لهذه الحرب يضعون إطارا زمنيا
يبتدئ بسنة 1860. لا أتوافق معهم، لأن الحرب ابتدأت خلال شهر نوفمبر 1859 بمواجهات
مغربية (غير رسمية قادتها قبائل الأنجرة المجاورة لسبتة) إسبانية، استخدم خلالها
المغاربة تكتيك حرب العصابات أكسبتهم انتصارات مهمة، لكي تتحول المواجهة بعد دخول
السلطة المغربية في الصراع إلى حرب المواجهة التي جعلت المغرب يندحر بفعل عدم
تكافؤ ميزان القوى.
الإطار الثاني هو المتعلق
بالحماية الإسبانية على المغرب، والتي يضع لها المؤرخون إطارا زمنيا هو سنة 1912.
في حين تجد هذه الحماية المستند الرسمي لها في الوفاق الفرنسي الإسباني ليوم 27
نوفمبر 1912 الذي صادق عليه السلطان يوسف يوم 14 مايو 1913، ليكون الاعتراف الرسمي
بها من طرف المغرب بشكل قانوني سنة 1913 وليس 1912.
الإطار الحدثي: بفعل التسرع
والسطحية والصبغة التقليدية التي يعالج بها بعض الباحثين المغاربة بعض الأحداث
المهمة جعلتهم يعطون نظرة مخالفة للواقع، وهذا ما لمسناه في مجموعة من الكتابات
أخص منها بالذكر كون أحد الباحثين في إحدى المقالات أشار إلى كونه يريد إعطاء شكل
جديد للكتابة التاريخية بالمغرب بعدم الاقتصار على ما هو إيجابي في هذا التاريخ،
بل يجب التطرق إلى ما هو سلبي، فاعتمد على إحدى الوثائق المنشورة في كتاب لأحد
المؤرخين الغربيين الذي زور الحقائق ليعطي لها ذلك المعنى المحلي الذي أراده
باحثنا المغربي، ولكن لحسن الحظ، كانت لدينا الوثيقة الأصلية عملنا على نشرها في
نفس المجلة لتصحيح ما جاء في وثيقة المؤرخ الغربي، وتنبيه باحثنا المغربي على
تمحيص وقراءة الوثيقة بتأن حتى يقف على مدى مصداقيتها.
مثال ثان، يهم موضوع أحد
المحاربين إلى جانب الجمهورية خلال الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939)، حيث
اختلفت الطروحات حول لقبه، السياق الذي جاء فيه ذكر هذا اللقب ثم جنسيته، حيث أجمع
الكل على كونه كان مغربيا، ولكنه في الأصل كان فلسطينيا وحمل اسما مستعارا ومنتحلا
غير الاسم الذي أعطي له.
لهذا أناشد الباحثين أن
ينسقوا الجهود فيما بينهم حتى تكتمل الرؤى فيما يخص الغموض المكتنف تاريخ المغرب
وإعادة كتابته كتابة خالية من الشوائب الكولونيالية n
[1] - جرمان عياش، (اتجاه جديد للبحث التاريخي بالمغرب)، مجلة دار النيابة،
العدد 17، 1988، ص5.
[2] - ذ.مزين
محمد، (منهج كتابة التاريخ القومي: إشكالية
تاريخ المغرب العربي)، أنوال الثقافي، السبت 9 يناير 1988، ص5/6.
[3] - صدقي علي
أزايكو، (تحقيق المصادر التاريخية)، أنوال الثقافي، العدد 30، 1986، ص7.
[4] - حرب
إفريقيا حسب المؤرخين الإسبان.