اللسانيات في
الثقافة العربية الحديثة
حسن خميس الملخ
إذا
تجاوزنا أنّ البحث العلميّ يقوم على دراسة الإشكالات العلميّة المتباينة، فسنجد
أنه يقوم على تحديد علاقة البحث بالزمن بين أن يكون البحث انطلاقاً من الماضي أو
تحليلاً للحاضر أو استشرافاً للمستقبل مع تأطير هذه العلاقة بأبعادها الثقافيّة
والفكريّة والعلميّة، ولهذا يصطدم البحث اللسانيّ في الثقافة العربيّة بسؤال
الزمن؛ ذلك أنّ الباحثين قد تباينوا في ربط البحث اللسانيّ بالزمن، كما تباينوا في
ربط البحث اللسانيّ بأبعاده الثقافيّة والفكريّة والعلميّة، فبدا بحدّ ذاته
إشكاليّة بدل أن يكون وسيلة لحلّ الإشكاليات.
اللسانيّات
واحتواء الآخر:
الأصل
في العلوم أنّها تخفي وراء التخصّص الدقيق التوسّعَ الرأسيَّ للعلم، بمعنى أنّ
العلم قد كان جزءاً عاماً من علم أكبر وأضخم وأكثر عمومية، ثم تطوّر إلى أن أصبح
علماً مستقلاً له شخصيته المميزة له، والدالة عليه، كأن نتحدث عن تفرّع الفيزياء
إلى علوم جديدة مثل فيزياء الحالة وفيزياء الحركة وفيزياء الكمّ إلخ. لكنّ علم
اللسانيات بفروعه المختلفة خرج عن هذا الأصل، فما كاد أن يظهر على أيدي بعض
الفلاسفة واللغويين حتى بدأ شيئاً فشيئاً يمتد ويتوسّع ليصبح كما قال ليفي ستراوس
جسراً تعبّر عنه كلّ العلوم الإنسانيّة؛ لأنه تحوّل من الانكفاء على دراسة اللغة
وأنساقها إلى مدلولات اللغة وأنساقها المعرفيّة، فدخل عبر المحتوى المدلوليّ إلى
العلوم الأخرى من غير أن يفقد سماته العلميّة ومتطلباته البحثيّة، مما يعني أنّ
الآليات المنهجيّة الكامنة فيه قد احتوت المدلولات العلميّة المختلفة، وصبغتها
بصبغة البحث اللسانيّ، فأصبحت العلوم المختلفة لسانيات بمفهوم الآليات المنهجيّة،
لكنها بقيت علوماً مستقلة بمفهوم المدلولات المعرفيّة، وهذا يعني التوحّد إلى حدّ
كبير بين مفهوم العلميّة المجرّدة، والبحث اللسانيّ؛ لهذا كان أمراً طبيعيّاً أن
تقفز المنهجيّة اللسانيّة إلى صدارة العلوم الإنسانيّة؛ لأنها العلم الوحيد في
العصر الحديث الذي يتحرّك بخطّين متوازيين تشكل المساحة التي بينهما جسراً
للبَيْنِيّة المعرفيّة مع أنّ الخطّ الأول يمثّل الذات أو المنهج أو الآليات في
حين يمثل الخطّ الثاني الآخر والمحتوى والمضمون، وهذا يعني أنّ كلّ مساحة تمثّل
بالضرورة اللسانيات والآخر.
ولئن
كانت اللغة هي الحجر الأساس في انطلاق الثورة اللسانيّة فإنّ تجاوز الرّواد
الأوائل في اللسانيات للأوهام التي رافقت البحث اللغويّ عند الأمم ذات الدراسات
اللغويّة المعروفة مثل اليونان والرومان والهنود والصينيين والعرب وغيرهم يعدّ
عبوراً إلى دائرة العلم، فقد تجاوزوا مفهوم الخصوصيّة اللغويّة، والتحيّز اللغويّ،
والمسلمات غير العلمية من الأساطير الثقافية والفكرية، وانطلقوا من أنّ اللغة
ظاهرة بشريّة تتجلّى بأصوات مختلفة، فالانطلاق كان في جوهره مبنياً على ثنائية
اللسان والإنسان، لهذا تطوّر بشكل سريع إلى ثنائيات اللسان وعلوم الإنسان، ولا
تزال اللسانيات تحمل وعداً بمفاجآت علميّة قد تكون مذهلة نتيجة التفاعل المعرفي
بين العلوم المختلفة عبر جسر اللسانيات.
البحث
اللسانيّ في الثقافة العربيّة... التيه في الجدل:
قد
يشي عنوان "البحث اللساني في الثقافة العربية" بالبحث عن الجذور الأولى
للبحث اللسانيّ في الثقافة العربيّة، وهو بحث نسعى دائماً إلى تجاوزه لأنّنا نتحدث
عن اللسانيات الدوسوسيريّة لا عن الإرهاصات اللسانيّة في دراسة اللغات البشريّة
لأننا حينئذٍ سنعدّ مخترع الكتابة أيّاً كان هو اللساني الأول في التاريخ، وبعد
ذلك تصبح الجهود اللغويّة اللاحقة عند الأمم كلها طرقاً أدّت في النتيجة إلى تكوّن
الصورة الأولى للسانيات الحديثة عند دوسوسير، ومن هذه الطرق الطريقُ التي سلكها
علماءُ العربيّة في تقعيد علوم العربيّة في النحو والصرف والمعجم، وعندها سيغدو
الحديث عن البحث اللسانيّ ضرباً من المفاخرة بين الأمم في الجهود اللسانيّة، وهذا
الحديث يُفقِد اللسانيات أهم سماتها وهي أنها تدرس اللغة ابتداءً لأنها ظاهرة
بشريّة تتجاوز الاختلاف في الأصوات وطرائق بناء الكلمات وتركيب الجمل بين اللغات
البشرية.
إنّ
معادلة توازن البحث اللساني في الثقافة العربيّة مرتبطة بالقرن العشرين بل بالنصف
الثاني منه، وهي بهذا الارتباط سهلة التقييم لأنها مختصرة في أقلّ من قرن من
الزمان، وإن كانت من التنوع والتعدّد بحيث تضحي صعبة التقييم.
إننا
بعد نصف قرن أو يزيد من طرح الرؤى اللسانيّة على المشتغلين بعلوم العربيّة خاصة
والمثقفين في العالم العربيّ عامة لم نخرج من دائرة الجدل في فهم اللسانيات بل في
طرحها لأنّ جهود الباحثين في تقديم اللسانيات للعالم العربيّ تاهت في منعطفات
خطيرة ثلاثة هي:
1-
منعطف الرفض وفلسفة الاتّهام:
ليس
غريباً أن يُقابل الجديد بالرفض؛ بل لعلّ هذا الأمر من سُنن البشر في تقبّل ما هو
جديد، لكن من سنن البشر أيضاً أنّ الرفض كالمرض يزول غالباً مع مرور الوقت
بالاقتناع، فما كان غريباً لجدّته أصبح مألوفاً لاقتناع الناس به ولشيوعه بينهم
وظهور فوائده، لكن الأمر في طرح اللسانيات في العالم العربي بعمومه دخل في مأزق
تطاول مدة الاقتناع؛ لأن اللسانيات عندما طرحها الباحثون الجُدد منذ خمسينات القرن
العشرين طرحوها كمولود غير مكتمل النمو لوجود مرضين عُضالين في ذلك الطرح، أولهما
يتمثل بالغربنة (من التغريب) الفكريّة في مقابل مجتمع متمسك إلى حدّ كبير بموروث
فكريّ حضاري مسلم وعربيّ، وهي بهذا المرض كالفكر المعادي إذ طُرحت كمحصول فكريّ
نضج في أوروبا في ظل مجتمع متعدّد الرؤى والاتجاهات، فاللسانيون الأوائل هم من
خريجي الجامعات الفرنسيّة والألمانيّة والبريطانيّة الذين طرحوا اللسانيات من غير
قصد على أنها العلم الذي حرّر الدروس اللغويّة في أوروبا من الأوهام غير العلميّة
وقادها نحو تجميع مفهوم العلم الشامل المبرهن، وهي بهذا الطرح تتناسى أنّ الموروث
اللغويّ في العربيّة يحظى بأعلى درجات الاحترام والتقدير في العالم العربيّ، ولم
يصل الأمر عند عموم دراسي العرب حدّ الاقتناع بالحاجة إلى (مساعدٍ) جديد يطوّر
رؤاهم اللغوية في مستوياتهم كافة، فنظر كثير من أبناء الخمسينات والستينات إلى
اللسانيات على أنّها بديل غير مرغوب فيه للنحو والصرف والمعجم في العربيّة، وما
يزال أنصارُ هذا التيار موجودين في المجتمع العربي من معلم المدرسة إلى أستاذ
الجامعة، بحجة عدم الحاجة مع إضافة صفة اتهام طارحي اللسانيات بالغربنة.
وأما
ثانيهما فيتمثل في توجّه اللسانيات العربيّة إلى القارئ العربي والمثقّف العربي
بدل التوجّه أولاً إلى الباحث العربيّ، فالدكتور محمود السعران عندما ألف كتابه
(علم اللغة) أضاف إلى عنوانه مقولة (مقدمة للقارئ العربيّ) وهذه المقولة خطيرة
جداً، لأنّها تدلّ على تجاوز الباحث إلى المثقف، وهذا التجاوز قد يكون يأساً من
إقناع الباحث آنذاك بالمقولات اللسانيّة، أو التفافاً عليه بالذهاب إلى المثقف
والقارئ، وهو في الحالتين يشير إلى مأزق في الطرح الأول لهذا العلم، مما يعني أن
بعض اللسانيين الأوائل لم يحسنوا زرع النباتات اللسانيّة في العالم العربيّ، لأنهم
حملوا اللسانيات، ولم يحملوا طريقة زرعها في العالم العربيّ بالحوار المبنيّ على
فهم التراث اللغويّ العربيّ أولاً، ثم فهم المعطيات اللسانيّة، من هنا حملت
الطروحات اللسانيّة الأولى في العالم العربيّ اتهامات للغة العربيّة في نحوها
وصرفها ومعجمها كما يبرز في بعض أعمال الروّاد الأوائل مثل الدكتور عبد الرحمن
أيوب، والدكتور أنيس فريحة وغيرهما وقد نستثني اثنين من ذلك الجيل هما الدكتور
إبراهيم أنيس والدكتور تمام حسّان.
إذن،
فبدل أن تمرّ اللسانيات في الثقافة العربيّة من منعطف الرفض بسرعة بقيت فيه مدة
طويلة بدليل وجود رافضين لها بين الباحثين في العربيّة نحواً وصرفاً ومعجماً على
هدي التراث اللغويّ إيماناً منهم بأنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، وهي مقولة خطيرة
حذّر منها الجاحظ في القرن الثالث الهجريّ عندما استشرف أن أخطر ما يهدد العلم أن
يؤمن المشتغلون به لأسباب مختلفة بأنه قد اكتمل وصار شيئاً بديعاً صاغه مبدعون.
2-
منعطف القبول المطلق وموت الذات:
ثمة
فرق جوهريّ في طرح العلوم الجديدة بين أمرين: الطرح المعزول عن الذات بمعنى طرح
الجديد وإماتة القديم، والثاني الطرح غير المعزول عن الذات الذي يطرح الجديد من
غير أن يلغي القديم بكامله، وقد وقع بعض اللسانيات في العالم العربي في الأمر
الأول، فضاعت من طروحاتهم جهود أكثر من اثني عشر قرناً من الدراسات اللغويّة للغة
العربيّة في علومها كلها، ولهذا كان من الطبيعي أن تكون ردّةُ الفعل على هذا الطرح
رفض الاستماع لأي طرح لسانيّ، الأمر الذي يجعل هذا المنعطف يتحد مع المنعطف السابق
ليصبحا معاً قلعة في وجه رياح اللسانيات التي قال بعض أصحابها بضرورة إعادة وصف
اللغة العربيّة ألسنياً بعيداً عن أي موروث لغوي مهما كان حضوره، ومهما كانت
مزاياه العلميّة مع أننا الأمة التي تعيش داخل لغتها، مما يعني أنّ في وجدان كل
أبناء العالم العربيّ احتراماً كبيراً للغة ولجهود اللغويين سواء أظهر هذا
الاحترام بالفهم أم بقي احتراماً يشبه إيمان العوامّ والعجائز.
إن
مساحة الآخر في هذا المنعطف أكثر بكثير من مساحة أنصاره، لهذا لم يسلم أنصاره من
تُهَم الانسلاخ عن الحضارة العربيّة الإسلاميّة، بل رأى فيه الآخر خطراً يهدد
ثابتاً هو أهم الثوابت في حياة المسلمين، وهو القرآن الكريم، فلغة القرآن محروسة
بقوانين العربيّة في النحو والصرف والمعجم، وقد أثبتت هذه القوانين عبر قرون
الإسلام كلّها قدرتَها على رفد الكلمة القرآنية في دلالتها واستقامتها وموقعها من
التركيب بالتفسير المقبول، ويمكن للمتتبع لحركة تقييم الجهود اللغويّة في القرن
العشرين أن يلحظ بوضوح أن معظم من وجّهت إليهم تهم معاداة اللغة العربيّة في
الإملاء أو النحو أو الأصوات هم من اللسانيين لأنهم وقعوا في منعطف القبول المطلق
بالمقولات اللسانيّة مع أنّ من طبيعة اللسانيات أنها علم متغيّر غير ثابت حتى يمكن
وصفها بالعلم المنقوص النواميس، وهي بهذا ضد المطلق الثابت.
إنّ
أزمة اللسانيات في الثقافة العربيّة أزمة منهج في العرض والتطبيق والحوار مع
الموروث العربيّ في علوم اللغة والأدب، فقبل أن تتجذر الثقافة اللسانيّة في
المجتمع العربيّ كان بعض رواد اللسانيات في العالم العربيّ يوجّهون سهام نقدهم إلى
النحو العربيّ، والصرف العربيّ، والمعجم العربي باسمِ علمِ اللسانيات، فثار معظهم
على نظرية العامل والعلل والإعلاِل والإبدال والصناعة المعجمية التقليديّة، وهذا
الأمر يمكن أن نتبينه بوضوح في الأعمال الأولى لإبراهيم أنيس وتمام حسان ومهدي
المخزومي وعبد الرحمن أيوب وكمال بشر وأنيس فريحة، فعبد الرحمن أيوب ابتدأ دراساته
اللسانية سنة 1957م بكتابه المشهور "دراسات نقدية في النحو العربيّ" وهو
فكر لساني خالص لكنه لم يكن مؤسساً على دعاية لسانيّة في الثقافة العربيّة لهذا
بقدر ما كان صدور هذا الكتاب صدمة لمعظم المشتغلين في علوم العربيّة آنذاك كان
وجهاً غير مرغوب فيه للسانيات، فالنقد له معاييره التي تجعله مقبولاً عند الآخر،
لكنّ النقد غير المبنيّ على دراسة الآخر ولو جزئياً بالمعايير يعدّ صدمة ثقافية،
ولا سيما أنه وُجِّه إلى جذور النحو العربيّ في ظروف نشأته وعلاقته بالمنطق
اليونانيّ وارتكازه على القياس ونظرية العامل.
ويبدو
أنّ هذا الكتاب كان ردّة فعل للمفارقة المنهجيّة بين معرفتين مختلفتين تحصّل عليها
عبد الرحمن أيوب، الأولى تراثيّة عربيّة، والثانيّة لسانيّة أجنبية، انتهت
المفارقة عند حدود هذا الكتاب بانتصار منهجيّة المعرفة اللسانية على منهجيات
المعرفة التراثيّة في علوم اللغة.
وبعد
المفارقة التي أدت إلى النقد اقترب عبد الرحمن أيوب في أعماله اللاحقة من مفهوم
الموافقة في الحوار العلمي بمعنى العودة إلى التوازن بين المعرفتين، والتعريف
باللسانيات كما في محاضراته في اللغة التي نشرها سنة 1966م واهتمامه بالأصوات
العربيّة واللهجات على أسس لسانيّة صوتيّة.
إن
عبد الرحمن أيوب نموذج للطرح الحادّ الذي أدى إلى تأجيل تقبّل الثقافة العربيّة
للسانيات إلى الجيل اللاحق في السبعينات من القرن العشرين، لأننا نعدُّ فوز تمام
حسان بجائزة المكتب الدائم لتنسيق التعريب في الوطن العربي في الرباط البدايةَ
الحقيقيةَ لتقبل عموم الثقافة العربيّة للسانيات، ولا سيما أن بحثه كان عن القرائن
النحوية واطّراح العامل والإعرابين التقديري والمحليّ، أي أنّ نقد نظرية العامل في
النحو العربيّ على أسس لسانيّة أصبح رأياً علمياً يحظى باحترام وتقدير بعد أن كان
رأياً ثورياً غير مرضيّ عنه عند عبد الرحمن أيوب.
وثمة
مفارقة غريبة في هذا الفوز أو هذا التحولّ، ذلك أن اللسانيات (العربيّة) قد زرعت
في بيئة مصر والشام، ولكنها أثمرت في بيئة المغرب العربيّ لأنهم عرفوا اللسانيات
عبر الثقافة الفرنسيّة، فلم يمروا في مرحلة تشبه الترجمة أو ردّة الفعل.
في
السبعينات من القرن العشرين أصبح الحديث اللسانيّ حديثاً مقبولاً عند المتخصصين
والمثقفين، لأنّ رواده تجاوزوا النقد وحده إلى الحوار، كما في أعمال عبد الرحمن
الحاج صالح، والطور الثاني من أعمال تمام حسّان مثل اللغة العربيّة معناها
ومبناها، وتمتدّ هذه المرحلة إلى الثمانينات فتبرز أسماء جديدة مثل عبد القادر
الفاسي الفهريّ، ومازن الوعر، وخليل عمايرة، ومحمد يوسف حبلص وعبد السلام المسديّ
وغيرهم، ثم يأتي الجيل الجديد بوعي أكثر انفتاحاً على اللسانيات وفروعها لكن للأسف
بوعي منقوص إلى حدّ ما عند كثير منهم للتراث اللغويّ.
إذن،
بدأ الطرح اللساني نقداً للنظريّة اللغوية ولا سيما النحو، ثم تحوّل إلى حوار
متوازن في السبعينات بين البعد اللساني والبعد التراثيّ، ثم بات بعد ذلك وعياً
متقدماً بالنظريات اللسانية من غير توازن مع النظريات التراثيّة الأمر الذي يجعله
تيهاً نوع جديد؛ لهذا تصبح النتائج العمليّة في محصلة الأمر قليلة إذا ما قورنت
بالجهود الفردية الضخمة على امتداد مساحة الثقافة العربيّة، لأن اللسانيات نفسها
قد أصابها كثير من التطوّر والتغيّر حتى أمكننا الحديث عن تطوّر الفكر اللسانيّ في
النصف الثاني من القرن العشرين، ولأننا إلى الآن لم نقدّم المشروع اللسانيّ
المتكامل إلى حدّ ما حتى مع وجود دراسات لسانيّة رائدة زرع أصحابها رؤاهم
اللسانيّة، لكن تلامذتهم لم يكونوا بمستواهم ليعتنوا بالزرع وليتوسعوا، ونقصد
أعمال تمام حسان وعبد القادر الفاسي الفهري وعبد الرحمن الحاج صالح، وأكثر ما
نخشاه أن ينبهر الجيل الجديد بهذه الأعمال فلا يرى بسبب نورها شيئاً يمكن أن يضاف
أو يستدرك أو يعدّل أو يصحّح، فضوء الأستاذ أحياناً يعمي التلميذ.
ولا
فائدة الآن من أن نقول إن منهجيات التفاعل اللسانيّ مع الثقافة العربيّة كان
الأفضل لها أن تكون وفق كذا وكذا، لأن ما حصل قد حصل، لكن ينبغي الخروج من التيه
بالإجابة عن الأسئلة التي تطرحها اللسانيات، والقبول بها شريكاً في تحديث الدرس
اللغويّ من غير نسيان المنطلقات المعرفيّة المؤسّسة لعلوم اللغة العربيّة، ولا
سيما في علم النحو.
أما
علم الصرف والأصوات فللسانيات فيهما أن تجلِّي وتعطي أحسن النتائج لأنّ الدراسات
الصوتية تجريبيّة؛ لهذا كان حظّ اللسانيات الصوتية أحسن بكثير من اللسانيات
النظريّة المجرّدة، كما في أعمال عبد الصبور شاهين، وكمال بشر والطيب البكوش،
وسمير استيتية وداود عبده وغيرهم، لأن طرحهم كان هادئاً ومعتمداً النتائج العلميّة
في اللسانيات الصوتيّة مثل مسألة الفرق الصوتي الحقيقيّ بين الصوامت والصوائت، وما
يستدعيه هذا الفرق الحقيقي في إعادة وصف بعض دروس الصرف والنحو، كالإعراب التقديري
والميزان الصرفي والإعلال والإبدال وأصل الاشتقاق والصوائت الصوتيّة، لكن هذه
النتائج الجيدة للسانيات الصوتيّة لم تأخذ حيّزها الحقيقي اللائق بها في الكتب
المدرسية المقررة في معظم الدول العربية فبقيت آراء علمية يتداولها مدرسو الجامعات
مع طلبتهم في مواد الأصوات والصرف واللسانيات مع أن قيمة هذه المنجزات هي في
التوسع بالأخذ بها وتطبيقها، فالإيمان الحقيقي بأن الألف في العربيّة صائت طويل لا
يكون مكتمل الدلالة إلا عندما يصبح الطلبة في المدارس التي تسبق مرحلة الجامعات
قادرين على أن يقولوا إن الألف في مثل (قال) ليست منقلبة عن الواو، وليست حرفاً بل
هي صائت طويل نتج عن اجتماع فتحتين بعد حذف الواو الأصليّة فهي حركة طويلة ووزن
الكلمة (قال) ونوع الإعلال إعلال بالحذف، وليس ثمة قلب.
استثمار
منجزات اللسانيات في العربيّة: مؤهلات النجاح وأسباب الفشل:
لا
نستطيع الحديث عن الأسباب التي حالت دون استثمار منجزات الدرس اللساني في الثقافة
العربيّة بمعزل عن توضيح مؤهلات النجاح التي لم تؤتِ ثمارها المبتغاة منها، ذلك أن
مؤهلات النجاح نسبيّة، وأسباب الفشل نسبية.
1-
مؤهلات النجاح:
كان
الاتصال الحقيقي بين علماء العربيّة واللسانيات سريعاً في زمنه، فلم يكد نصف قرن
يمضي على ظهور اللسانيات حتى كان بعض اللسانيين العرب يدرسونها في الغرب مثل
إبراهيم أنيس وداود عبده وتمام حسان وكمال بشر وغيرهم، وهذا يعني أنّ الغرب سبق
العرب بنصف قرن من الجهود اللسانيّة الحقيقيّة، وكان بالإمكان تجسير هذه الهوة
بسرعة بهضم اللسانيات العالميّة بل وبالإسهام الحقيقي في تطويرها والمشاركة في
المجهود العالمي في الدراسات اللسانيّة، لأن وسائل الاتصال السريع كانت تحمل بشرى
بناء علاقة لسانيّة إيجابيّة بين اللسانيات من جهة والثقافة العربيّة من جهة أخرى.
والروّاد
الأوائل كانوا على مستوى عالٍ من الإدراك العلمي، مما يسّر لهم فهم المعطيات
اللسانيّة غير العربيّة بسرعة وإتقان، فهُمْ بصفتِهم الشخصيّةِ العلميّةِ من
مؤهّلات نجاح الخطاب اللساني في الثقافة العربية، وسيرتُهم العلميّة تؤكد أنّ كلّ
واحد منهم مؤهّل تأهيلاً عالياً ليكون في المستقبل عالم لسانيات، لأنّ معظمهم إن
لم يكن كلهم كانوا مبتعثين من جامعاتهم لإكمال دراساتهم العليا، وعادة ما يكون
المبتعثون من أوائل الأقسام، وهذا الابتعاث يشير إلى وعي مبكر إيجابي من المسؤولين
عن التعليم العالي آنذاك لأهمية دراسة اللسانيات بفروعها المختلفة.
يضاف
إلى هذا أنّ العقليّة العربيّة تهتم بدراسة علوم اللغة حتى إن ثاني أكبر شريحة
علميّة في الحضارة العربيّة الإسلاميّة هي شريحة علماء اللغة والنحو، وهذا يدل على
اهتمام بالغ بعلوم اللغة على مستوى الأمة، عدا أن اللسانيين الأوائل استثمروا
وقتهم بشكل ممتاز فمارسوا الكتابة اللسانيّة فور عودتهم إلى جامعاتهم والتحاقهم
بالعمل الأكاديميّ، لهذا فما قد نراه عملاً لسانياً متميزاً وغير متميز قد يكون
نتاج الجهد العلمي الأول بعد مرحلة الدكتوراه.
ومع
هذه المؤهلات الدافعة للنجاح إلا أنه ثمة أسباب موضوعية تحول دون استثمار منجزات
الدرس اللساني بالشكل المرجو.
2-
أسباب عدم النجاح (الفشل النسبي):
يبدو
أن مرجع ضياع الجهود اللسانية إلى حدّ ما يعود إلى أنها كانت جهوداً فردية من
أفراد محدودين معدودين ولم تكن جهوداً جماعية لفرق علميّة أو مؤسسات بحثيّة، مع ما
شاب هذه الجهود من عدم التنسيق بين اللسانيين ومؤسساتهم التي يعملون فيها، فلم
تتبنَّ أي مؤسسة مشروعاً لسانياً على المستوى العربيّ، له حدوده الدنيا من
المواصفات العلميّة للمشروع اللسانيّ.
ويبدو
أنه قد رافق عدَم التنسيق والفردية تخوّفُ المشتغلين بعلوم العربيّة آنذاك من أن
تكون اللسانيات فكراً لغوياً مضاداً للفكر اللغوي العربيّ يسعى إلى تجريد الثقافة
العربيّة من أهمّ علومها اللغوية وهو النحو، فتكون البيئة الثقافية غير مهيأة
لتقبل الطرح اللسانيّ، ولا سيما أن هذا الطرح كان الأفضل أن يمرّ بمرحلة التعريف
بعلم اللسانيات بالترجمة أو بالتأليف قبل الانتقال إلى تفعيل المعطيات اللسانية في
الثقافة اللغويّة العربيّة.
يضاف
إلى هذا أن معظم الجامعات العربيّة قد تأخرت في إدخال مادة اللسانيات بأسمائها
المختلفة إلى المقررات التعليميّة لمرحلة البكالوريوس أو الدراسات العليا حتى إنّ
بعض الجامعات العربيّة لم تعتمد مادة اللسانيات في أيّ مرحلة من مراحل التدريس
فيها حتى الآن، وهو التوجّه الذي يعكس شيئاً من عدم إدراك أهمية هذا العلم الوافد
في تحديث الدراسات اللغويّة؛ ويقلل بالنتيجة من إقبال الطلبة على دراسته في
الجامعات الأخرى، الأمر الذي ينعكس سلباً على نسبة المتخصّصين في اللسانيات إلى
غيرهم من متخصّصي العلوم اللغويّة في الجامعات العربيّة، وهي نسبة متواضعة لا
تتناسب مع الآفاق التي تفتحها اللسانيات.
وقد
يضاف إلى هذا وجود شكلين غير طبيعيين من الباحثين اللسانيين: الشكل الأول يتمثل في
باحثين حاولوا عوربة اللسانيات وأسلمتها بمعنى محاولة إيجاد صيغة لسانيّة تنطلق من
الموروث العربيّ لا من معطيات علم اللسانيات الحديثة، فأخذوا من اللسانيات ما
وجدوا له مثيلاً في الدراسات العربيّة، وما ناقضه درسوه تحت عنوان "التناقض
بين المذاهب الألسنيّة الحديثة" للوصول إلى معادلة (لسانيات حديثة) في مقابلة
(نحو واحد)، وهذا الشكل من الباحثين لا يمكن أن يضمّ إلى فئة الباحثين اللسانيين
بالمفهوم العلمي العالمي.
أما
الشكل الثاني فيتمثل بمجموعة من اللسانيين الذين تخصّصوا في دراساتهم الجامعية
بالموروث اللغوي لكنهم قرأوا عن اللسانيات وتثقفوا بها مجاراة لموضة العصر الحديث،
وطرحوا أنفسهم بوصفهم لسانيين، وما هم كذلك، لأن معرفتهم اللسانية غير منظمة بل
غير مؤسسة على تصوّر صحيح حقيقي للسانيات علماً ومنهجاً. وهذان الشكلان لهما وجود
قوي في جامعات المشرق العربي ولا سيما في العراق وسوريا.
إذن،
يوجد في العالم العربيّ لسانيّون ولا توجد لسانيات، وتوجد لسانيات ولا يوجد
لسانيّون، وهاتان نتيجتان لا تكامل بينهما، فعندما وجد اللسانيون وكثروا غابت
الصياغة العلميّة التي تبين للقارئ العربيّ المتخصص والمثقف مفهوم العلم اللساني؛
لأنها تجاوزت هذه النقطة إلى طرح القضايا التفصيليّة، وقد نستثنى من هذا المأزق
كتب مازن الوعر التي تلت أطروحته "نحو نظرية لسانيّة عربيّة حديثة" وكتب
عبد الرحمن الحاج صالح.
أما
وجود اللسانيات بلا لسانيين فيرجع إلى تداخل الطرح اللساني بين التأليف والترجمة
والتقريب والاختيار والحوار وحصر اللسانيات بمنهج واحد من مناهجها مع أنها تتوافر
إلى حد كبير على مبادئ داخلية عامة واحدة تسمح بالتنّوع منذ أيام دوسوسير
وبلومفيلد.
فأزمة
اللسانيات أزمة طرح، ينضاف إلى هذا أنّ ترجمةَ الكتب اللسانيّة إلى العربيّة
ترجمةٌ ضعيفة بشكل عام باستثناء ما قام به اللسانيّون المحترفون مثل حمزة المزيني
ومحمد فتيح، فأولهما لسانيّ متميز في نقل الخطاب اللسانيّ ولا سيما (التحويلي) إلى
الثقافة العربيّة بلغة علميّة واعية على الثقافتين الغربيّة والعربيّة باتزان
وانفتاح، وثانيهما أنطق كتاب"المعرفة اللغويّة" لتشومسكي بلغة عربيّة
علميّة محاورة لنقاط الافتراق والاتفاق بين المشروعين اللغويين اللساني الغربيّ
واللغويّ العربيّ.
وقد
تثير هذه الترجمات سؤالاً جوهرياً مؤداه: لماذا يتجاوز بعض المتميزين التأليف
اللساني إلى الترجمة اللسانيّة؟! هل الثقافة العربيّة بعد نصف قرن ثقافة رافضة
لتداول اللسانيات بين الباحثين العرب أم أن الباحثين العرب لم يستطيعوا اللحاق
بسرعة التغيّرات اللسانيّة في العالم، فاختاروا الترجمة لمسايرة التطوّر الهائل في
الدراسات اللسانيّة في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكيّة؟!
لسانيات
بلا حدود:
إن
سرعة التطور في الدراسات اللسانيّة الغربيّة استرعت انتباه المؤرخين إلى التأريخ
لتطورات الدرس اللسانيّ، لأن اللسانيات من أسرع العلوم نمواً وتطوراً وتشعباً في
المناهج والرؤى والآفاق والإنجازات، ففي الوقت الذي نتحدث فيه عن أعمال تشومسكي
ندرك بوضوح المراحل التي مرت بها النظريّة التوليدية التحويليّة، ولكل مرحلة
نظرياتها وتقنياتها وعلماؤها المختصّون فيها، وكذلك الأمر مع التداولية والوظيفية
وصولاً إلى اللسانيات الحاسوبيّة، لكنّ هذا التشعب اللسانيّ لا يولد صراعاً بين
علماء المراحل والتطورات في الغرب لأنهم ينطلقون من رؤية موحدة تقريباً لعلميّة
علم اللسانيات، لكن الأمر في الثقافة العربيّة المعاصرة يتخذ شكلاً سلبياً من
أشكال الصراع تحت اسم (اختلاف المناهج اللسانيّة)، وهو في الحقيقة ناتج من نواتج
عدم تجاوز الانبهار بأساتذة اللسانيين العرب في الغرب؛ لأن بعض اللسانيين العرب
يتحدثون عن أساتذتهم في الغرب كما لو كانوا وحدَهم الذين عبروا بحار اللسانيات،
وبالتحديد العلميّ تحوّل الأستاذ اللساني الغربيّ إلى حجّة لسانيّة على صحة
المعلومات اللسانيّة عند بعض المتخصّصين في العالم العربيّ بدل أن تكون اللسانيات
نفسها هي الحجة العلميّة، وهذا المأزق يذكر بالنحاة المتأخرين الذين كانوا يرجّحون
رأياً في النحو أو الصرف بناءً على تبني أستاذهم له من غير أن يذكروا أدلة
أستاذهم، وهذا يعني تحوّل العلم الواحد إلى شخصيات مختلفة، والشخصيات من طبيعة
تعايشها الخلاف والاختلاف، فاللسانيات بلا حدود لكن الأشخاص يغلب أن تكون بينهم
الحدود، وهذه الحدود تزول عندما يقرأ الآخر الآخر، لأنّ قراءة الآخر اعتراف بوجوده
العلميّ، أما الانكفاء على الذات فيضيق ما اتسع.
وقد
يؤدي هذا إلى القول بوجود صراع بين بعض اللسانيين في الجامعة الواحدة إذا كان كل
واحد منهم قد تخرج في جامعة تختلف في منجزاتها اللسانيّة عن جامعة الآخر، وقد تصل
الأمور حدّ شخصنة العلم اللساني بمقولة أنا اللسانيات وغيري لا، وهذا المأزق يذكّر
ببدء مرحلة العقم في تاريخ النحو العربيّ، ففي القرن الرابع حاول أبو علي الفارسي
الاستئثار بعلم النحو، فكان يردد"النحو ما نقول لا ما يقوله الزجاجي
والرمانيّ والسيرافيّ" وكلهم متعاصرون بل تلامذة لأستاذ واحد، وهو ابن
السرّاج.
إنّ
مقولة أبي علي الفارسي كانت بداية مرحلة العقم في النحو العربيّ، وهي المقولة
نفسها بألفاظ مختلفة التي تسود بعض المؤسسات العلميّة بين اللسانيين، لكن الفارق
أن مقولة الفارسي كانت مسبوقة بإنجازات هائلة في تأسيس النحو العربيّ وتطويره،
لكنّ اللسانيات في العالم العربيّ لم تحقق وجودها الكامل حتى تصل إلى هذه المرحلة،
فهل عقدة الفارسيّ ما تزال تعيش بيننا بعد أكثر من عشرة قرون؟
يحارُ
المدقق في أي بحث أو كتاب لأي لساني في العالم العربيّ من ظاهرة إغفال الآخر، فنجد
نسقاً غريباً بين اللساني ومراجعه العلميّة، في الوقت الذي نجد فيه إهمالاً
لكتابات عربيّة مفيدة ومفيدة جداً أحياناً لذلك البحث أو الكتاب؛ نجد اختياراً
زُمرياً محدداً له خصائصه التي تدلّ على إهمال الآخر. فهل المعاصرة منافرة
والمجايلة مفاصلة؟! حتى في هذا العلم الذي يحمل مسؤولية نجاحه أو فشله كلُّ
المشتغلين به عن قريب أو عن بعيد؟
قد
تكون المشكلةُ مشكلةَ التواصل العلميّ بين القاطنين في هذا العالم العربي الواسع
من المحيط إلى الخليج، لكنّ هذه المشكلة تزول بسهولة في ظلّ تقنيات الاتصالات
السريعة بأشكالها المختلفة، وعندها قد تبرز مشكلات أخرى مثل أزمة المصطلح، وأزمة
فَهْمِ التراث وأزمة فَهْمِ اللسانيات، وأظنها هي الأزمات التي يعبّر عنها بسراب
الحدود الجغرافية، لأن العلم بلا حدود واللسانيات علم.
ونعود
إلى المعادلة غير المتوازنة بين اللسانيات والنحو، أو بصيغة أخرى اللسانيات
والموروث اللغوي العربيّ لنوضّح أنّ اللسانيات علم صديق لكل الدراسات اللغويّة على
مختلف لغاتها؛ لأنها علمُ شكلٍ ومنهجٍ وأسلوبٍ وطريقةِ معالجةِ وبحثٍ، وليستْ
بالضرورة الحتميّةِ فكراً جديداً، فهي كأيّ أداة حضاريّة يستعملها البشر من غير
التفكير بفكر صانعها مثل السيارة أو أي آلة أخرى، وهذا يعني أنّ اللسانيات ليست
بديلاً عن النحو العتيد ولا الصرف التليد ولا المعجم المجيد، فهي إن دخلت هذه
العلوم أعادت تنسيقها وتحديثها؛ لتخرج بثوب جديد لكنه لا يلغي الأصول الصحيحة،
ولننظر إلى الموروث اللغويّ العربيّ على أنّه برجٌ شامخٌ قديم يحتاج إلى كهرباء
تضيءُ بداخله، ولونٍ يزهو به، وتغييرِ بعض النوافذ، وتحويرِ بعض المرافقِ والغرف؛
لكي يبقى صامداً قائماً بعمله، وهذا يعني أن اندماج اللسانيات بالعلوم اللغويّة
العربيّة سيعيد إنتاجَها من جديد، وهذه الإعادة تحديث لا بدَّ منه عاجلاً أو
آجلاً، ولا سيما في علم الأصوات والمعجم والموازين الصرفيّة.
وقد
نتأخر بالرضا عن هذا الاندماج، ولكن لا مفرّ منه للمحافظة على بريق العربيّة؛ لأنّ
اللغة بوصفها حقيقةً استعماليةً تبقى قائمةً ما دام أهلُها يتحدثون بها ويكتبونَ
بها، لكن علومها ليست من قبيل الحقائق بل من قبيل آليات وصف الحقائق، وهذه الآليات
قابلة للتغيّر لأسباب مختلفة، وقديماً مارس البصريون والكوفيون الاختلاف في آليات
وصف الحقائق وتقنينها من غير تغيير الحقائق فكلمة (زيد) في جملة (يا زيدُ) آخرُها
ضمة، هذه هي الحقيقة الاستعمالية الناجزة، أما آليات وصفها فمختلفة، هي عند
البصريين ضمة بناء في محل نصب، وعند الكوفيين ضمة رفع فلا بناء ولا نصب، فلماذا
جاز لهم قديماً الاختلاف في آليات وصف الحقائق وتقنينها ولا يجوز للسانيات الآن أن
تنضاف إلى هذه الآليات لتقترح رأيها غير الملزم؟
النحو
شيء واللغة شيء آخر، والصرف شيء واللغة شيء آخر، لأن اللغة العربيّة حقيقة لكن
النحو والصرف علمان بآليات وصف هذه الحقيقة وتقنينها وتفسيرها وتعليمها، إذا أخذنا
بهذه الحقيقة فسنعرف أن اللسانيات تحمل وعداً صادقاً بإعادة وصف اللغة نحواً
وصرفاً وصوتاً ومعجماً لا إعادة اللغة نفسها، فلغتنا باقية ببقاء مركزها اللغوي
وهو القرآن الكريم، فلا خوف عليها من منهج يقنّنها أو يفّسرها ما دام لا يلغي
وجودها، واللسانيات تقوم على وجود اللغات فكيف تلغيها؟
من
الغريب أننا نمارسُ إعادة إنتاج التراث كثيراً، ونظن أننا لا نفعل ذلك، فنحن نطرح
النحَو بأمثلة معاصرة ولغة سهلة مفهومة معاصرة، ولا نتقيد تماماً بعبارات سيبويه
وابن السراج وابن يعيش، في الوقت الذي لا نخرج فيه قيد أنملة عما أصّلوه في كتبهم
من قواعد وصفيّة ومعياريّة.
إنّ
أي كتاب جديد في وقته هو إعادة إنتاج في الشكل والصياغة للعلم نفسه، لكن اللسانيات
إعادة إنتاج واسعة تتجاوز الصياغة إلى فحص أساليب صياغة المفهوم النحوي والقاعدة
النحوية بل وطرائق بناء هذه المفهومات والقواعد، ويبدو أن بعض اللسانيين العرب
يعيشون حالة انفصام في الشخصية العلمية عندما يعلمون شيئاً، لكنهم في أبحاثهم
العلمية يكتبون شيئاً آخر مختلفاً عما يعلمونه، ولا موجب لسرد أمثلة كثيرة على هذا
الانفصام.
الفجوة
اللغوية "الجاذبيّة القاتلة":
وتخفي
معادلةُ النحو واللسانيات معادلةً أخرى أصعب وأخطر، يحل فيها مصطلح التراث محل
مصطلح النحو ليظهر أمامه مفهوم العولمة بدل اللسانيات، وهذا يعني أنّ اللغة
العربيّة يتجاذبها محوران، الأول: الماضي الموروث، والثاني الحاضر الذي يتشكّل تحت
اسم العولمة، والانجذاب نحو أيّ منها ينذر بالخطر، فالماضي الموروث في اللغة يعاني
ضعفاً كبيراً في التنظير على مستوى النحو والمعجم والصوت والتعليم والتعلم والبحث
كما أشار تقرير التنمية الإنسانية لسنة 2003م، وهذا الضعف حقيقة يقرّ بها كلّ
المشتغلين بعلوم العربيّة، لكنهم يختلفون بعد ذلك في وسائل معالجة هذا الضعف.
وهذا
الاختلاف في الحقيقة جوهر المشكلة، لأنه ليس اختلافاً في الوسيلة فحسب بل هو
اختلاف دالّ على ضبابية إدراك الأبعاد التنظيرية الموجّهة للإصلاح اللغويّ، فمفهوم
النظرية اللغويّة غائب إلى حد كبير عن أذهاننا بسبب الخلط بين قوانين اللغة
ونظرياتها، وبشكل عام فنحن نعيش في قوانين اللغة، ولا يستطيع معظمنا أن يخرج منها
إلى عالم أرحب هو عالم النظرية المؤسّسة لهذه القوانين، وإن خرج إلى هذه النظرية
فإنه يكتفي بالطرح الجزئي المتداول في أعمال بعض القدامى مثل الزجاجيّ في كتابه
الإيضاح، وابن جني في كتابه الخصائص، وابن الأنباري في كتابيه الإغراب واللمع،
والسيوطي بعد ذلك في الاقتراح.
وقد
بات واضحاً أن بعض المعالجات اللغوية الموروثة هي من قبيل الأوهام غير العلميّة،
فالحديث في النحو عن مواقع إعراب أسماء الشرط والاستفهام حديث غير دقيق؛ لأنّ هذه
الأسماء أدوات في فصيلة الحروف، وليست أسماء في الحقيقة، ولا مسوّغ للقول بالإعراب
بالنقص حين تجعل بعض الأدوات مستبدلات، مثل إعراب (من) في عبارة
-
مَنْ يقرأ النحوَ يعجبْ به
اسماً
مبيناً في محل رفع مبتدأ، مع أنها حرف لا يسدّ عن المبتدأ، لأنها لا تجمع مواصفات
الاسم إلا بتقدير الاستبدال، وهذا التقدير غير دقيق، وليصبح الأمر أوضح ننظر في
إعراب (من) في تركيب:
-
من غابَ عن المؤتمر؟
إذ
يعربها النحاة اسمَ استفهام مبنياً في محل رفع مبتدأ، وهذا الإعراب يقرّ بوجود
مبتدأ ضمني، لكن هذا الإقرار غير دقيق لأن فيه مساواة بين الجملة الإنشائية غير
التامة والجملة الخبرية التامة، فإذا كان المبتدأ في حكم الموجود، فعلامَ نستفهم؟
والحديث
في الصرف والأصوات عن تفسير الإعلال والإبدال والإدغام فيه أوهام تحتاج إلى إصلاح،
والحديث في المعجم عن حكايات خرافية لأسباب التسمية فيه أوهام، مثل قول بعض
اللغويين إن رجلاً أمسك طائراً جميلاً وحبسه في قفص، وألزمه التغريد فيه، لكن هذا
الطائر عصى أمر الرجل وفرّ من قفصه، فسمي بعد ذلك (عصفوراً) من الكلمتين (عصى
وفرّ).
إذن،
فالانجذاب إلى الماضي الموروث بكل ما فيه أمر قاتل، ويكفي أنه أثر من آثار عقدة
الشعور بالكمال.
وأما
الحاضر وما فيه من عولمة فلا يقل خطراً عن الانجذاب للماضي، فاللغة العربيّة في
ظلّ العولمة تعاني من فجوة هائلة في التعامل مع وسائل المعرفة الحديثة بسبب تلوين
الإنتاج البشري المعرفي باللغة الإنجليزيّة حتى إن إسهام العربيّة لا تكاد تذكر،
وهذه الهيمنة للغة الإنجليزية عولمة تحمل في طياتها خطراً كبيراً على اللغات
الأخرى، استشعرته بعض الدول حين خافت على كفايتها القومية اللغوية مثل فرنسا، فنشأ
ما يسمى بمحور الفرانكفونية؛ لكي يكون درعاً واقياً للغة الفرنسية في مواجهة اللغة
الإنجليزية الطاغية على عالم الوسائل الحديثة في التواصل.
والعربيّة
الآن بين أمرين: أولهما الانجذاب إلى الوقوع في فخ عولمة اللغات، وقد تكون
الإنجليزية هي الأقرب، وبذلك لا نخسر حرباً أو معركة بل نخسر في الحقيقة وجودنا،
فاللغة هوية الأمة بأفكارها وعاداتها وتقاليدها وتاريخها، ولا أظن أننا يمكن أن
نتخلى عنها، لأننا من أكثر الأمم حبّاً للغتها حتى وصل هذا الحب عند البعض إلى
درجة التقديس.
وأما
الأمر الثاني فإعادة تحصين اللغة العربية على مستوى النحو والمعجم والصوت لتكون
شريكاً في مجتمع العولمة؛ له شخصيته المميزة له، وهذه الشراكة لها شروط قد تكون صعبة لكن لا بد منها،
وأهمها تقديم أنموذج موحد لخطاب لغوي عربيّ عصري، وهذا الخطاب لا مناص فيه من
الإفادة من اللسانيات بفروعها المختلفة؛ لكي نطرح بعد ذلك تنظيراً صحيحاً وتطبيقاً
صائباً للنحو والصوت، وهذا الطرح بحاجة إلى الأخذ بوسائل غير لغوية لكنها ضرورية
للغة وأهمها حوسبةً اللغة العربيّة حوسبة حقيقيّة تتجاوز مجرد حوسبة الطباعة إلى
حوسبة قوانين اللغة، والأخذ بمعطيات اللسانيات الحاسوبية بالمعالجة الآلية للغة،
فاللغة العربيّة لغتنا، فإذا لم نقم نحن بعبء حوسبتها فمن يقوم به إذن؟
ولا
يغيب عن الذهن أنّ النموذج الموحد يتجاوز قضايا تعددية اللهجات في العالم العربيّ،
وازدواجيتها، ومستويات الفصاحة أو الصواب، لأن وجود اللهجات حقيقة مرافقة لمعظم
اللغات، ولا خوف منها على اللغة الموحدة، ما دامت لهجاتٍ محدودة التداول أو
الانتشار، لأن محدوديتها لا تجعل منها خصماً للغة العربيّة الموحّدة.
ويبدو
أن المعالجة الآلية ستفرض حتمية تأسيس الفِرَقِ العلميّةِ، فالحوسبة لا يقوم بها
لساني أو نحوي أو حاسوبي وحدَه بل هي نتاج تضافر جهود فريق علمي يجمع عالم الحاسوب
بعالم النحو وعالم الصرف وعالم الصوت وعالم المعجم وعالم الاجتماع وعالم الإعلام
و...، لأنّ الفريق العلمي هو القادر على النهوض بهذا المشروع، ولعل غياب هذا
الفريق هو السبب في فشل كثير من المعالجات الآلية للغة بسبب نقص مختصّ في الحاسوب
أو اللغة أو الاجتماع، وكل المشكلات الفنية يمكن تجاوزها من خلال تحاور هذا الفريق
العلمي.
وقد
يطرح بعض الباحثين المجامع اللغويّة بوصفها نواة للفِرَق العلميّة التي تسعى
لتطوير إدراك الناطقين بالعربيّة للغتهم وتحديث هذا الإدراك بالأبعاد الحديثة في
اللسانيات، لكن المجامع العربيّة اللغويّة تعاني من ضعف في التمويل المالي، وفي
الاتفاق على رؤية شبه موحدة للغة العربيّة، فهي إلى الآن لم تتفق بشكل عملي على
قوانين كتابة الهمزة في العربية، وهذه المجامع تشبه إلى حد كبير مجالس الحكماء
المعروفة عند اليونانيين، فهي مجامع لكبار السنّ من العلماء، وهؤلاء في معظمهم
فقدوا حماستهم للمشروع اللغويّ بسبب الزمن، كما أنّ هذه المجامع في معظمها تفتقد
إلى سياسة استشرافية وخطط إستراتيجية لعملها في المستقبل، لأنّ مشاريعها تقوم على
أشخاص ترتبط بهم، فإن هم انشغلوا أو فارقوا الحياة ماتت مشروعاتهم، وما حديث
المعجم التاريخي والمعجم الكبير ببعيد عن ذاكرتنا.
وقد
تكون المجامع اللغوية مقيدة بتعليمات وقوانين تحدّ من حركتها كثيراً بل تجعلها
عاجزة عن القيام بعملها، مما يعني أن أزمة المجامع اللغويّة لا يمكن الخروج منها
على المستوى المحلي أو الوطني؛ إذ هي بحاجة إلى تفعيل ربطها بمؤسسة واحدة قويّة
على مستوى العالم العربيّ شرط أن تقوم تلك المؤسسة بتوحيد المنطلقات التأسيسية
لهذه المجامع ثم توزيع العمل عليها وتنسيقه، لا أن يعمل كل مجمع كما يشاء، فما
دامت اللغة للجميع، فالمجامع للجميع، وطبيعة عملها يجب أن تتنافى مع وجود أجندة
خاصة بها إلا على صعيد التكامل في التنسيق وتوزيع المهام، وعلى أية حال فالحديث عن
المجامع حديث ذو شجون.
إذن،
فلا مفرّ من الوصول إلى حالة توازن بين الماضي الموروث والعولمة الحاضرة.
الفكر
اللسانيّ العربيّ والفكر اللسانيّ الحديث: تلاقٍ أم طلاق؟
شهد
القرن العشرون إعادة إنتاج لجوانب كثيرة من الفكر اللسانيّ اللغوي العربيّ بفعل
أسئلة عصر النهضة الحديث، وهذه الإعادة في الحقيقة كانت دليلاً دامغاً على أنّ
الفكر اللسانيّ العربيّ لا يتجاوز عمره القرون الأربعة الأولى من الهجرة، لأن زمن
الإبداع بعد ذلك قد تجمد باستثناءات قليلة هنا وهناك، فالنحو بطبيعته نشاط عقليّ
وإن كان يقوم في أساسه على الدليل النقلي المتمثل بالسماع، ولهذا كان إعمال العقل
في القرون الأولى سبباً في تشييد صرح ضخم لعلم النحو بسرعة مذهلة بمقاييس ذلك
الزمان، لكن الحضارة العربيّة الإسلامية بشكل عام وإلى حدّ ما تحولت بعد ذلك من
المنهج العقليّ غير المفارق للمنهج النقلي إلى المنهج النقلي البحت، فتجمدت العلوم
ذات الطبيعة العقليّة كالنحو، وأصبح التأليف فيه إعادة تشكيل للمادة النحوية على
شكل مختصرات أو شروح أو ألفيات شعريّة أو حواشٍ أو تعليقات أو نكت من غير النظر في
طبيعته العقليّة لتجديده أو لتأكيد نظرياته بوسائل جديدة، أو أدلة جديدة.
وعندما
جاء عصر النهضة متزامناً تقريباً مع بزوغ الفكر اللسانيّ الحديث برزت أسئلة حوار
الآخر، فهل ثمة توافق بين الفكر اللسانيّ العربيّ والفكر اللساني الحديث أم هل ثمة
اختلاف؟ وبصورة أدقّ من يدور حول الآخر وما المسافة العلميّة بينهما؟
وكانت
الإجابات سبباً في توسيع الهوّة، فهناك من ذهب إلى أنّ الفكر اللسانيّ العربيّ فكر
كامل غير مفتقر إلى الفكر اللسانيّ الحديث، فراح يعيد مقولات القياس والعوامل
والعلل، ويدلل على نجاحها بالعامل الزمني، فالفكر الذي يصمد ما يقرب من اثني عشر
قرناً فكرٌ لسانيّ متطور ناجح، ولهذا شهدنا كتباً نحويّة في عصر النهضة لا تختلف
عن المادة النحويّة المشكّلة في القرون السابقة، كأن الزمان ما تغيّر وإن تبدّل
الأشخاص، وشهدنا داخل هذا الاتجاه من يدّعي الحداثة والتطور بدليل دخول أمثلة جديدة،
فحلّ (خالد وسعيد وباسم ورباب) محل (زيد وعمرو وعبد الله وفاطمة)، وحلت جملة (قطفت
القطن) محل جملة (أكلتُ التمر)، وهذا الاستبدال في الحقيقة استبدال شكلي لم يضف
إلى جوهر الفكر اللساني العربيّ شيئاً وإن ساعد إلى حدّ ما على تحسين طرائق تدريس
النحو العربي.
وراح
فريق ثان يناقش نظريات النحو والصرف، ويهاجم منها ما يشاء بدواعي الخرافة وعدم
العلميّة وتعقيد النحو والصرف، وعدم الإقناع بل وعدم المناسبة لعصر النهضة الحديث
مثل إبراهيم مصطفى الذي انتفضَ على نظرية العامل، والدكتور المرحوم شوقي ضيف الذي
وجد ضالته في آراء ابن مضاء عندما أعاد الحياة إلى كتابه (الردّ على النحاة)
وحقّقه في منتصف القرن العشرين، لكنّ هذا الاتجاه يعاني عدم ثبات في الرؤية
المنهجيّة للفكر اللسانيّ، فعلى سبيل المثال نجد الأستاذ الكبير عباس حسن في كتابه
الرائع (اللغة والنحو بين القديم والحديث) يتحدث عن أدواء الفكر اللساني العربي
الموروث في القياس والاستشهاد والتعليل والعامل والأوهام النحويّة، لكنّه في
موسوعته المعروفة باسم (النحو الوافي) يعود إلى بوتقة الفكر اللغوي النحوي الذي
انتقده، ويتّحد في شخصيته مع شخصية الرضيّ الأستراباذي شارح الكافية والشافية في
القرن السابع الهجري، فلا يكاد يختلف عنه، والمأزق الكبير عند هذا الفريق يتمثل في
أن الهدم لا يقابله البناء اللسانيّ، فإذا أثبتَ باحثٌ ما أن نظرية العامل لم يعد
لها سلطان على النحو، فإن هذا الإثبات لا يعدّ إضافة علميّة ما لم يقدّم البديل
العلميّ القادر على تفسير انتظام الظاهرة اللغويّة.
وراح
فريق ثالث يطرح الفكر اللسانيّ الحديث بسبب إطلالته عليه في أوروبا وأمريكا مثل
روّاد الحركة اللسانية العربية: إبراهيم أنيس وتمام حسان وعبد الرحمن أيوب وكمال
بشر وغيرهم، لكنّ هذا الطرح كان آنذاك أقرب ما يكون إلى محاكمة غير عادلة للفكر
اللسانيّ العربيّ، فهو يطرح مناهج الدراسة اللغويّة الحديثة، وما تفضي إليه من
منجزات حديثة في اللغة والنحو والأصوات، من غير أن يكون هذا الطرح حواراً مع
التراث، أي أننا كنا -وربما إلى حد ما ما نزال- نمثل في مطارحاتنا الفكرية
اللسانيّة وجهة النظر الواحدة التي تغيّب وجهات النظر الأخرى، وهذا يعني أن الفكر
اللسانيّ العربيّ لم يدخل في حوار علمي حقيقي مع الفكر اللساني الحديث ليحدد موقعه
منه، وقد نستثني من هذا الحكم القاسي إلى حدٍّ ما أعمال الدكتور عبد السلام المسدي
والدكتور عبد الرحمن الحاج صالح.
ولعل
هذا التشخيص يفرض علينا إعادة تقييم هذه الاتجاهات بإعادة دراسة تلك الأعمال
بموضوعية علميّة لا تهرب من الماضي لكنها لا ترهن نفسها للحاضر الحديث في الفكر
اللسانيّ العالمي، لأننا بحاجة ماسة جداً إلى وقفة مع الإنجاز الحديث لكي يتعدل
مسار البحث اللسانيّ الحديث، وعندها فقط نستطيع أن نتكلم عن موقع الفكر اللسانيّ
العربيّ من الفكر اللسانيّ الحديث؛ لأننا سنكون قد اطلعنا على الفكرين الاثنين،
وعرفنا صور أزمة البحث اللغويّ الحديث المتمثلة في الخلط بين النظرية والتطبيق،
والخلط بين حدود اللفظ والمعنى، والخلط بين الأصالة والمعاصرة، والخلط بين الثابت
والمتغير، ومعرفة النظرية اللغويّة العربيّة بتنقيتها من الشوائب التي علقت بها
عبر القرون بسبب الممارسات غير الدقيقة للنحاة المتأخرين سواء في الجانب النظري،
وهو المهم، أو في الجانب التطبيقي، وهو النتيجة الطبيعية لسلامة التصور النظري للغة
وعلومها المختلفة.
ولكي
نخرج من هذه الأزمة التي يتناسى بعض الدارسين وجودها ينبغي أن نأخذ بمقتضيات
التخطيط اللغوي السليم، وأن نقبل بتعدد وجهات النظر في الوسائل لا في المنطلقات،
وهذا يعني ضرورة الوصول إلى فكرة المجمع العربي الموحّد للغة العربيّة بحيث تصبح
سائر المجامع اللغويّة فروعاً تنفيذية له، لكي يتولى هذا المجمعُ الموحد التخطيطَ
لتحديث الفكر اللسانيّ العربيّ، ولكي لا تنعكس الأوضاع السياسية والاقتصادية على
اللغة الموحّدة التي تجمع بيننا من مختلف الأصول والمنابت، فالمشكلة اللغويّة
ظِلٌّ للمشكلة السياسية، ولا تحلّ إلا بالتنسيق المنطلق من أنّ اللغة ملك لجميع
الناطقين بها، وليست ملكاً لدولة واحدة من الدولة الناطقة بها.
وفي
ظل غياب المجمع الموحد تغيب الرؤيةُ الموحدة للسانيات وتتكرر المحاولات الفردية،
وتضيع الجهود، وتهدر الطاقات العلميّة المتميزة حتى تصل إلى حدّ التعصب الأعمى
لجهد شخص ما ليس لشيء إلا لأنه من أبناء بلده، وكفى بهذا دليلاً على تخلف
اللسانيات في ثقافتنا، فهي لم تصنع لنفسها الهوية المميزة لها حتى الآن، ولم تتوسع
إلى خارج الحدود اللغوية إلا قليلاً في ميادين علم الاجتماع وعلم النفس مع أنها
توسعت في أوروبا وأمريكا حتى صارت مكوناً أساسياً من مكونات كثير من علوم العصر
الحديث.
وأحسب
أنّ قراءة الآخر: الفكر العربي والفكر اللساني الحديث، والفكر اللساني الحديث
والفكر العربي، هي الكفيلة بدخول الباحث العربيّ إلى عالم الإنتاج اللسانيّ ليصبح
العرب والناطقون بالعربيّة مسهمين حقيقيين في الإنتاج اللساني العالميّ طرحاً
وتطويراً، لأننا نحمل بين ظهرانيينا فكراً لسانياً يمكن أن نطوره، أو نطوّر جوانب
منه لكي يكون طرحاً لسانياً حديثاً على المستوى العالمي، فعلى سبيل المثال يرى
تشومسكي أنه لا تكون عوامل إلا المقولات المعجميّة، أي فصيلة الأفعال والأسماء في
حين يقدم الفكر العربيّ إضافة جيدة إلى هذه المقولة حين يرى أن العوامل يمكن أن
تكون من الحروف المختصة، فالدلالة المعجميّة لكلمة (يقول) تفسِّر تحكّمها العاملي
بالفاعل والمفعول، لكنها لا تفسر تحكم الحرف (لم) بها نفسها عند الجزم، وإن كان
الحرف ليس مقولة معجميّة.
كما
أحسب أن قراءة الآخر تعني البحث عن مواصفات جديدة للباحث اللسانيّ تتجاوز المعرفة
بفرع من اللسانيات إلى ضرورة معرفة الفكر اللسانيّ الموروث مقروناً باللسانيات
الحديثة ومنفتحاً على ثقافات العصر ولغاته، فقديما قال الخليل: إنك لن تعرف النحو
حتى تعرف ما لا تحتاج إليه من النحو.