ص1      الفهرس    المحور 

 

"أفق ديكارتي قبل الأوان"

أو النزعة العقلية عند ابن باجة

 

محمد ألوزاد

يكاد أن يكون ما يميز الحداثة الفلسفية التي بدأت مع الرؤية الديكارتية والأفق الديكارتي هو مفهوم الأنا المفكرة، أي الأنا التي يتعلق وجودها بالتفكير ولكن في نفس الوقت الأنا التي تملك هذا التفكير وينسب لها.

لذلك كان يتعين لبلوغ هذه الرؤية وبلورة هذا المفهوم ليس فقط المرور بمرحلة الشك والتشكيك التي وصفها ديكارت في مدخل (التأملات). بل يتعين أن يعترف التاريخ الفلسفي والعلمي بأن التعقل في ملكية الإنسان. أي أن ينتقل الفكر الفلسفي من مرحلة العقل (المفارق) إلى مرحلة العقل (المؤنس).

وبتعبير آخر فإن الرؤية الديكارتية لقيامها تفتقد واقعة أخرى سابقة تتضمنها ولكنها تستقل عنها تاريخيا بالضرورة ويمكن أن نزعم أن هذه الواقعة (القبلية) من إنجاز أسلاف تعددت أعمالهم . فمفهوم الكوجيطو لا ينبع فقط من سيرة ذاتية وإنما في التقاء هذه السيرة وتقاطعها مع (سيرة الحكمة). ونعتقد أن ابن الصائغ ( أبي بكر بن باجة) أحد هؤلاء الأسلاف الذين وإن ظلت مساهمتهم الفلسفية معزولة ومغمورة ، فهي حلقة هامة في أنسنة العقل منذ أن اكتشفه أنكسا غواراس في نظام الكون ومنحته المذاهب المتعاقبة "الصفة الإلاهية".

سنحاول أن نثبت أن قضية اتصال العقل بالإنسان في نصوص ابن باجة تتجه لأن تنقلنا إلى هذه الواقعة المضمرة في الكوجيطو : واقعة انتساب التفكير للإنسان كانتساب الحس والفعل الإرادي إليه، اتجاه سنتبعه في فقرات من رسائله وأقواله.

في البداية نتساءل:ما الذي جعل ابن الصائغ يهتم بهذه القضية (قضية الاتصال)؟ إن الدافع الذي يصرح به مرارا هو حل إشكالية (الخلود) التي تنحل إلى مسألة تخص التراث الـمشائي، وهي مسألة (المفارقة) في السياق النيوطيقي منذ زمن الإسكندر.

فإذا تعذر أن يمنح (الوجود الجسماني) للإنسان الاستمرارية في عالم الكون والفساد فكيف يمكن للوجود العقلي أن يمنحه هذا الوجود المستمر؟ ذلك أن العقل إذا كان (بطبيعته) خالدا فإنه بطبيعته أيضا (يفارق )الجسم.

في المنطلق يطرح ابن باجة ضمنيا السؤال : ما الذي يجعل الإنسان إنسانا ؟ ومنه يخلص إلى قضية أساسية هي قضية : أنا أفكر فأنا إنسان.

فالإنسية لا تتعلق (بالجسم) كواقعة أساسية، لأن في الجسم إنما يحضر النوع الإنساني بالقوة لا بالفعل. كما أنها لا تتعلق (بالمجتمع) لأن المجتمع لا يكمل إلا بالفكر ولا يكون إنسانا إلا بالفكر: فالحيوان يعرف (تجمعات) غريزية والتجمع البشري ( على الفطرة) تغلب عليه البهيمية.

لكن (الحيوانية) ليست واقعة أساسية لأنها تتناقض مع ( الإنسية) لسببين : السبب الأول أن الإنسان طفرة نوعية في (الكائنات) الفاسدة تماثل طفرة (الحيوان ) بالنسبة (للجماد).

والسبب الثاني : أن كل تماثل (للفعل الحيواني) بـ (الإنساني) إنما هو سلب ونفي لما هو إنساني : يلاحظ ذلك في الفضائل العملية التي لها نظائر في الحيوان حيث يفقد الإنسان ذاته ويصبح خادما لغيره. كما يلاحظ في أفعال الغريزة في الإنسان البهيمي الذي يعد حيوانا في مظهر إنساني.

أنا أفكر فأنا إنسان، قضية ستكرر بصيغ مختلفة في رسائل ابن باجة وأقواله. وتكاد تتضمن كوجيطو باجوي لأنها تعني أن (لا وجود للإنسان ) قبل واقعة (التفكير).

لكن هذا الكوجيطو ليس قائما بذاته، فابن باجة كان يتعين عليه أن يبحث عما يجعل التفكير في الإنسان متحققا بالفعل رغم التسليم المنطقي والطبيعي بحضوره بالقوة في النوع الإنساني.

لم يكن لابن باجة أن يتخلص من هذا الاتجاه الذي رسمه إشكال العقل في كتاب النفس لأرسطو (المقالة الثالثة) : البحث عن أساس آخر للبداهة (فالعقل) في ذاته هو الذي يجعل التفكير في الإنسان ينتقل من القوة إلى الفعل.

لكن ابن باجة سيستخلص من القول بأن ّالتفكير في الإنسان هو العقل القول بأن الإنسان يمتلك العقل عن طريق التفكير: "فأنا أفكر إذن أنا هو العقل."

لابد أن نبين أن لفظ (الأنا) المتكلم وإن كان في العبارة الباجية غير مصرح به، فإنه يحضر ضمنيا وبقوة في ضمير المخاطب ( أنت) أو ضمير الغائب (هو) أو فيما يشبه فعل الأمر. أي حينما تفكر فأنت هو العقل أو عليك أن تفكر لكي تكون (العقل).

فالتفكير هو (عملية ) امتلاك تدريجي ( لما يكون العقل) أي المعقولات أو الصور العقلية، لكنه ليس مجرد حضور لأي معقول أو صورة. فهذا التفكير المختلط ليس له دلالة خاصة. التفكير استحضار لصور صادقة. صور لموضوعات خارجية ( فصدقها يرتبط بالإضافة إلى المحسوسات) وفي قمة التفكير تعدم هذه الإضافة ويستمر الصدق واليقين دون أن يتحول المعقول إلى خيال أو وهم لفظي. تلك إذن تجربة واقعة التفكير ومحكها الحقيقي. ويشعر ابن باجة بحراجة هذه (اللحظة) في القمة ودقتها والتباسها. ويرى أنها لا تتم بالتفكير الاستدلالي السائد في علوم التعليم والعلوم الطبيعية . إنها نظر جديد يمتلك فيه الفكر ( معقوله) خالصا بنظر حدسي مباشر وعبره يكون امتلاك المطلق ممكنا.

ولكن بين (الأنا أفكر) التي تفترض لزوم الاستدلال النظري والإضافة الحسية. والأنا أفكر (التي تتخلص منها) صلة وثيقة وعميقة. فبدون امتلاك الحقيقة، العقلية الاستدلالية الحسية لا يمكن امتلاك الحقيقة العقلية الخالصة، لأن (الأخيرة) هي (الأولى) في ذاتها. فامتلاك الأولى هو شرط لحصول الامتلاك الثاني، فما يحدث في التفكير ليس ( خلق التصورات) أو (المعقولات)، بل استحضارها عبر الحس ثم تصفيتها وتطهيرها وتوحيدها.

من هذا كله يتضح أن العقل الذي نتملكه (بالتفكير) هو هذا المعقول في أكمل صوره. وفي التمثيل المجازي لابن باجة فإننا نرى العقل في المعقولات كما نرى الشمس في الأشياء التي ينعكس فيها ضوؤها. لكن هذا التمثيل المجازي يظل مجازيا لأن (إدراك) الشمس لا يمتلك الشمس بينما إدراك العقل (يعني امتلاكه) : فالتعقل والعقل والمعقول بالفعل يصبح شيئا واحدا.

فنحن نعلم أن ابن سينا سيسخر من هذا التماهي بين التفكير والعقل الذي كان حاضرا في التراث المشائي قبل ابن باجة، وسيعزوه إلى الحشو الذي أحدثه فور فوريوس الصوري في هذا التراث. ولكن خطورة هذا التماهي- والتي سيؤكدها التوظيف الباجي - ولعلها هي التي أزعجت الشيخ الرئيس، تكمن في كونه يهدد بردم الهوة بين الإنسان والعقل الردم الذي يلوح بشروط في فلسفة ابن باجة. ذلك لأن الطريق الباجي لا يمنح هذا الامتياز للجميع : أي للإنسان من حيث هو إنسان.

فالامتلاك الواعي للعقل ليس أعدل الأشياء قسمة، بل إنه امتلاك نخبوي لكنها نخبوية لا تنفي عموم الإمكان في الخطاب الباجي ( لأنه يقصد كل من فكر تبعا لشرائط الطريق) يصبح العقل عينه كما أنـها لا تنفي عن عموم النظار والجمهور امتلاكا معينا للعقل: امتلاكا لا شعوريا غير مباشر وامتلاكا لعقول متكثرة ومتنوعة . فأنا أفكر إذن أنا العقل في وحدته وكماله وصفائه. لا تنفي في قاعدة الهرم أنا أفكر فأنا العقل في تنوعه واختلافه وارتباطه بالحس(1).

هذا الطريق المعرفي لامتلاك العقل سيطرح مشكلة أنطلوجية صعبة. فكيف يلتقي الوجودان في الإنسان : (الوجود الجسماني والوجود العقلي)؟ لم يكن التفسير الأفلاطوني مقنعا، لأنه يحمل شناعتان : شناعة وجود الإنسان قبل وجوده، وشناعة التناسخ. أي أن أي جسم يمكن أن يكون إنسانا. وهو ما ينتهي إليه دوما أي قول بوجود جوهرين متناقضين في الإنسان. وهو أيضا ما يصدق على المشائين الذين تبنوا هذا الاتجاه أو لمحوا إليه للتخلص من القول (بحسية الفكر ونفي الخلود) ولذلك يبدو أن حل هذه المعضلة كان دوما يتجه بصورة عامة إما إلى نفي (العقل) أو نفي (الإنسان) (الذات المتفردة) ولكن يبدو أيضا أن ابن باجة ( فيلسوف القرن 12م) ممن حاول أن يشذ عن هذا الاتجاه العام لأنه تصور وحدة جوهرية في الإنسان، وحدة العقل والجسم.

كان على ابن باجة أن يتمعن طويلا وأن يؤجل الجواب ويمتحنه ويعرضه أولا في فقرات متناثرة في رسائله ليكتمل نظره في (القول في القوة الناطقة) الذي تأخرت كتابته (كاملا) إلى ما بعد الرسائل ولذلك ظل هذا القول في كتاب النفس ناقصا.

ونظرا لدقة المسألة وتعدد تأويلات الدارسين وتناثر شذرات أفلوطينية في مخطوطات ابن باجة سنعمد في هذا القسم من القول إلى استقراء العبارات الباجية التي نعول عليها لبيان ما نقصد إليه :

1 - في تدبير المتوحد يتحدث ابن باجة عن أصناف من الصور الروحانية، فالصنف الأول الذي هو "صور الأجسام المستديرة" ليس هيولانيا بوجه. أما الصنف الثاني الذي هو "العقل الفعال والعقل المستفاد" فرغم أنه "غير هيولاني أصلا" إلا أن له "نسبة إلى الهيولي" أي مستفاد فعال لها وهو "العقل الفاعل" (2). والعبارة الباجية واضحة في كون العقل ( الفاعل والمستفاد) في الإنسان بسبب هذه النسبة إلى الهيولى لا يرقى إلى صور "الأجسام المستديرة" التي لا نسبة لها مطلقا للهيولى.

ويلاحظ أيضا في خاتمة التدبير، أن ابن باجة يلح على الصلة الجوهرية بين العقل والإنسان. فالمعقول كما يقول "لا يوجد إلا للإنسان خاصة" فهو "موضوع نوع الإنسان على أنه يوصف به" وهو موضوعه على "أنه ذو وجود وذو ملكة" (3). لكن ذلك لا يعني أن الإنسان يمكن أن يدمج عالم الأجرام السماوية.

فالإنسان فيما يظهر " كالواسطة" بين السرمدية والكائنة الفاسدة. ففيه " معنيان" معنى هو في تلك السرمدية فيكون به سرمديا. ومعنى يشبه الكائنة الفاسدة فيكون به كائنا فاسدا" (4).ويخلص ابن باجة في هذه الخاتمة إلى " أن الإنسان من عجائب الطبيعة" وأن فيه " أمورا كثيرة" وهو إنسان " بمجموعها " : ففيه القوة الفانية " فليس هذه تعقل صورتها".

وفيه القوى الحساسة والخيالية والذاكرة " وهذه كلها لا تعقل ذواتها فلا تلحقها".

وفيه القوة الناطقة : "وهذه الخاصة به " (5). لكن هذا العقل الذي له صلة بالهيولى والذي يؤسس مع سائر القوى النفسانية وحدة الإنسان وذاتيته وموقعه المتفرد في الكون كيف يتصل بالجسم ؟. إن مثل هذا الإتصال الذي لم تعد دلالته تتجاوز (كيان الإنسان) يتعين بيان (كيفيته) وتلك هي قضية الرسائل الأخرى.

2 - في رسالة الوداع يقول ابن باجة إن العقل في نفسه إذا تجرد " لا يتحرك أصلا لأنه محرك صرفا " فوجوده متحركا من أنقص " وجوداته".

إن هذه المقدمة التي تنسجم مع ماورد في الشروح وفي كتاب النفس سرعان ما يتجاوزها ابن باجة مستدركا أن هذا العقل "من شأنه أن يوجد تارة ولا يوجد " وهو بـهذا المعنى، أنقص رتبة من "الجواهر الثواني". ولذلك أيضا احتاج هذا العقل للبدن" ليتحقق وجوده. "فالجسم أداة لإثبات وجود العقل . فالعقل في البدن إنما " يبتغي نفسه لا آلاته" وهو إنما "إنما يصلح لآلاته وأصلحت له". ليوجد هو " وهو على أفضل أحواله"(6).

في هذه الفقرة أفكار لا يمكن أن تنسب للتأول :

- إن العقل في الإنسان لا وجود له خارج الإنسان

- إن العقل في الإنسان يوجد ويكمل في الجسم،

- إن الجسم آلة للعقل وأداته.

لكن وجود العقل في الإنسان يختلف عن وجود سائر القوى فيه. إن وجوده (يرتبط) بالتصور. فتعقلنا " لهذه القوة التي نحكم بها على أشياء غير متناهية (لم نشاهد فيها إلا أشخاصا قليلة أو لم نشاهد منها شخصا أصلا)". ليس يكون "بالوهم ولا بالتخيل" فإن "أكثر ذلك كاذب.." وإنما تعقلنا " بأن نتصور ما هي".

ويضيف ابن باجة موضحا أن العقل لأنه " ليس في مادة" كان "حصوله هو تصوره". وهذا ما يميز تصور العقل عن تصور الأشياء. فإن تصور الخزانة " ليس هو حصول شخص من أشخاصها عندنا". فإنه قد يتصورها " من لا يملك واحدا من أشخاصها". أما العقل فتصوره " هو وجوده".

لكن قد نتصور ما ليس(موجودا) كعنقاء مغرب وعنـز أيل. فإن تلك أيضا " تصورها هو وجودها" لكن الفارق بين التصورين أن تصور (المتخيلات) يصنعها أو يختلقها، فهي متصورة " على أنها مفعولة لنا ومركبة من أفعالنا". أما تصور العقل فليس كذلك لأن العقل" لم يوجد بالتصور حتى كان التصور فاعله أو مركبه كما في عنـزأيل"(7). لو تأملنا هذا المعنى في ضوء الأفكار السابقة فإن الالتباس الذي قد يثيره يتعلق بوجود (الله) الذي لا يدرك إلا بالتصور أيضا : فكيف يكون ما لا صلة له بالجسم (يماثل) ما لا يمكن أن تكون له هذه الصلة ؟

لا ترد الإجابة في نصوص ابن باجة . لكن رغم الوصف الإلاهي للعقل (المنقول عن النيقوماخوس) في هذه النصوص، فإن الإجابة يمكن أن نستنبطها. فالله في شرح ابن باجة للمقالة الثامنة من السماع يتعلق (تصوره) بحركة العالم وافتقاره الغائي إلى محرك لا يتحرك لا بالذات ولا بالعرض. والله في مدخل (التدبير) تفوق مرتبته مرتبة العقول عموما و (لايقاس) بالإنسان : إنه ما يفوق كل وصف وتصور.

لكن ما يرفع هذا اللبس، ويضع العقل في مرتبته الجسمانية في الإنسان، هو ما ورد في القول الذي " يتلو رسالة الوداع". فتصور (العقل) في ذاته يلزم عنه تصوره في جسم بعينه. تصوره محركا لهذا الجسم في العيان. الحركة الإنسانية وليس الحركة الطبيعية القسرية ولا الحركة الحيوانية (الخيالية) . فالعقل في الإنسان هو حركة الرأي فيه التي يمكن استبطانها في الوعي. لأن "الحركة الإنسانية" هي الحركة "الكائنة عن الرأي صوابا كان أم خطأ" فإذا تقدم الرأي تحركت الخيالية " لتدرك ما أوجه الرأي". وأحضر الحس المشترك " صنم ذلك الرأي". وعندئذ يحضر الاشتياق فيتحرك "الجسم" (8).

إن هذه الآلية السيكولوجية التي خلص إليها ابن باجة تفسير لما ورد في الفكرة الثالثة في (رسائل الوداع) أي أن الجسم آلة العقل وأداته. فيبدو الآن أنه آلته بمعان ثلاثة:

1 - بمعنى الرأي المحرك : فالعقل في الإنسان بهذا المعنى هو مجموع الآراء التي تخطر بالذهن صائبة كانت أو خاطئة . وما يمنحها انتسابا للعقل وتمثيلا له في آن واحد، هو كونها تملك قدرة على التحريك أي خلق حركة متميزة تخالف حركة الطبيعة والحيوان : حركة (الرأي) أي الحركة الإنسانية الاختيارية.

2 - بمعنى الفاعل السيكولوجي : إنه هو الذي يمنح للإنسان صفة (الفاعل) ومسؤولية الفاعل على الحقيقة. إنه يبلور (الذات الفاعلة) وتتحقق فيه وحده. وهو أمر أكده ابن باجة في الشروح وفي الرسائل ، غير أن هذه الفعالية السيكولوجية المشار إليها لا يتم إلا بتضافر مع أفعال أخرى : فعل الخيال والحس والشوق. مما يتعين معه افتراض حد أدنى من المشاركة في الطبيعة بين الرأي وبقية القوى الفاعلة النفسية والبدنية.

3 - إن الجسم آلة العقل بتوسط القوى النفسانية : فإن ابن باجة يشير في هذا القول الذي يتلو رسالة الوداع إلى أن العقل الذي لا يدركه "البلي ولا السن" كما ورد في كتاب النفس وفي رسالة الوداع، لا يمكن للجسم قبوله إلا بعد وجود هذه "القوى في الجسم"، أي القوى الروحانية الخيالية والحسية، وجودا تراتبيا، لا يعني أن وجود اللاحق يتعلق بوجود السابق، كما هو الشأن في علاقة المادة والصورة. إنه تراتب وجودي تفاضلي (9).

في عموم هذه المعاني نلمس ولو بغموض أن تفسير وجود العقل في الإنسان ينحو نحو اعتبار هذا الوجود معلقا بالوجود النفسي بنوع من المشاركة أو النسبة. فهو ملحق وفاعل في نطاق الآلية النفسية وبتكامل مع سائر القوى النفسانية.

3 - في رسالة الاتصال بين ابن باجة أنه إذا كان الإنسان لا يكون إنسانا إلا "بالقوة الفكرية". والقوة الفكرية إنما تحصل إذا حصلت "المعقولات" لأنه بحصول المعقولات " تحدث الشهوة المحركة إلى الفكر وما يكون عنه".

ولما كان المعقول " ليس صورة لهيولي أصلا" ولا هو صورة "روحانية لجسم " كالخيالات. فإن ابن باجة يخلص إلى أن المعقول " صورة هيولاها الصور الروحانية الخيالية المتوسطة" وهي الصور الروحانية التي ذكرت في تدبير المتوحد (10).

إن هذه النتيجة تبدو مستغربة لأن ابن باجة قد رفض في "القول الذي يتلو رسالة الوداع" اعتبار العلاقة بين القوى في آلية التحريك العقلي، علاقة (الصورة بالهيولى) لما ينشأ عن ذلك من "فساد اللاحق بفساد السابق، ويبدو أن هذا الاعتبار إما أنه قد اختفى أو أن علاقة الصورة بالهيولى قد حملها ابن باجة معنى جديدا لا يلزم عنه مثل هذا التعلق الوجودي.

لكنها نتيجة رغم ذلك تنسجم تماما مع ما سبق ذكره في (تدبير المتوحد) حيث وردت الإشارة إلى أن للعقل نسبة للهيولي. فهذه النسبة لا تعدو أن تكون نسبة الصورة إلى الهيولي مادام أن العقل الفاعل للمعقولات والمتمم لها هو ذاته المعقول بالفعل أي هو الصورة العقلية.

يبقى الإشكال في الهيولى وهو ما تم حسمه في رسالة الاتصال. فما دام من المتعذر أن يكون المقصود هو (الهيولى) الطبيعية التي تؤسس مادة الجسم وعناصره. لأن ذلك يعني أنه لا وجود لجسم حي بدون عقل فما يصدق على النفس كصورة للجسم لا يصدق على العقل كصورة للجسم - اعتبر ابن باجة الصور الروحانية هي هذه الهيولى التي للعقل نسبة إليها . لأنه لا يمكن أن نتصور إنسانا عاقلا دون أن يكون (قبليا) جسما حيا.

لكن هذه النسبة ليست مطلقة دون شرائط. فهي لا تلزم بالضرورة عن (الحياة) ذاتها في الجسم. إنها تلزم عن نوع من الأجسام. الحياة تتضمن هذا الاستعداد في فطرتها ويستمر فيها عبر التوالد وهو النوع البشري كما سبقت الإشارة إلى ذلك في تدبير المتوحد.

كما يتعين أن تكون هذه النسبة تبعا لما سبق ذكره في "رسالة الوداع" والقول "الذي يتلوها" هي نسبة المحرك للمتحرك. ففي رسالة الاتصال يقول ابن باجة إن المعقولات التي هي صور " غير متصلة بالجسم" إنما تحرك "الجسم بتوسط الصور الروحانية التي هي آلة" (11)

وتبعا لما ذكره ابن باجة مرارا فإن نسبة المحرك للمتحرك في هذه العبارة تعني تحريك (المحرك الذي لا يتحرك). وهو تحريك له وجه مماثلة مع تحريك الإلاه للعالم : فهو تحريك (الفاعل) للمعقولات وتحريك (الغاية) المتمم للمعقولات. لكن حضور النسبة إلى الهيولي واعتبار الهيولي هي الصور الروحانية يجعل هذا التحريك متميزا. إنه تحريك باطني في عالم (نفسي) للإنسان. تحريك المفارق بالمعنى وليس المفارق بالذات.

لكن السؤال "ما هو العقل في الإنسان؟ "تعاد إثارته " في القول في القوة الناطقة" وسنفحص ما ورد في هذا القول في علاقته بما أشرنا إليه في الرسائل (التدبير/الوداع/الاتصال).

يحلل ابن باجة محورين تكرر حضورهما في رسائله وأقواله في العقل :

المحور الأول : أن العقل في الإنسان يعني إدراك (المعقولات) في ذاتها.

المحور الثاني : أن العقل في الإنسان يعني(فعل العقل) في ذاته.

في المحور الأول العقل في الإنسان ينير له العالم. يقدم له العالم الخارجي معقولا. جواب ضمني عن سؤال لا يزال يحير التأمل الفلسفي : ما الذي يجعل العالم معقولا ؟ إن ابن باجة يقول إن العقل " يدرك ماهية الشيء" أما الحس والخيال فيدركان "الشيء"(12).

ولما كانت ماهية الشيء هي معناه " ومعناه " صورته بنسبته إلى المادة" وكانت "الصورة والعقل" واحدا بالموضوع" إثنين بالقول" . يخلص ابن باجة إلى أن العقل حينما يعقل " الشيء. فإنما يقصد تحصيل "الصورة" من حيث هي " أحد الموجودات " لا من حيث هي " مضافة إلى موجود هيولاني".

وهذا يعني تجاوز مرتبة الحس والخيال ومرتبة العقل النظري.

فالذي بالقوة في الحس والخيال إنما هو "الجسم والصورة". فالصورة في الحس والخيال " مقترنة بالأعراض التي لها من أجل الهيولي". فالصورة تتقوم " بهذه الأعراض على أنها "كلها في الهيولى في ذات الوقت".

أما العقل النظري فإنما ينظر في "صور الموجودات وهي ما هي" فهو لا ينظر في الصورة كماهية مطلقة. إنه ينظر إليها " من حيث حصل لها هذه الإضافة" أي من حيث إضافتها للأعراض التي لها من أجل الهيولي. فالصورة في الحس والخيال تقومها (الهيولى) وفي العقل النظري ( تضاف) للهيولي إنه ينظر إليها "من حيث حصل لها هذه الإضافة" أي من حيث أضافتها للأعراض التي لها من أجل الهيولي. فالعقل النظري إنما يروم تحصيل هذه الصورة في هذه (الإضافة).

لكن هذه "المعقولات الهيولانية" لا بد أن يكون لها وجود آخر غير "كونها ماهيات أي وجودها في "عقل" لا يتقدم وجوده بالهيولى" بوجه ويكون لها حال " غير ما هي عليه المعقولات " . ذلك لأنه لا بد أن يكون في الوجود شيء ما "وجوده ماهيته" ويكون وجوده الذي يخصه لا في هيولي " على أنه "لم يتقوم بالهيولى".

لكن ابن باجة يضيف، في انسجام تام مع ما سبق أن ذكره في الرسائل - أن هذا الذي وجوده الذي يخصه لا في هيولى ولم يتقوم بالهيولى. " غير مباين لما في الهيولي جملة " بل يتصل بالهيولي ليس اتصالا على " أن يكون له وجود فقد كان " موجودا دونها" وليس اتصالا مباشرا بالهيولي كأعراض تقومه بل إنما يتصل " بالمعقولات الهيولانية" ليتممها وعند تمامها تكون "لمعقولات الهيولانية التي بالفعل" وهي التي "وجودها في الهيولي " كالهيولي لهذا" (13).

في المحور الثاني فحص التعقل في الإنسان. وهو فحص لأهم افعال القوة الناطقة التي بها يتم تحصيل المعرفة، فحص ينتهي أيضا إلى إثبات عقل في الإنسان له اتصال ضرورة بالهيولى.

ذلك أن في التعقل يحضر الظن واليقين. ويلتقي في تصوره (للكلي وللحد) المعقول بالمشار إليه، وينتهي فيه العلم بالغاية والمحمول إلى ضرورة علم بما ليس له محمول ولاهيولى.

يخلص ابن باجة من هذا إلى أن التعقل (العقل) رغم أنه "لا يمكن أن يكون له شيء يجري مجرى الهيولى" لأن له "صورة تخصه" و"عقلنا إياها هو وجودها" فإن هذا التعقل يماثل تعقل "المادة الأولى". فيكون " الوجه في عقلنا المادة الأولى مقابلا للوجه الذي يعقل العقل الأول". ذلك أننا إنما عقلنا المادة الأولى بتلك النسبة "التي لها إلى الأجسام دون توسط". ( فنسبتها إلى المادة الأولى " لا صورة لها فلا ماهية لها" فلا يمكن أن تعقل في ذاتها لأن ما يعقل " إنما هو ماهية شيء" وقد صارت لها هذه "النسبة " بمثابة صورة لها.

وكذلك هذا العقل فإنه يعقل بالنسبة إلى "الصورة القريبة منه دون توسط " ووجود هذه النسبة ليست له لأنه لا يعقل في ذاته كالمادة الأولى بل إن ذلك يعود لطبيعة وجوده : "فلنقص وجود هذا العقل تكون تلك الصورة القريبة تقوم له مقام الهيولى"(14).

وهكذا يفصل ابن باجة بين وجودين للعقل. وجوده الكامل (كصورة) يدرك بدون إضافة، ماهيته عين وجوده. ووجوده ( ناقصا) يفتقر إلى نسبة يتعقل بها هي نسبته إلى أقرب صورة له تقوم له مقام الهيولى.

وللأسف فإن هذا القول في القوة الناطقة كمعظم أقوال ابن باجة لم يكتمل.

ما هو أثر هذا الأفق النظري على المستوى العملي خاصة المستوى السياسي؟

إن الفعل السياسي تبعا لمذهب ابن باجة يعتمد على مبدأين أو علتين : العلة الفاعلة والعلة الغائية ( بينما الفعل الطبيعي يقوم بالاساس على مبدأين إضافيين الهيولى والصورة). لكن تصور المبدأين أو العلتين في سياسة ابن باجة يضع حتما هذه السياسة في أفق التعارض النقدي مع السياسة الواقعية وهو ما سنحاول بيانه حتى وإن توخى ابن باجة وزير المرابطين عدم الإفصاح الصريح عن هذا التعارض.

تأتي ضرورة مبدأ الفاعل أو العلة الفاعلة في المقدمة. لأنه كما يتعذر في الطبيعة أن تتصور (حركة) دون وجود جسم طبيعي قابل للحركة، فإنه يتعذر في العمل السياسي الإرادي قيام أي فعل وإدراك هذا الفعل دون وجود فاعل يملك إرادة الفعل وتصورا لغاية الفعل.

إن الفاعل لا نعني به الإنسان بعموم القول. كما هو الشأن في السيكولوجيا. بل نعني به على وجه الحصر " الفرد" أي الإنسان في علاقته بالآخر. العلاقة التي يفرضها التجمع البشري في أدنى مستوياته وأنقصها _(المنزل) وفي أشرفها (المدينة).

يسلم ابن باجة بالأطروحة الأرسطية، وهي أن الأفراد هم الذين يؤسسون (التجمع بإرادتهم الحرة، لتلبية حاجياتهم وتحقيق سعادة كل واحد منهم. فالفرد أساس التجمع وهو الفاعل السياسي على الحقيقة. كما لا يمكن حسب هذه الأطروحة فصل السياسي عن الأخلاقي مادام الفاعل في الحالتين واحدا وشرائط الفعل واحدة.

من البديهي أن السياسة المرابطية التي عاصرها ابن باجة، لا تحتمل هذا المعنى الواضح للفاعل السياسي، في سائر مستويات المجتمع البشري ومؤسساته. بل إن هذه الفردانية التي تهيمن على حكمة ابن باجة السياسية تهددها في الصميم ، وتتعارض معها جوهريا. فالحركة المرابطية كسائر الحركات السنية تتصور (الفاعل السياسي) ممثلا لما يتجاوز الفرد في الزمان والمكان، إنه يمثل الأمة والشريعة الإلاهية، الأمة التي هي المحصلة المتعالية للجماعة الإسلامية. والشريعة التي هي محصلة النصوص والمؤسسات والفقهاء . فالفاعل الأساسي على الحقيقة يعتبر إماما متفردا.وهذه التمثيلية هي التي تمنحه المشروعية السياسية. تستعمل في حقه ألقابا تمنحه هذه (الصفة) " ألقاب الخلافة وإمارة المسلمين. ويتم تحاشي ألقاب السلطان والملوكية ومظاهرها ورموزها. ولذلك حرص المرابطون على بذل المساعي لدى الخليفة العباسي ببغداد (رغم ضآلة وزنه السياسي الفعلى) وتقديم الولاء له لاكتساب (مشروعية) لا تقبل الجدل.

إن التصور (الفرداني) يدين القاعدة المطلقة التي تنشأ عن هذه التمثيلية العامة. قاعدة جواز أي فعل يمكن أن تبرره هذه التمثيلية. فلا يمكن ولو لأغلبية الأفراد داخل الجماعة أن تتمتع ( معارضتهم) بأية مشروعية إذا استطاع (الحاكم) تقديمها في صيغة تمرد على مصالح الأمة والشريعة/ عبر الفتاوي والمنشورات الرسيمة. وفي نطاق هذه القاعدة أيضا يستهان بأي وزن إنساني أخلاقي لاي مخالف للجمهور أو للطرف الغالب. فشقاء القلة كشقاء (المغلوبين) ومآسيهم لا تسمعها (الآذان) إلا كثمن أو كدليل على غلبة (الحق). أي غلبة الدولة (القائمة) واستحكامها في الأرض.

لكن التصور الفرداني لا يدين فقط. ولكنه يكشف أيضا ويفضح اللعبة السياسية إلى حدما وبقساوة. فتمثيلية الفاعل وتفرده على هرم السلطة إنما تقوم على طغيانه (كفرد) فهو (الفاعل في الحقيقة) تسانده جماعة من الأفراد هم أعوانه وأنصاره. طغيان لا يخضع لقانون "العقل".

إن الحاكم بأمره لا يمكن أن يدعي أنه يمثل " ضرورات العقل". لأن الفعل السياسي من جهة يرتبط بميدان (الروية) حيث يسود التقدير. فالأحوال كما قال الفارابي "والعوارض التي بحسبها يكون التقدير غير محدودة ولا يحاط بهما" (15).كما أن هذا الفعل يرتبط بالشرط الأخلاقي.

لابن باجة فقرة هامة جدا في تدبير المتوحد تفصح عن واقع سياسي يغيب فيه هذا الشرط الأساسي، أي المعيار الأخلاقي، ونستشهد بهذه الفقرة لعظم دلالتها ودقتها.

يقول ابن باجة: "… ومن الصور الروحانية الكاذبة يكون الرياء والمكر وقوى آخر شبيهة به. وهذه وأصنافها يعظم موقعها في السير الموجودة، حتى يظن بالمعارف بها الحكمة، ويظن أنها هي الحكمة، ويرى الجمهور فيها و-في- كثير من خواص أمثال هذه المدن أنها التعقل الذي يذكره أرسطو في السادسة، فإذا سمعوا ما شرطه في التعقل من كون المتعقل فاضلا نبت أذهانهم عن ذلك، فكثير يرى أن ذلك رعونة ونقص في الإدراك، وضرب من البلادة. ولذلك يفضل قوم معاوية على علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الحزم…" (16).

يتضح أن حكمة ابن باجة في تصورها للفاعل السياسي لا يمكن أن تنصاع أبدا للميكافيلية المتسترة والمهيمنة على "الدول الإسلامية" والتي يعتبر (معاوية) نموذجها الذي تناقلته الأدبيات العربية بإعجاب.

هل في التاريخ المرابطي الذي عاصره وعايشه ابن باجة ما يعبر عن هذا (الفن) السياسي الذي لا يراعي أي معيار أخلاقي باسم الحزم والفعالية في التدبير ؟ نعتقد أن ابن باجة (الذي يؤهله موقعه لأن يملك علما لا نعلمه اليوم بهذه الدولة وبواقعها وسيرة أمرائها) ما دام لا يستثنيها ولو من باب التحفظ فإن الإجابة واضحة ولا لبس فيها. لكن المصادر التاريخية اليوم رغم محدوديتها لا تخفى بعض الوقائع الهامة في التاريخ المرابطي، هذا الفن السياسي الميكيافيلي الذي أظهر الرواة إعجابهم أيضا (بنجاعته) وسداده. وأدرجوه ضمن كمال البصيرة والجكمة العملية.

من أهم هذه الوقائع قصة استيلاء يوسف بن تاشفين على السلطة وإقصاء أبي بكر اللمتوني عنها بحيل ومكائد أشارت إليها المصادر بإيجاز، ودون تدقيق. بل وبتحيز مفهوم للأمير المتغلب بطل موقعة الزلاقة وموحد المنطقة أمام الخطر النصراني. ولكن القصة مع ذلك فصل من مأساة الأخلاق في سياسة الدول الإسلامية (منذ مكائد معاوية).

يخبرنا ابن عذاري أن يوسف بن تاشفين تآمر على "الأمير الشرعي" في غيابه عن مراكش: "وكتب إلى بعض إخوانه في السر من أبي بكر بن عمر يحضهم على الوصول عليه " فاستجابوا له. وبحسن تدبيره "أصبح" زوجا لزينب النفزاوية (الزوجة السابقة للأمير أبي بكر) التي ساعدته بدهائها على نجاح خطته. فحينما قدم أبو بكر من الصحراء سنة 465هـ وجد واقع الحال قد تبدل. ولم يجد بدا من قبول التحف والهدايا التي استرضاه بها يوسف بن تاشفين والعودة إلى الصحراء مرة أخرى. وبنفس الوسيلة تم استرضاء ابنه إبراهيم بن أبي بكر سنة 469هـ (17).

بدون شك فإن ملامح هذه السياسة المرابطية في الأندلس كان لها أثر قوي في نفسية ابن باجة السرقسطي الأندلسي (وعدد من الكتاب الأندلسيين). فرغم سائر المبررات التي تذرعوا بها لم يراع المرابطون عموما في عدد من الحالات حرمة ما التزموا به. ونستدل هنا بمصير أمير سر قسطة عماد الدولة بن هود الذي خدمه ابن باجة، وكان من المقرببينلديه. فيقول ابن سعيد، إن علي بن يوسف حينما تولى الإمارة المرابطية رغب في أخذ بلاد الثغر من يد عماد الدولة " فكاتبه في ذلك، فرغب إليه عماد الدولة أن يجري معه على ما كان عليه سلفه مع سلفه، ويتركه حاجزا بينه وبين النصارى فأبى ولـج، فكان ذلك سببا إلى أن استعان عماد الدولة بالنصارى، وخرج من سرقسطة فملكها الملثمون، ثم حصر النصارى فأخذوها منهم واعتصم عماد الدولة بمعقل روطة…" (18). في إدانة هذه السياسة لا يتردد ابن باجة في الحط من شأن كل فعل في تخطيطها وتنفيذها.

إن حرية (الفاعل السياسي) في الاختيار تعني أن لا يفعل تحت تأثير الشهوات والانفعالات فينبغي للملك " أن لا يفوقه أحد في الزهد" (19). وهذا ما يفيده أيضا كلام ابن باجة في تدبير المتوحد عن التمييز بين الفعل البهيمي والفعل الإنساني.

فالفعل البهيمي "هو الذي يتقدمه في النفس الإنفعال النفساني فقط مثل التشهي أو الغضب أو الخوف وما شاكله، والإنساني هو ما يتقدمه أمر يوجبه عند فاعله الفكر. سواء تقدم الفكر انفعال نفساني أو أعقب الفكر ذلك…" (20).

إن الواقع السياسي (في السير الناقصة الأربع والمركب منها) تكون فيها معظم أفعال الإنسان "من بـهيمي وإنساني". فمن النادر أن يوجد البهيمي خلوا من الإنساني لأن الإنسان في الحالة الطبيعية لابد أن " يفكر كيف يفعل ذلك " فإن المقصود بالإنسان البهيمي في السير الناقصة هو الذي "يستخدم البهيمي فيه الجزء الإنساني ليجيد فيه" (21).

ويقدم ابن باجة صورة منفردة عن هذا الفاعل البهيمي. فهو في حالاته المتطرفة إنسان على غير المجرى الطبيعي. مثل السبعي الأخلاق الذي "أفرط عليه الغضب". فالذي لا ينهض " عن شهوته المخالفة لرأيه دائما" "إنسان يجيد سوء" "البهيمة خير منه" : و أحسن ما قيل فيه إنه بـهيمة لكن له فكرة إنسان بـها ذلك الفعل" (22).

بدون شك أن الزمن لم يطل بالدولة المرابطية ولم يسعفها الدهر لتعظم وتترسخ فيها هذه السيرة الدنيوية التي عرفت أزهى أيامها في قصور العباسيين ببغداد وقصور ملوك الطائف بالأندلس ولكن هذه السيرة كانت بادية للعيان وكانت تتجه في نفس المسار.

فبعد أن احتل أمراء المرابطين عددا من قصور من تغلبوا عليهم في حواضر المغرب والأندلس استأنف فيها بعضهم نفس الحياة الأميرية المترفة، ومجالس المتعة واللهو. وتحلقت حولهم حاشية متنوعة من العبيد والكتاب والشعراء والمغنين وغيرهم.

ومن بين هؤلاء نذكر أمير سرقسطة المرابطي : ابن تيفلويت حيث كان ابن باجة يحضر مجالسه ويقدم موشحاته وتلاحينه المبتكرة (23).

ورغم أن أواصر ابن باجة بابن تيفلوين كان يطبعها الود والتقدير (فقد رثاه بعد وفاته بأببيات مؤثرة) : فإن ابن باجة صاحب الموشحات والتلاحين كان عليه بعد علو شأنه في علوم الحكمة أن يمنح لعقله موقعا نقديا جديدا لا يتأثر "بما هو بهيمي". فقد شاهد مصير سرقسطة وسقوطها المفجع في يد دويلات النصاري في الشمال. وشاهد من فاس أوضاع المغرب المرابطي وميله للإنـهيار ولا شك أن ذلك يعني عنده أن السيرة المرابطية فشلت رغم (دعواها) في تقديم بديل لسيرة ملوك الطوائف. أي إقصاء البهيمي الخالص والتحرر منه في التدبير وفي حياة الخاصة و العامة.

مبدأ الفاعل يفترض زمنية الفرد الإنساني. فعامل السن ضمن العوامل الرئيسية التي تحدد الأهلية السياسية والأخلاقية للفرد. فالإنسان كما قال ابن باجة " له أحوال" "يوجد له بحسبها أفعال قوي ما " و "أحوال آخر توجبها أفعال قوي آخر" وأن هذه الأحوال "تتجدد" بأجرام العمر".

فيستحسن من الشيخ "جودة الرأي وجودة المشورة والحكمة والعقل" (24).

هذه الحقيقة ينشأ عنها فساد إسناد الأمر للأولاد أو لمن هم في سن لا تتناسب والتدبير السياسي السليم. فأولاد " المترفين وذوي الأحساب" لا ينسب لهم حقيقة" الوقار والبر والتودد والمشورة" أما ما يلاحظه الناس من علامات وملامح التعقل والحكمة فهي ادعاء محض. "فبين أنهم يظهرون ذلك من غير أن يكونوا أهلا له. "ويرى ابن باجة أن هذا الادعاء هو أعظم أسباب فساد المدينة متى ظن به "الفضيلة" وتم تقبله في المدينة" أي مدينة كانت من المدن الأربع…: (25). وتأتي مدينة (الكرامة) في مقدمة المدن التي تصيبها هذه الآفة السياسية بسبب أن هذه المدينة (الجاهلة) (26) يقصد أهلها كما قال الفارابي الشهرة والمجد الدنيوي بأية وسيلة (27).

إن هذا النقد يلمح للوضع المرابطي الذي عاصره ابن باجة فقد تمت بيعة علي بن يوسف بن تاشفين (من مواليد سنة 477هـ) في حياة أبيه سنة 496 هـ (أي في سن 19 سنة. وتولى بالفعل الإمارة سنة 500 هـ بعد وفاة أبيه (أي في سن 23 سنة). لم يكن في سن الطفولة لكنه لم يكن في سن الحكمة والخبرة.

وقد نشأ عن هذه التولية المبكرة ما عرفته كل الدول الإسلامية من ظواهر متفاوتة في الخطورة والنتائج : حدث تمرد داخل الأسرة الحاكمة.فقد رفض ابن أخيه يحيى بن أبي بكر البيعة له و طلب الأمر لنفسه بدعوى أنه الابن الأكبر سنا. ورغم انـهيار هذا التمرد فقد أعقبته أخطاء سياسية وعسكرية أدت إلى انهيار الدولة المرابطية في الأندلس والمغرب. ومعظم المؤرخين نسبوا هذه الأخطاء لسوء تدبير على بن يوسف الذي لم يكن يتوفر على أهلية القيادة : فقد انصاع للفقهاء وأهمل مشورة أهل الخبرة، والحكمة وفي مقدمتهم وزيره الحكيم الأندلسي وأحد المقربين لديه (مالك بن وهيب). إن هذا الواقع لابد أن يذكر ابن باجة بالحادث الذي تعتبره الأدبيات التاريخية الأندلسية حادثا مشؤوما في تاريخ الأندلس : وهو حادث بيعة هشام بن الحكم المنتصر الأموي الذي كان لا يزال غلاما دون سن البلوغ في بيعة تمت في حياة أبيه واستغلها الحاجب المنصور بعد وفاة الحكم للاستيلاء على السلطة الشرعية.

لكن السن وحده لا يكفي رغم ضرورته، فالفاعل الإنساني في السياسة والأخلاق ليس كالمبدأ لأنها مواجهة لما لم يكن متوقعا. وهذه المواجهة لا يمكن أن تكون فعالة ما لم يتوفر للفاعل أمران قبليان :

1 - التوقع وحسن التقدير المسبق،

2 - الذكاء والمهارة العقلية في تدبير وترتيب الوسائل.

إن التوقع الإنساني الصناعي يتميز به أفراد من الناس على المجرى الطبيعي. ويذكر ابن باجة في المقام الأول " أصحاب الظنون الصادقة" فتوقع هؤلاء باستعمال الفكر والقياس الذي يوجد لسائر الناس وتميزهم إنما هو في السرعة والجودة. فذلك الإنسان صاحب الظنون الصادقة يتقدم عنده " أحد جزء المتناقض على شريطة كل مطلوب" كما يتقدم "عند الناس كلهم" لكنه يسبق عنده " الطرف الكاذب" سبقا لا يتعلق بالتصور ولكن بالتصديق فقط" (28).

والمتحكمون من أصحاب الظنون الصادقة قليلا ما يخدعون ويكون سنهم قد تجاوز سن الشباب لأن "الشباب أسرع انخداعا…"

لكن السياسة عموما سياسة المنزل والمدينة هي تدبير لمواجهة ما يمكن توقعه وما هو واقع أيضا، مواجهة تبدأ في الفكر. فالسياسة تتطلب إمعان النظر في أفضل الطرق والأساليب قبل العمل والخروج إلى الفعل. وبسبب المتغيرات السريعة وتعدد الأحوال وصعوبة التوقع عادة فإن هذا الإمعان الضروري يتطلب " ذكاء " في الفاعل. ذكاء له بالطبيعة (29).

فالجيد الروية لا بد أن يتصف بدور الذكاء والنبل : "روحانيته تكثر عن الصورة المحسوسة" فتكثر "تحديقاته" وكلما كان " أجودروية كان التفاوت أكثر " ونفس الظاهرة تلاحظ لدى "الإنسان المطبوع على الفكرة البرهانية" (30).

والسؤال : ما هو دور هؤلاء المحنكين " وأهل (الروية الجيدة) في الدول الإسلامية؟

بدون شك فإن تاريخ الدول الإسلامية عرف مستشارين ووزراء وأمراء وحجابا وكتابا وقادة عسكريين وولاة وقضاة كانوا يتمتعون بحكمة وروية تناقلت أخبارها ونوادرها كتب السير والوقائع والطبقات. لكن الوضعية بدأت تعرف تغيرا منذ نهاية القرن الرابع الهجري. وقد سجل ابن خلدون هذا التبدل السلبي في خطط الدول الإسلامية وتدهورها عموما.

وإذا كانت سلطة القرار في بغداد قد بدأ يتحكم فيها تدريجيا أصناف من الخلفاء والوزراء والسلاطين الأتراك ممن لا وزن لهم ولا يتمتعون بأية كفاءة سياسية، فإن الأندلس والمغرب سيعرف (نفوذا الفقهاء) المتعصبين وهيمنتهم على الحياة السياسية والاجتماعية. ومعظمهم لا يتمتع بخصال السياسة وخبرتهم محدودة.

ففي الأندلس دشن المنصور ابن أبي عامر هذه المرحلة، حينما استبعد من مقاليد الحكم ودواليب السياسة، العائلات والأسر التي خدمت الدولة الأموية بحكمة، وتوارثت الخبرة السياسية والدبلوماسية، من أمثال بني جهور وبني حزم. وقرب إليه الفقهاء الذين سايروا مكائده ودسائسه. ومن هؤلاء الفقيه أبي العباس أحمد بن عبد الله بن ذكوان الذي أصبح صاحب الرأي والمشورة لديه. وكما يقول النباهي "كان لابن ذكوان " بداخل القصر بيت خاص به، يأتيه آخر النهار، فيجلس فيه إلى أن يخرج إليه ابن أبي عامر فيفاوضه في جميع ما يحتاج إليه، وربما بات عنده بالنـزاهة وخفة الوطأة (31).

ومما يوضح طبيعة هذه المشورة الفقهية التي يقدمها ابن ذكوان إقدام الحاجب المنصور تحت تأثيرها، على منكر لم يجرؤ عليه أحد من قبل وهو إحراق الخزانة العلمية الأموية المشهورة في قرطبة. والتي كانت تنافس من حيث محتوياتها أعظم المكتبات القديمة فكانت كارثة حضارية وثقافية عظمى ووصمة لا تمحى.

وتحت تأثير هذه المشورة أيضا. تخلى المنصور بن أبي عامر عن أشكال التحالفات والعلاقات الدبلوماسية التي نسجها الناصر والمستنصر مع الدويلات النصرانية في الشمال، وتم بفضلها نسبيا شيوع الاستقرار والرخاء والأمن في المنطقة، واستبدالها بسياسة الحملات العسكرية المدمرة على المدن والمعاقل النصرانية بدون تبصر وإدراك للعواقب. وقد كان لهذا المنحى أثره الكبير في مجريات التاريخ الأندلس اللاحق. فقد حول التعايش المسيحي - الإسلامي في شبه الجزيرة الإبيرية إلى وهم لا مستقبل له. وفي أيام ابن باجة كانت سياسة علي بن يوسف بن تاشفين في نظر معظم المؤرخين توجهها هذه المشورة الفقهية. فتحت تأثيرها أمر بإحراق كتاب الإحياء للغزالي . القضية التي وضعت الدولة في مأزق سياسي/ديني لا نظير له من قبل. فقد عارض هذا الإحراق عدد من الفقهاء والمحدثين. ولم تحقق الفتوى إجماعا بينهم. كما أنه أثار على الدولة سخط طوائف من الزهاد والمريدين. وكان أحد أسباب تمرد طائفة منهم في جبال الأندلس. وأخيرا استغل هذا الإحراق المهدي بن تومرت في دعوته بجبال المصامدة.

وتحت تأثير هذه المشورة أيضا استمر أسلوب الحملات العسكرية في شمال الأندلس وفي جنوب المغرب. ولم يتم تأسيس روابط سياسية سليمة تدعم التفوق العسكري فهذه المناطق : (ملوك النصاري - الزعامات الأندلسية - القبائل المصمودية..) فلم تلعب المراسلات والسفارات والمعاهدات أي دور هام في هذه المرحلة . إن هذه الانحرافات عن شرائط تحقق الفعل السياسي تمهد لفهم طبيعة العقل السياسي في الإنسان.

فكما في العقل النظري يهيمن مبدأ "الغائية" في العلم المدني وذلك يعني أننا ننتقل إلى مستوى آخر من التحليل هو مستوى الأدلوجة. أي مستوى الأفكار والعقائد والآراء الموجهة للفعل الأخلاقي والسياسي. وتلك قضية نالت القسط الأعظم في حكمة ابن الصائغ كما نالته في حكمة الفارابي. فمبدأ الغائية هو الذي يفسر سائر الأفعال الإنسانية ويحدد طبيعة الوجود الإنساني ومصيره.

لا بد أن نلاحظ أن ابن باجة يستعمل للدلالة على حضور هذا المبدأ الغائي في الفعل الإنساني ثلاثة ألفاظ محورية : الفكر/ الصورة/ المعقول. وبدون شك فإن ذلك يفترض بين هذه الألفاظ تواطؤا في الدلالة والاستغراق، وتفاوتا في مجال الاستعمال وسياقه.

إن ابن باجة يضع الفكر في مدخل التدبير ويعتمده في تحديد معاني التدبير وهو يعني الفكر الإنساني العملي. فليست مشكلة ابن باجة هي غياب (الفكر) في الفعل المدني أو السياسي، بل غياب الفكر الصائب.ذلك أنه لا يمكن تصور هذا الفعل دون (فكر) أصلا. إن العقل السياسي متى تخلص من انحرافاته لحظة من لحظات إشراف العقل وتجلياته في الإنسان كما يحددها الكوجيطو الباجي.

 

الهوامـش

1 - حول مرجعية هذا التحليل ينظر في : محمد ألوزاد-القول الإنسي لابن باجة- مطبعة الأندلس البيضاء 1994.

2 - ابن باجة، تدبير المتوحد : رسائل ابن باجة الإلاهية، ت م ف ، ص 49-50

3 - ابن باجة، نفس المصدر، ص 94

4 - ابن باجة، نفس المصدر، ص 95

5 - ابن باجة، نفس المصدر، ص 96

6 - ابن باجة، رسالة الوداع : رسائل ابن باجة الإلاهية، ت ماجد فخري، ص 127.

7 - ابن باجة، نفس المصدر، ص 139

8 - ابن باجة، قول يتلو رسالة الوداع: رسائل ابن باجة الإلاهية، ت فخري، ص 151

9 - ابن باجة، نفس المصدر ، ص 152

10 - ابن باجة رسائل الاتصال: رسائل ابن باجة الإلاهية، ت ماجد فخري، ص 160-161.

11 - ابن باجة، نفس المصدر والصفحة

12 - ابن باجة، القول في القوة الناطقة، مخطوطة برلين (كراكوف)، و 176 وجه.

13 - ابن باجة، نفس المصدر، و177 وجه.

14 - ابن باجة، نفس المصدر والورقة

15 - الفارابي، إحصاء العلوم، بيروت 1991، ص 390

16 - ابن باجة، تدبير المتوحد، رسائل ابن باجة الإلاهية، ت م ف ، ص 57.

17 - ابن عذري، البيان المغرب، ج 4، ت كولاوبروفنسال ، دار الثقافة، ص 26.

18 - ابن سعيد المغرب في حلى المغرب، ج2، ت شوقي ضيف، دار المعارف بمصر 1955، ص 438.

19 - ابن باجة شروح السماع الطبيعي، ص 438 مخطوطة برلين ورقة 11 ط 76 حشر التيتك 746.

20 - ابن باجة، تدبير المتوحد، رسائل ابن باجة الإلاهية، ت م ف،ص 47-.

21 - ابن باجة ، نفس المصدر،ص 47.

22 - ابن باجة ، نفس المصدر، ص 48.

23 - ابن خلدون، المقدمة ج،ت وافي، ط 3، القاهرة، دار نهضة مصر بدون تاريخ ، ص 1340.

24 - ابن باجة، تدبير المتوحد، رسائل ابن باجة الإلاهية، ت م ف ،ص 73.

25 - ابن باجة ، نفس المصدر، ص 74.

26 - الفارابي ، آراء أهل المدينة الفاضلة، ت ألبيرنادر، ص 132.

27 - الفارابي، نفس المصدر، ص 133.

28 - ابن باجة، تدبير المتوحد، رسائل ابن باجة الإلاهية، ت م ف، ص 53.

29 - ابن باجة ، نفس المصدر، ص 53.

30 - ابن باجة ، نفس المصدر، 89.

31 - النباهي، المرقبة العليا، الكتب التجاري للطباعة والنشر بيروت، ص 85.