ص1     الفهرس    31-40

قراءة في كتاب:

 الفكر في عصر التقنية

 

إدريس شرود

تقديـم:

ماذا تبقى للفكر في هذا العالم الذي تحدده التقنية؟

هذا هو السؤال الذي يحاول الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي الإجابة عليه في كتابه الأخير الذي يحمل عنوان: الفكر في عصر التقنية


[1]. وعنوان الكتاب نفسه، مسكون بالسؤال في أساسه. والأسئلة طرق مؤدية نحو جواب ممكن، وكل جواب من حيث هو كذلك يختص بتحويل الفكر. وليس عرضا بسيطا لموضوع معطى من ذي قبل كما يقول هايدغر، عسى أن تبلور الصعوبات النظرية التي يطرحها. هذه الصعوبات التي تجعل من الفكر ليس مجرد رأي، بل ميزته الأساسية هي التراجع والانتقاد على حد تعبير الأستاذ بنعبد العالي.

إن السؤال هنا موجه إلى "روح العصر" بتعبير هيجل، أي محاولة اكتشاف اللحظة التي يلزم توجيه الفكر نحوها. وذلك بهدف إنشاء رؤى جديدة قادرة على فتح العالم من جديد، وإضاءة الطريق بمشاغل نظرية. فالسمة الأساسية التي تميز العالم المعاصر هي سيادة التقنية. فهي تكتسح الوجود المعاصر، ولا أحد يستطيع أن يوقف مدها، وهذا ليس راجعا لتدبير فاعل تاريخي، أو إرادة "مؤامرة" يدبرها البعض ضد الآخر، وإنما لقدر تاريخي اندلع يوم اتخذ الوجود صبغة رياضية، فتعينت علاقة الإنسان بالإنسان جديدة، وعلاقة لهذا بالوجود[2]. هذا يفترض بأن الحاجة تضع التقنية الحديثة موضع تساؤل، لأن هذه الأخيرة تنوجد بالحصر وتسود عبر علاقاتها المميزة والمسلطة على ظواهر الكون والمكان الذي توفره للإنسان، بل أن قضية التقنية تمس الكائن ذاته، كما أنها لا تخص مسألة تطبيق المعرفة العلمية، وإنما مصير الكائن ووضعه المعاصر[3].

في ظل هذه المشروطية التاريخية، يتابع الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي عمله النقدي، قراءة وكتابة، واضعا نصب عينيه الوجود والكائن، والفكر وما يلحقه من تحول في عصر التقنية.

في التقنية:

يلاحظ الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي، بأن الفكر الفلسفي المعاصر، حينما عرض للتقنية، اقتصر على التساؤل حول أضرارها ومنافعها، وعلى النداء إلى ضرورة التحكم فيها. إنه لم يطرحها قط موضع تساؤل، ولم يجعل منها مسألة فلسفية إلا منذ وقت غير بعيد. والأغرب من هذا، أن لفظ التقنية ذاته لم يدخل اللغات الأوربية المعاصرة إلا في وقت متأخر. فلا نعثر عليه مثلا حتى عند أبي الفلسفة الحديثة ومؤسس العلم الحديث، ديكارت. واللغة الفرنسية لم تستعمل الكلمة إلا منذ القرن الثامن عشر ومع إطلالة الثورة الصناعية. ويشير بنعبد العالي إلى أن اللغة اللاثينية كانت تضع مقابل اللفظ تيخني كلمة art. فظل اللفظ المستعمل للدلالة على المعنى كلمة فن وصناعة[4]. وحتى ماركس، نفسه، ظل يأخذ التقنية في معناها المحايد.

يقف بنعبد العالي عند الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، الذي يرجع هيمنة المفهوم المحايد عن التقنية إلى عدم مساءلة الميتافيزيقا وأزواجها. إذ أننا ما دمنا نؤول التقنية ونفهمها انطلاقا من علاقة النظرية بالتطبيق والممارسة، دون أن نسأل هذا الزوج ذاته، لا بد وأن نخلص إلى النتيجة ذاتها ونقول بحياد التقنية[5]. يقف هايدغر عند المعنى الاشتقاقي للكلمة والرجوع بها إلى أصلها. وهو يبين أن الكلمة الإغريقية تيخني كانت ترتبط، حتى عصر أفلاطون، بكلمة إبيستيمي، فكلتاهما تستخدم للدلالة على المعرفة في معناها العام. ثم إن النقطة الحاسمة في التيخني لا تكمن في الفعل le faire والاستعمال ولا في استخدام الأدوات، وإنما في الانكشاف. هذا الانكشاف الذي يحكم التقنية الحديثة تحريض provocation عن طريقه تظل الطبيعة مستعدة لتسليم طاقة يمكن أن تستخرج وتتراكم(...)، الانكشاف يتعلق هنا بالطبيعة، لا كانفتاح وفيزيس physis وإنما كأهم مستودع للطاقة[6].

يؤكد الأستاذ بنعبد العالي في كل كتاباته، على خاصية أساسية تميز التقنية، إذ أنها تحول الواقع الفعلي إلى واقع توحده الحسابات وينتفي فيه الاختلاف. وأن ما يتولد عن "مبدإ الإنتاجية هو غياب الاختلاف".

وإذا كنا قد ألفنا التعاريف الرائجة حول التقنية كأدوات، آلات، مصنوعات قابلة للاستعمال سلبا أو إيجابا، فإن التعريف الذي يعطيه الكاتب للتقنية، يضعنا مواجهة فعلية لتاريخ الميتافيزيقا بكامله.

يقول الأستاذ بنعبد العالي: "التقنية شكل من أشكال الحقيقة وكيفية من كيفيات الوجود، وهي الكيفية التي يختفي فيها الوجود ليظهر كمستودع. إنها موقف أنطولوجي يمس الكائن وعلاقته بنفسه والكائنات الأخرى، بحيث "يمتد الموجود في غياب الاختلاف" ويغدو الإنسان ذاته مستودعا للطاقة"[7].

هذا الطرح الفلسفي للتقنية، يدفعنا إذن إلى معاودة النظر في الأزواج الميتافيزيقية، التي ترسخت عبر التاريخ والتي تميز بين العلم والتقنية، النظرية والممارسة. فالتقنية بهذا المعنى ليس شيئا محايدا، وإنما نوعا من العلاقة بين الإنسان والإنسان، بين الإنسان والوجود. تصبح التقنية على حد تعبير بنعبد العالي، موقف أنطولوجي يمس الكائن وعلاقته بنفسه وبغيره من الكائنات[8]. لا يتعلق الأمر إذن بقبول التقنية أو رفضها، أو القول بحيادها، بل بمدى فهمنا لماهية التقنية كما يقول مارتن هايدغر.

في التراث والهوية:

يؤكد الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي على البعد التاريخي لمسألة التراث ولقضية الهوية، والعلاقة التي تشد هذه الثنائية. فكلما طرحت قضية الهوية عبر التاريخ إلا وطرحت معها مسألة التراث والتجذر التاريخي. يعرض بنعبد العالي لنماذج طبعت التاريخ الحديث؛ ففي ألمانيا، اقترن ظهور الوعي القومي بالطرح الفلسفي لمسألة التراث وقيام النزعات التاريخية، بل وظهور علم التاريخ نفسه خلال القرن الماضي. وعرفت أوروبا الظاهرة نفسها، حيث طرح مشكل الوعي القومي مع العشرينات من القرن الحالي، خصوصا عندما احتك الروس بأوربا مع حروب نابليون. فأخذت الإنتلجنسيا تطرح مسألة التراث وقضية الهوية في الوقت نفسه.

وعاش الفكر العربي الإسلامي القضية نفسها، منذ عصر التدوين، حيث ساهمت كتب التاريخ بمختلف أنواعه في تأسيس مفهوم الأمة وتحديد الهوية في الوقت نفسه. أما اليوم، يقول بنعبد العالي، فلسنا في حاجة إلى تدليل كبير لإثبات الرابطة التي تقام بين طرح مسألة التراث وقضية الهوية[9].

خاصية أساسية، ما لبث الأستاذ بنعبد العالي يؤكد عليها في كل كتاباته، تطبع الفكر العربي، وهي أنه لا زال يعيش في معظم إنتاجاته على ثنائية التراث والهوية. بل تزايد هذا الاهتمام في السنوات الأخيرة مع بروز ما يسمى بـ"الصحوة الإسلامية"، وأفول الأفكار الاشتراكية، وتوالي الإخفاقات الذاتية، وهجومات واختراقات الآخر: الصليبي/الأوربي، والأمريكي/الإسرائيلي، و"تحديات العولمة..؟". كل هذا التاريخ المثقل بالهزائم، والموشوم بانتصارات الآخر، جعل الذات تلجأ إلى البحث عن جذور متأصلة، تقوي وحدتها وتؤسس هويتها، فتطرح التراث وكيفية تملكه، وقضية الهوية والخصوصية وطريقة صيانتها وتأصيلها[10].

لكن مساءلة الأستاذ بنعبد العالي لمسألة التراث وقضية الهوية، تجبر القارئ إلى عدم الارتياح لما هو كائن (كتابات المشارقة والمغاربة على السواء، مع بعض الاستثناءات)[11]. وتدفعه إلى تجاوز كل قراءة ميتافيزيقية/منفعلة، وبالتالي الإعلاء من كل قراءة فعالة منتجة ومحولة[12].

يقف بنعبد العالي عند الربط الحاصل بين مسألة التراث وقضية الهوية، التي دأبت على تثبيته معظم الكتابات[13]. ويرى أن هذا الربط، وإن كان موحدا في المظهر، فهو يتخذ شكلين متباينين متعارضين؛ فإما أن يرتبط حديثنا عن التراث بفلسفة متوحشة عن الهوية ترفض الآخر أو على الأقل ترمي به "خارج الذات"، وإما كطرف آخر، يجئ من "خارج" يقابل الذات ويتعارض معها[14]. وفي كلا الشكلين، تطرح قضية التراث داخل فلسفة التطابق ومنطق الوحدة والاتصال، فيرتبط طرحها بالبحث عن التأثيرات والاستمرارات والدوام: دوام الخصائص التي تميز الذات والسمات التي تخصها ودوام الأرض التي نحيا عليها، واللغة التي نتكلمها، والفكرة التي نعتقد حقيقتها[15].

    ضدا على هذه النظرة السائدة، الثابتة والباردة، ذات النفحة الأخلاقية، يربط الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي مسألة التراث بفلسفة مغايرة عن الهوية. فلم يعد تحديد "الهوية" وقوفا عند خصائص تخص الكائن وتميزه، بل وتفصله عن غيره، وإنما غدا إشارة على العمليات والإجراءات التي ينبغي القيام بها لإخراجه عن ذاته وربطه بغيره كي يتولد ويكون. ذلك أن وجوده مرتبط بخروجه عن ذاته وارتباطه بغيره ودخوله في علاقة مع أو علائق معه. وانسجاما مع هذا الموقف المغاير، فلا يعود السلب والنفي مجرد لحظة في بناء الهوية، كما يقول الكاتب، بل يقحم الآخر "داخل" الذات ويصبح قائما فيها، ويغدو هو البون الذي يفصلها عن نفسها، ولا يعود مجرد "ذات" تقابل الذات وتتعارض معها من "خارج"، فحينئذ سيبرز التراث في غناه وتعدده، ولا يعود اللجوء إليه تزكية للوهم بالخلود، وإنما إصغاء لأصواته وتملكا لفراغاته وحفريات لصمته[16].

هذا الطرح المغاير لمسألة التراث وقضية الهوية، يجر إلى طرح قضايا متشابكة، مترابطة، يقف عندها الأستاذ بنعبد العالي، نقدا وتفسيرا، كمسألة القطيعة والاختلاف والتمايز والآخر، والتعدد والتوحيد، والكونية والحداثة، وقضية الزمان[17].

في الفكر الفلسفي:

يلاحظ الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي كثرة الحديث عن عقم الفكر الفلسفي في عالمنا العربي، وعجزه عن مواكبة الحداثة. وغالبا ما تشير الأصابع إلى عوامل مؤسسية (العلاقة مع المؤسسة التعليمية والسياسية أو الدينية). لا يقف بنعبد العالي عند هذه العوامل المعيقة لازدهار فكر فلسفي عربي، فهو يحاول أن يخرج من الجوقة المميزة بهوس صوت المؤسسات والأجهزة. لهذا يسلك في طرحه لهذه القضية طريقا آخر، غير تقديم أجوبة، فالسؤال يبقى عنده مفتاح الفكر، يقول: "ماذا لو حصرنا أنفسنا داخل الفلسفة ذاتها، وبالضبط داخل فهمنا نحن للفلسفة، في الوطن العربي ولتاريخها؟ لنتساءل إذن إلى أي حد يعمل فهمنا للفلسفة، في الوطن العربي ولتاريخها؟ لنتساءل إذن إلى أي حد يعمل فهمنا للفلسفة ولتاريخها كعائق يتحدى ظهور فكر فلسفي؟"[18].

جدة هذا السؤال تكمن في تحويل إعمال الفكر، فما ننتظره حاضرا –ونحن هنا مازلنا سائرين فيغينا- هو الإجابة عن أسئلتنا، وأسئلتنا الموهومة في معظم الأحيان. وهذه سمة تميز فكرنا الفلسفي تاريخيا. فإذا كانت الفلسفة تستحق أن ندرسها، فليس من أجل أن نبحث فيها عن أجوبة، بل بالأحرى بسبب قيمة الأسئلة التي تطرحها كما يؤكد الأستاذ بنعبد العالي غير ما مرة. وعلى هذا الأساس، يجب ألا ننتظر من السؤال إجابة تقنعنا أو حقيقة نطمئن إليها. إن الأسئلة هي التي تثري خيالنا العقلي كما يقول برتراند راسل، وتقلل من ثقتنا الدوغمائية التي تغلق الفكر وتسد عليه منابع كل تأمل. ففي طرح السؤال، نعطي لأنفسنا الشيء كما نمنحنا الفراغ الذي يكننا من أن نتملكه، أو لا نتملكه إلا كرغبة: "السؤال هو رغبة الفكر"[19].

تجاوزا إذن، للقول بالعوائق المؤسسية، يرجع بنا الأستاذ بنعبد العالي إلى داخل الفلسفة نفسها، أي إلى علاقتنا بالفلسفة، وبالضبط فهمنا نحن للفلسفة ولتاريخها، فيطرح السؤالين الآتيين:

ـ إلى أي حد يعمل فهمنا للفلسفة ولتاريخها كعائق يتحدى ظهور فكر فلسفي؟

ـ ما علاقة النحن إذن بالتيارات الفلسفية؟

انطلاقا من هذين السؤالين، يعمل بنعبد العالي على إضاءة متاهات الفكر الفلسفي العربي، والرجوع به إلى الأرض التي يمكن أن تحتضنه، فقد أصابنا الدوار بسبب طول الإقامة في الماضي.

يقف الكاتب عند هذه "النحن" العزيزة على مثقفينا، ليقدم تعريفا لها، مخالفا تماما لما نصادفه في معظم الكتابات والقراءات والاعمال النقدية: فهو لا يقصد بهذه "النحن" المعنى القومي أو أية خصوصية منغلقة، وإنما كما يقول، فضاء تاريخيا أصيلا un lieu historial[20]، فضاءا منفتحا يدخل في طياته جميع التيارات التي ترعرعت في حضنه. فضدا على هذا السباق المحموم للانتظام في تيار أو مذهب أو عائلة فكرية أو خانة جاهزة، يشيد الأستاذ بنعبد العالي بالفلاسفة الذين أضحوا يعلنون عن انفصالهم عن كثير من التيارات الفكرية، دون أن يعلنوا عن انتمائهم لتيار بعينه. ويعتبر الكاتب هذا التوجه علامة جدة وتجديد. ففي ميدان الفكر، ليس هناك ما يجمع المفكرين ويضمهم داخل تاريخ موحد. كل ما هناك حركات متفردة وخطوط متقاطعة[21]. لا بد إذن من البحث عن خطوط انفلات، تسمح لهذه "النحن" من التحرر من النزعة القومية الضيقة وهذه الخصوصية الفجة، وهذه التيارية الجارفة. فما العمل؟

يقول الأستاذ بنعبد العالي:

"إذا أردنا أن نواكب ما يبدو فلسفة مغايرة في الوطن العربي، إذا أردنا أن يواكب التاريخ الفلسفي الجدة التي أصبحت تسري في ممارستنا للفلسفة ذاتها، إذا أردنا أن نقحم الفكر في ميدان تحويل الواقع وتغييره، إذا أردنا ألا يظل تأويلا، هو أنه كيف ننفصل عن الأفكار بما هي تيارات جارفة؟[22].

يمنحنا هذا السؤال، أفقا للتفكير في مدى إمكانية إبداع العقل العربي، ومدى مساهمته في بلورة مشاكلنا الفعلية وقضايانا الأساسية، ومدى مساهمته في العالمية التي ينشدها.

ميزة السؤال المطروح آنفا، هي أنه يغير نظرتنا إلى ذواتنا، ويدفع هذه "الذات" إلى الفعل، إلى إبداع فكر فلسفي حداثي له ما يميزه. واثق من نفسه، ومنفتح على الفكر العالمي. إذ لا مفر له اليوم، من أن يجد نفسه منخرطا في الكونية، كما يؤكد بنعبد العالي. وحينئذ لن يعود هناك مجال لافتراض مفهوم مطلق عن الخصوصية، ولا إمكانية للحديث عن الأصالة إلا في إطار هذه الكونية[23].

في خصائص الفكر المعاصر:

لا بد هنا، أن نتساءل عن مميزات وخصائص هذا الفكر، في هذا العصر الذي تسوده التقنية؟

يجب الإشارة مسبقا إلى الثورات التي تحققت في حقول معرفية مختلفة منذ القرن التاسع عشر، والتي غيرت من النظرة إلى الوجود والكائنات والفكر. ونشير أساسا إلى الثورة الفلسفية التي أعادت النظر في التراث الفلسفي بأكمله، أو ما يطلق عليه بـ"الميتافيزيقا". ففلاسفة مثل نيتشه وهايدغر وفوكو ودولوز ودريدا.. حاولوا بفضل أعمالهم الخروج من الميتافيزيقا ومجاوزتها، ووضعوا أسس التفكير الفلسفي المعاصر.

للإجابة عن سؤالنا، سنعود إلى سؤال الأستاذ بنعبد العالي: ما علاقة "النحن" بالتيارات الفكرية؟

لطرق هذا السؤال، أو بالأحرى توضيحه، يعقد الكاتب، مقارنة بين الفكر الفلسفي المعاصر والتيارات الفكرية وما يطبعها من خصائص.

وسنلخص ذلك في الجدول الآتي:

خصائص الفكر الفلسفي المعاصر

- الانفصال والفصل والقطيعة

- إنتاج الأسئلة

- التعدد والاختلاف والتنافر

- الإعلاء من شأن السلب والخطإ

- الترحال

- الغربة واليتم

- التراجع والانتقاد

- ثقافة الحداثة

 

خصائص التيارات الفكرية

- الاتصال والوصل والجمع والضم والتوحيد

- تقديم الأجوبة

- الوحدة والهوية وملء الفراغات وخلق التطابق

- فكر وثوقي

- الألفة والاستقرار والثبات والدوام

- الانتماء إلى عائلة فكرية

- التعاقد والقران

- ثقافة التقليد

 

انطلاقا من المقارنة أعلاه، تبقى ثقافة التيارات، بلا منازع ثقافة الوصل والاتصال، هذا الوصل والربط لا على المستوى الإبستيمولوجي والاجتماعي وحدهما، وإنما أيضا على المستوى التاريخي. ذلك أن هذه الثقافة هي في الأساس ثقافة التقليد والذاكرة. إنها ثقافة ترسخ الأفكار وتحفظ المعاني وتنقل المعارف. وثقافة من هذا النوع لا يمكنها أن تستوعب الحداثة[24]. في حين تقوم الحداثة لتجعل الكائن في بعد دائم عن ذاته ولتجعل الانفصال نسيج المعرفة والتاريخ والثقافة[25].

ـ اللامباشرة واللانكشاف والتعدد:

من خصائص الفكر المعاصر، يقول الأستاذ بنعبد العالي، هذه اللامباشرة. فهو لا يشير فحسب إلى ما أصبح يسمى بالطابع الإيديولوجي للأفكار أو البعد اللاشعوري للحياة البشرية، وإنما بصفة عامة إلى سمة اللف والدوران والتحجب التي تطبع الفكر المعاصر. فهذا الفكر هو فكر اللامباشرة، لأنه يجعل التستر "صفة الكائن" واللانكشاف علامة على الحقيقة. الوجود المعاصر وجود متستر، والفكر المعاصر يضع الكلمات والأشياء في لعبة التستر وجدلية الظهور والاختفاء(...)، وتتمخض عن هذه اللامباشرة خاصية تعددية هذا الفكر. فالفكر المعاصر الذي قيل عنه إنه يقوم على فلسفات الشك والتوجس هو فكر تعددي بأكثر من معنى. فالأمر يتعلق بتفتت الكائن وتعدد المنظورات التي ننظر من خلالها إليه[26].

ـ قضية المنهج:

لا يقبل الفكر المعاصر، بل لا يكتفي بأن يقبل، بأن تؤول مسألة المعرفة إلى "قضية منهج". إذ يؤكد الأستاذ بنعبد العالي على أن مسألة المعرفة ليست مسألة منهجية، وإنما هي قضية أخلاقية سياسية. فقضية المعرفة لا تكمن في البحث عن خطابات الحقيقة وتحديد منهج الوصول إليه، إنما في تقصي ما يتولد عن الخطابات من "مفعولات الحقيقة". فالأمر لا يتعلق بتحديد منهج الوصول إلى الحقيقة وبلوغ اليقين، وإنما في تحديد الجهات التي تنتمي إليها حقائق بعينها،(...)، وبالتالي يكون مفتاح المعرفة هو "نظام الخطاب". هذه الخصائص، تجعل الفكر المعاصر في انفصال دائم عن ديكارت، أب الفلسفة الحديثة وعن فيلسوف "البداهة والوضوح" وعن الديكارتية ومنهجها[27]. يرد الأستاذ بنعبد العالي الضربات التي تلقاها الكوجيطو الديكارتي إلى مفعولات مفكرين أمثال نيتشه وليفي ستراوس وبارث وبلانشو...، أي من هامش الفلسفة ويقصد الكاتب هنا تلك الثورات المعرفية التي لم تكن لتتم دوما "داخل الفلسفة"، كالثورة اللغوية والإبستمولوجية والتحليل النفسي والثورة الأنثروبولوجية والثورة التاريخية والثورة الفلسفية التي نجد أسسها عند نيتشه وبلورتها في فكر هايدغر[28].

ـ مفهوم النقد:

يقف الأستاذ بنعبد العالي، كذلك، عند الخصائص التي يتميز بها النقد عندنا. ويشير إلى أنه ينطلق دائما من موقع الحقيقة، أو بعبارة أخرى أنه نقد ميتافيزيقي. إذ أن جل نقادنا يحاكمون نتاجاتنا ليعرفوا أين أصاب هذا المفكر وأين أخطأ. والخلاصة أن أسباب "الخطأ" في نظر نقادنا أسباب سيكولوجية إبستمولوجية، أخلاقية. وهي في أحسن الأحوال، أسباب إيديولوجية. يقوم بنعبد العالي، بمناقشة مفهوم النقد، وذلك بتحليله لفرضية المؤلف وللفرضية الإبستمولوجية، والفرضية الفلسفية[29].

في سياسة المعرفة:

خلافا للطرح المنهجي لمسألة المعرفة، يوضح الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي، أن إشكالية علاقة المعرفة بالسياسة لا يقصد بها علاقة المعرفة بما دأبنا على تسميته بالسياسة، أي علاقة المعرفة بالسلطة السياسية. ومخالفة أيضا لإشكالية أخرى أصبحت اليوم شديدة التناول، وهي إشكالية السلطة المعرفة والسلطة السياسية. يؤكد الكاتب على أن مفهوم السلطة في كلتا الحالتين ليس هو هو. ولرفع هذا اللبس يقوم بنعبد العالي بتقديم تحليل مستفيض لمفهوم السلطة. فتجاوزا للطرح المتداول حول السلطة، يعمل على تفكيك هذا المفهوم. إذ يشير إلى أن بعض الفلسفات المعاصرة، التي نستطيع أن نرجع أصولها إلى نيتشه، أو إلى كانط كما قرأه نيتشه وإلى بعض الاتجاهات السوسيولوجية والسيميولوجية، قد قامت بانتزاع احتكار الفكر السياسي لمفهوم السلطة. ولتبين أن السياسي ليس إلا واحدا من الأقنعة التي تتخذها السلطة. فقد تبين أن هذه لا تظهر في الهيمنة والقانون فحسب، وإنما في الأسرة والعمل والمهرجانات.. بل حتى في المعرفة والجنس واللغة. ويقف بنعبد العالي عند الفيلسوف الفرنسي مشيل فوكو، الذي استطاع أن يستلهم جنيالوجيا الأخلاق عند نيتشه ليقيم جنيالوجيا السلطة ويتجاوز الطرح المنهجي للمعرفة نحو ما أطلق عليه الطرح الأركيولوجي[30]. انسجاما مع هذا الموقف، لا تصبح السلطة مجموع الأفعال الصادرة عن أجهزة ومؤسسات الدولة، ومن يمثلها، بل استراتيجية تمارس، وهي تمارس انطلاقا من نقط لا حصر لها، وفي خضم علائق متحركة لا متكافئة. السلطة، يقول الكاتب، ليست مؤسسة أو بنية، كما أنها ليست قوة خولت للبعض دون الآخر. وإنما هي "الاسم الذي نطلقه على وضعية استراتيجية معقدة في مجتمع معين". وهذه الاستراتيجية، لا تنحصر في وظيفتين: هما الحظر والمنع والإقصاء ثم الإخفاء والتدليس والحمل على الاعتقاد.. إن السلطة استراتيجية فعالة مهمتها "أن تنتج الواقع في غليانه وتعدده". لا تتحدد السلطة بعلاقة الامتلاك بل بعلائق القوى المعقدة، التي تتكون وتعمل في أجهزة الإنتاج والأسر والجماعات الضيقة والمؤسسات[31]. ينتج عن هذا التعريف، تحويل لمفهوم السلطة، فهي أولا استراتيجية معقدة، محايثة لا متعالية، ليست جوهرا مطلقا بل أشكالا متعددة من السلط[32]. من هذا المنظور، يشير بنعبد العالي، إلى أن إشكالية السياسة والمعرفة ستتحدد بمعنى آخر، ولن تعود المسألة معرفة الأطر الاجتماعية والسياسية والمعرفية وتحديد دورها الاجتماعي، لن تعود المسألة تحديد مواقع الحقيقة والسيادة الطبقية. بل أن مفهوم الحقيقة ذاته سيتخذ معنى آخر ليصبح مجموع الطرق والعمليات التي يتم بفضلها إنتاج العبارات وتوزيعها وتداولها. صحيح يقول الكاتب، أن الحقيقة ستظل مرتبطة بأنظمة السلطة التي تولدها وتدعمها، لكنها سترتبط أيضا بمفعولات السلطة التي تتولد عنها. حينئذ سيصبح لكل مجتمع نظام معين للحقيقة وسياسة للمعرفة؛ أي أنواع من الخطابات يقبلها ويسمح بتداولها وعملها على أنها خطاب الحقيقة، وآليات ومنابر تسمح بتمييز العبارات الصادقة من الكاذبة، وتقنيات وطرق للوصول إلى الحقيقة، ووضعية معينة لأولئك الذين يوكل إليهم إصدار قول ما يعمل كحقيقة[33]. المعرفة ليست والحالة هذه، مسألة منهجية إبستمولوجية، ولا يتعلق الأمر بالبحث عن خطاب الحقيقة وتحديد منهج الوصول إليه، وإنما بدراسة مفعولات الحقيقة للخطابات. يتعلق الأمر إذن بالنظر إلى الحقيقة لا كفاعل، وإنما كمفعول لشيء آخر. هذا الشيء الآخر هو ما أطلق عليه نيتشه القيمة والمعنى، من حيث إن معنى الشيء هو علاقة بالقوة التي تتملكه، ومن حيث إن قيمته هي تراتب القوى التي تظهر فيه[34]. هذه هي المهمة التي اضطلع بها نيتشه؛ إدخال مفهوم القيمة والمعنى في تاريخ الفلسفة، كما يقول جيل دولوز، إذ كلما تم الحديث عن القيمة والمعنى يتم البحث عن استراتيجية الهيمنة[35].

خاتمة: عود على بدء

ماذا يتبقى للفكر في عصر التقنية؟

سؤال يفتحنا على قضايا العصر، أي على هذا الشرط التاريخي الذي نعيشه، والذي ينعث بعصر الحداثة أو عصر العولمة أو عصر ما بعد الحداثة القليل الاستعمال. ميزة هذا العصر هي سيادة التقنية.

يخرج الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي عن التقليد الذي يطبع الفكر العربي عند تحديده لمفهوم العصر الذي نعيشه. فإذا كان المعنى الزمني الكرونولوجي هو الطاغي على معظم الكتابات، فإن الكاتب يقصد بالعصر، الكيفية التي تتحدد بها ماهية الحقيقة, فتصبح هذه النعوتات ليست مجرد صفات يتصف بها العصر، وإنما "كيفيات وجود"، أو كما يقول بوفري "أنماط تجلي الوجود". وتصبح التقنية ليست تطبيقا للمعرفة، وإنما الوجود وقد اتخذ صبغة رياضية. يؤكد بنعبد العالي على الميزة الأساسية لعصر التقنية، وهي "غياب الاختلاف".

فماذا يتبقى للفكر؟

سؤال موجه إلينا، نحن الذين نتكلم في عصر التقنية عن نقل التقنية، واستخدام منافعها لصالح "نمونا" ومسايرتنا للعصر. التقنية، يقول بنعبد العالي أمر يعنينا في وجودنا وهويتنا، وفي أسلوب حياتنا وتفكيرنا. وهو يلزمنا بالتالي، أن نخط دروبا جديدة ونفتح فكرنا على آفاق تتجاوز العلوم التقنية.

لقد نتج عن سيادة التقنية، انقلاب أنطولوجي جعل الفكر الكوني معادلا لعالم التقنية، لكن هذه الحقيقة لم تصب الثنائيات التي تطبع فكرنا بأي أذى، إذ لازلت هذا الفكر يعيش على ثنائية الأصالة والمعاصرة وما شابهها..

لهذا يقول الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي في الصفحة الأخيرة من كتابه: الفكر في عصر التقنية:

"ليس هناك فكر أصيل، كل ما هناك هو كيفيات أصيلة للمساهمة في العالمية والمشاركة في الفكر الكوني".

 


 

 

[1]



[1]



[1] - عبد السلام بنعبد العالي، الفكر في عصر التقنية، إفريقيا الشرق، 2000.

[2] - الفكر في عصر التقنية، ص10.

[3] - عبد السلام بنعبد العالي، بين-بين، دار توبقال، الطبعة الأولى، 1996، ص85.

[4] - الفكر في عصر التقنية، ص12.

[5] - الفكر في عصر التقنية، ص13.

[6] - الفكر في عصر التقنية، ص13-14.

[7] - الفكر في عصر التقنية، ص15.

[8] - بين-بين، ص86.

[9] - عبد السلام بنعبد العالي، ثقافة الأذن وثقافة العين، دار توبقال، ، 1996، ص69.

[10] - الفكر في عصر التقنية، ص17.

[11] - يمكن الإشارة إلى الحوار اللانهائي الذي دشنه الأستاذ بنعبد العالي مع الأساتذة: عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وعلي أمليل.

[12] - انظر مقالتنا: إشكالية القراءة والكتابة في كتاب متولوجيا الواقع للأستاذ بنعبد العالي، مجلة فكر ونقد، العدد 23، السنة الثالثة، ص151.

[13] - يشير بنعبد العالي، إلى الانشغال المرضي بمسألة التراث وقضية الهوية. وبخلاف العديد من الآراء، يؤكد بأن الأمر علامة وقفة وتوقف وعلامة انفعال لا فعالية. وعلامة سكون لا علامة حركة. إنه دليل على عدم انخراط فعلي في العمل على بناء حقيقي للذات، وتفاعل مع الآخر (ثقافة الأذن وثقافة العين، ص49). يطلق بنعبد العالي هلى هذا الاشتغال المرضي "حمى التراث" عند مفكرينا، الذين يحولون التراث إلى متاحف بل إلى قبور (بين-بين، ص69).

[14] - الفكر في عصر التقنية، ص18.

[15] - ثقافة الأذن وثقافة العين، ص117.

[16] - الفكر في عصر التقنية، ص19.

[17] - يمكن للقارئ الرجوع إلى المقالة "نحو نشأة مستأنفة" في كتاب: الفكر في عصر التقنية، ص17.

[18] - الفكر في عصر التقنية، ص33.

[19] - متولوجيا الواقع، ص92.

[20] - الفكر في عصر التقنية، ص34.

[21] - الفكر في عصر التقنية، ص84.

[22] - الفكر في عصر التقنية، ص38.

[23] - ثقافة الأذن وثقافة العين، ص45.

[24] - ثقافة الأذن وثقافة العين، ص23.

[25] - الفكر في عصر التقنية، ص94.

[26] - الفكر في عصر التقنية، ص44.

[27] - الفكر في عصر التقنية، ص45.

[28] - يمكن الرجوع إلى مقالة الأستاذ بنعبد العالي: "من مكر العقل إلى التيه والظلال. احتجاب مفهوم الإيديولوجية"، مجلة الوحدة، السنة الأولى، العدد11/ غشت 1985، ص151.

[29] - للمزيد من الاطلاع، على القارئ، الرجوع إلى مقالة "تفكيك النقد"، ص49، في كتاب الفكر في عصر التقنية، وإلى مقالتنا: "إشكالية القراءة والكتابة.."، م فكر ونقد، عدد 23.

[30] - الفكر في عصر التقنية، ص62.

[31] - ثقافة الأذن وثقافة العين، ص73.

[32] - حول أشكال السلطة: انظر كتاب: بين-بين،  للأستاذ بنعبد العالي، مرجع سابق، ص62.

[33] - الفكر في عصر التقنية، ص64-65.

[34] - الفكر في عصر التقنية، ص65.

[35] - للمزيد من التفصيل، يمكن للقارئ الرجوع إلى الفصل الأول من كتاب: أسس الفكر الفلسفي المعاصر: مجاوزة الميتافيزيقا: للأستاذ عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال، الطبعة الأولى، 1991.