ص1      الفهرس    41-50

هل يجوز الحديث عن طبيعة إنسانية

عند جان بول سارتر؟

فاطمة سويدان

السؤال عن حقيقة الإنسان، لا يجب الإجابة عليه خارج سلوكيات تحيل إلى الوعي، لا على أنه مبدأ للتصورات وحسب، بل لأن لا سبيل لكنه أية سلوكيات خارج تصور لوعي يدرك ما يفعل، أي يعي أهدافه.

ولكن قصدية الوعي هذه، كما تظهرها مقاربة سارتر لما يسميه "بالإيمان الكاذب" كما "بالسلوك الصادق"، تظهر الخصوصية المزدوجة للطبيعة الإنسانية من حيث ما هي حقيقة واقعه، يجسدها واقعي التزامن، وماهية متعالية، تفكر ما أرمي إليه من غايات.

بهذا المعنى، يظهر الإنسان كفعل تطلع، أي أنه يحدد نفسه بواسطة غاياته، التي تمثلها الأنا القابعة في المستقبل، كتجسيد لواقع التعالي، لا كميزة إنسانية وحسب، بل كطريقة في الوجود، بحيث لا يمكن أي تصور للإنسان خارج عملية التعالي نفسها. ضمن هذا المنظور، يستحيل الحديث عن ماهية إنسانية بالمعنى الثابت والنهائي الذي نعطيه للأشياء، فعدم المطابقة مع الذات، يظهر كأصل تكوين للذات الإنسانية، والقول بخلاف ذلك، يقتضي تصورا للإنسان يخرجه من دائرة الوعي إلى دائرة الشيء، أي يقدمه كماهية لا قدرة لها على استعادة ذاتها.

بكلمة، إن كل تساؤل عن الإنسان يطرح موضوع الحرية التي تبقى الهوية الوحيدة للإنسان، وهو ما أحاول إيضاحه في هذا البحث.

الإيمان الكاذب ووحدة الظاهرة النفسية

الإنسان كما تصوره سارتر، لا يمكن له أن يدرك العالم، وإمكاناته فيه، دون أن يكون فاعلا لعمليات سلب، أي ممارسا لحريته كسبيل وحيد في معرفة العالم، ولكن تبشر في الوقت نفسه، أن الأنا التي تمارس فعل السلب في كنهها للعالم ولذاتها، لا تبقى غير معنية بهذا الفعل، بل تتقدم في ذاتها كفعل لا، أي أن الإنسان لا يكتفي فقط بممارسة السلبيات حيال العالم، بل يمارس السلب حيال نفسه، إذ يحدث أن يعي الإنسان هذه الإمكانات، وبدل أن يسعى إلى تحقيقها، فإنه يتهرب منها، متهربا بذلك من مسؤولياته، وحتى يمكن القول إن الهروب هنا، هو هروب من الحرية التي تنجلي أمام الوعي، يبحث الإنسان عن سلوكيات يخدع فيها نفسه، محاولا إخفاء هذه الحقيقة-الحرية، واضحا نفسه، أنه كباقي أشياء العالم، يخضع لحتمية لا مرد لها، فيجد في نمط من السلوك، يسميه سارتر بالإيمان الكاذب (Mauvaise foi)، ما يساعده على تحقيق توازن نفسي، يخفف من حدة القلق، بحيث يعيش حريته بطريقة أقل إيلاما.

إن معاينة هذا السلوك يسمح لنا بالتقرب عن كثب من البنية التركيبية للوعي الإنساني، كبنية تسمح بل وتؤسس لهذه الحرية، فما هو الإيمان الكاذب، ومن هو الإنسان لكي يكون بمقدوره أن يمارس فعل السلب حيال نفسه؟

غالبا ما يخلط بينه وبين الكذب، ولا شك أن الإيمان الكاذب هو "كذب على الذات" شريطة أن نقيم تمييزا بين "الكذب على النفس" والكذب الخالص (Le mensonge tout court). هذا التميز يعود إلى أن الكاذب يكون على بينة من الحقيقة التي يقوم بإخفائها، فنحن لا نكذب في حال الجهل، ولا عندما نروج لخطأ نكون ضحية له، الكذب يكشف عن "قصدية عند الكاذب في أن يخدع وهو لا يسعى لإخفاء هذه القصدية على نفسه"، وهو، وإن أظهر لمحاوره عن نيته في قول الحقيقة، فإن هذه النية تبقى في حيز التكلف، فهي ظاهرية، لا تطال شخصه بالذات، بل هي "قصدية الشخصية التي يلعب دورها حيال محاوره". بتعبير أكثر وضوحا، يظهر الكذب كسلوك سلبي، إلا أن السلب الذي يفترض غير موجه إلى الوعي، بل يحمل على المجرد كموضوع له، إنه يحمل على هذه الحقيقة المنكرة (Vérité niée )، من "حيث هي نمط خاص من التجريد" وعلى الخبر الذي يعلنه (Le fait énoncé) كمجرد هو الآخر لأنه غير موجود، وكذلك على الشخصية التي يلعبها الكاذب أمام محاوره، وكلها مجردات. فالكذب بهذا المعنى، "لا يمس البنية الداخلية للوعي الراهن، وكل السلبيات التي تقومه تحمل على أشياء، هي ولهذا السبب بعينه، تبقى خارج الوعي…"


[1].

في المقابل، يفترض الإيمان الكاذب، على عكس ما هو عليه الحال في الكذب –"الذي يستخدم لصالحه الكينونة الثنائية La dualité ontologique   للأنا والآخر"- لا ثنائية الخادع والمخدوع، لأن هذه الحقيقة، أقوم بإخفائها على نفسي. فالإيمان الكاذب، كسلوك سلبي، يقتضي من حيث المبدأ "وحدة الوعي". فنحن لا نكون عرضة لإيمان كاذب، يفرض علينا من الخارج، ولكن الوعي يقوم هو نفسه بتكلف مثل هذا السلوك، أي أن الخادع والمخدوع هما الشخص نفسه، "أي علي أن أكون كخادع على اطلاع على الحقيقة التي هي خافية علي من حيث أني مخدوع"[2].

ولا شك أن إلغاء الثنائية هنا يهدد بنسف المشروع كله، "إذ كيف يمكن لعملية الكذب أن تثبت، إذا ما ألغيت الثنائية التي هي شرط لها؟" ثم هناك مشكلة ثانية تتعلق "بالشفافية الكاملة للوعي". فالذي يتكلف الإيمان الكاذب، عليه أن يكون على دراية بفعله هذا، لأن كينونة الوعي هي وعي بالكينونة، أي أن معرفتي بما أنا عازم على فعله يقوض بحد ذاته هذا المشروع، فأكون بالنتيجة أعثر عن حسن نية في "هذا على الأقل، وهو أني عارف بما أنا عليه من سوء نية"[3].

هذه الصعوبة في التأسيس لهذا السلوك، يعبر في الواقع عن صعوبة تكوينية فيه، فنحن أمام سلوك يمتاز في طبيعته بعدم الثبات، فالهشاشة (précarité) أو التلاشي (évanescence) يتميزا الإيمان الكاذب كظاهرة "لا توجد إلا من خلال وعن طريق تمايزها" ورغم ذلك، فإن هذا السلوك يظهر كنمط دائم في حياة عدد كبير من الناس.

هذا السلوك، هو ما نجد التعبير عنه في "نظرية التحليل النفسي" بظاهرة المخدوع إزاء سلوكيات الخادع. فالمخدوع هو الشخص (Sujet) الذي يجد نفسه أمام سلوكياته دون أن يكون قادرا على تفسيرها، بسبب جهله بالدوافع الغريزية الأولى، التي يتكون منها تاريخ الفرد، وتبقى في دائرة اللاوعي، وتعمل الرقابة، وهي جملة القوانين والعادات والنظم الأخلاقية وأنساق التربية على كبتها…

إن القول باللاوعي يجعل من الإنسان كائنا يعوزه الوعي الكافي كسبيل لفهم حياة يعود إليه صنعها.

لقد شطر فرويد، يكتب سارتر، الكتلة النفسية (La masse psychique) إلى شطرين بتمييزه بين الأنا والهو، فأنا هذه الأنا، ولكنني لست هذا الهو، والذي أبقى حياله في موقف لا أحسد عليه، أي حيال [حياتي النفسية] غير الواعية[4]. هذا يعني أنه وفقا لنظرية التحليل النفسي، أنا هذه الظواهر النفسية التي ألاحظ في حقيقتها الواعية، فعلى سبيل المثال، هذا "الدافع (impulsion) لسرقة هذا الكتاب أو ذاك، هو أنا، بل هو جزء مني، وأوضحه بمقدار ما أحدد عزمي على السرقة تبعا له، ولكني لست هذه الوقائع النفسية، من حيث إني أتقبلها بطريقة سلبية، وأجد نفسي مجبرا على إقامة افتراضات حول مصدرها ومعناها الحقيقي، تماما كما يضع العالم فرضياته بشأن طبيعة وماهية ظاهرة خارجية"[5].

بمعنى آخر، هناك حقيقة تقع وراء الحادث النفسي أو الواقعة النفسية، يسعى التحليل النفسي للكشف عنها بواسطة المحلل كوسيط خارجي، فيظهر هذا الآخر "كوسيط بين ميولي (tendances) اللاواعية وحياتي الواعية"، بحيث لا يمكن التعرف إلى نفسي، إلا كطريق الآخر، فأكون القياس إلى "الهو" الذي هو "أنا" في موقع الآخر[6].

فالتحليل النفسي، يستنتج سارتر، يفسر كيف أكون مخدوعا، لا كيف أكون خادعا لنفسي، فهو بإحلاله "الهو" و"الأنا" محل ثنائية الخادع والمخدوع، أدخل في الصميم من ذاتيتي التركيبة البين-شخصانية (Inter-subjective) لوجود الآخر[7].

ولا شك، تعلق كريستيفا، بأن سارتر أحرز تقدما بالنسبة للفرودية، عندما بين أن التحليل النفسي بفصله النفسي بين الهو والأنا، قد واصل الأخذ بثنائية الخادع والمخدوع، برده الاعتبار للتركيبة البين-شخصانية، في طابعها الأكثر عمقا لوجود الآخر، ولكن ما تقره كريستيفا كعنصر إيجابي في فلسفة سارتر، تعود لتلقي حوله ستارا من التعتيم، حين تستنتج بأن سارتر "يخطئ إلى حد كبير في فهمه الصراع الحميمي الذي يكشف عنه التحليل النفسي بواسطة الوعي ورغما عنه"[8]. ليس بالإمكان التوقف عند غوامض العلاقة التي طبعت مواقف سارتر من علم التحليل النفسي، في إطار هذا البحث، هذا على الرغم من أن تماسا حقيقيا في المشكلات هنا وهناك، كثيرا ما يجر الباحث إلى الغوص عن حقيقة المشكلة، مدار البحث، وهو ما سأفعله باقتضاب.

فالخلاف بين سارتر وعلم التحليل النفسي هو طرائقي أكثر منه رفضا أو إنكارا لمنجزات هذا العلم، وهو يحمل بتعبير أدق على الطرق المستخدمة في التحليل النفسي وبخاصة تقديمه للحقائق أو للوقائع النفسية كما لو أنها قائمة بذاتها، ثابتة ونهائية. فالإنسان لا يمكن له، كما يرى سارتر، أن يعيش أحلامه ومخاوفه وقلقه وآلامه، وكل ما نسميه بالحياة النفسية للفرد، بطريقة سلبية، بل إن هذه الحياة لا فاعلية لها إلا بمقدار ما يمدها بالحياة، أي بمقدار ما يعي أهدافه التي تستطيع هي وحدها إلقاء الضوء على الحقيقة النفسية التي يعيش. من هنا، يظهر الموقف الرافض للاوعي، كما يعبر عنه سارتر، على أنه رفض لنظرية في الإنسان، تجعل من هذا الأخير مجرد قلق لحياة نفسية تفرض عليه حتمية صارمة، بحيث يكون عليه قبولا دون مقاومة. وباختصار، فإن القول باللاوعي يجعل من الإنسان كائنا يعوزه الوعي الكافي كسبيل لفهم حياة يعود إليه وحده صنعها.

لا يتعلق الأمر إذن بعدم فهم عميق "للصراع الحميمي" الذي يكشف عنه التحليل النفسي، بل بعدم كفاية طرائق التحليل النفسي التي تبين في تناولها لهذا السلوك (الإيمان الكاذب) عن قصور يتحدد في عدم كفاية الدليل بشأن الرقابة.

وفي الواقع، يشير سارتر إلى أن فرويد يتحدث عن مقاومة يعثر عنها المريض، حين يقترب المحلل النفسي من الحقيقة، إذ يكشف عن "شعور بعدم الثقة، برفض الكلام، حتى أنه يقدم بيانا مغلوطا لأحلامه (compte-rendu fantaisiste) وأحيانا يتمنع حتى عن متابعة العلاج النفسي بكامله"[9].

ولكن إذا ما تساءلنا مع سارتر عن هوية الفاعل موضوع المقاومة هنا، أي ما هو العنصر النفسي الذي يقاوم، نجد أنه لا يمكن أن يكون هذه الأنا، التي تمثل كل هذه الوقائع النفسية الواعية، إذ لا يمكن للمريض "أن يخامره شك بأن الطبيب يقترب من الهدف، لأنه يجد نفسه أمامالتغيرات التي تنطوي عليها ردود أفعاله في الموقف نفسه للطبيب". ثم إن التكهن بأن المريض قد انتابه قلق من الاكتشافات اليومية التي يزوده بها المحلل، فيسعى إلى التهرب منها، متظاهرا في الوقت نفسه بمتابعة العلاج، لا يحل المعضلة، لأنه في هذه الحال "لن يكون بالإمكان الرجوع إلى اللاوعي لتفسير الإيمان الكاذب: إنه هنا، في صميم الوعي، بكل تناقضاته"[10].

إن العنصر الفاعل لفعل المقاومة هنا، هو الرقابة، فالرقابة هي وحدها قادرة على معرفة ما إذا كانت الاكتشافات التي يتحدث عنها الطبيب قريبة أم لا من الميول التي تسعى إلى كبتها في الحقيقة، لأنها "وحدها قادرة على فهم ما تقوم بكبته"[11].

هكذا، لا يفهم سارتر "الصراع الحميمي" للمكونات النفسية على أنه صراع أعمى، فإذا ما كان صحيحا أن على الرقابة أن تقوم بوظيفتها بكثير من التمييز، فإن عليها أن تكون "عارفـة بمـا تقـوم بكبته" وهـذا يعني أن عليها أن تختار، ولكي تختـار أن تتمثـل ما تختاره[12].

فالمقاومة التي يظهرها الشخص تحيل من غير شك إلى الرقابة التي تقوم فعلا "بعملية تمثل للمكبوت من حيث هو كذلك، أي معرفة بالهدف الذي تتجه نحوه أسئلة المحلل، وذلك بإجراء تأليف تركيبي لمقارنة حقيقية المركب المكبوت (complexe refoulé) بفرضية التحليل النفسي، وكل هذه العمليات تقتضي أن تكون الرقابة مدركة لذاتها"[13].

وهي تدرك ذاتها، من حيث هي إدراك للميل الذي يجب كبته. فالوعي هو وعي بشيء، والرقابة وعي بالمكبوت الذي يجب كبته، "ولكن تحديدا لكي لا يكن محل وعي" أي بهدف إخراجه من دائرة الوعي. ألا يعني هذا أن الرقابة تقدم نفسها كسلوك يعتمد الإيمان الكاذب؟ هذا ما يستنتجه سارتر، فالإيمان الكاذب يظهر الرقابة كذات تسعى إلى تحديد الفكرة بهدف إخفائها، وهذا يستدعي في الصميم وحدة الظاهرة النفسية التي تمارس فعلا مزدوجا؛ وساعية من ناحية إلى التعرف إلى الشيء، ومن ناحية ثانية للعمل على سلبه والتعتيم عليه وإخفائه من الوجود.

هكذا، يتبين أن ما يفعله التحليل النفسي بتركيزه هذا النشاط المزدوج على مستوى الرقابة، لا يخرجنا من المأزق، فالوعي يظهر من وراء الرقابة نفسها، كمنسق وموجه ومؤسس للآلية نفسها للرقابة. إذ، كيف يمكن للميل المكبوت أن يتقنع (se déguiser) إن لم ينطو على معرفة بأنه مكبوت، بأنه غير مرغوب فيه، بسبب أنه كذلك، وأخيرا، على معرفة بمشروع الإخفاء (التنكر) هذا؟ فعملية التخفي هذه تحتوي في ذاتها على غائية، لا يمكن رسم حدودها خارج مشروع واع يسعى إلى تحقيقها، بل، وهل "يمكن تعبير الشعور بالقلق أو باللذة الذي يرافق الإرضاء الرمزي (assouvissement symbolique) والواعي للميل، إن لم يطو الوعي، من وراء الرقابة على معرفة غامضة بالهدف المنشود، من حيث هو محل رغبة وكبت في الوقت نفسه؟"[14].

ذلك أن ما لا حد له من أنماط السلوكيات التي يعبر عنها الإيمان الكاذب، تفترض الوعي في جوهريتها، "لأنه لا يمكن لها الظهور، إلا من خلال شفافية الوعي"[15].

من هنا تصيب كريستيفا عندما تقول أن نقطة الخلاف بين التحليل النفسي وسارتر تعود إلى أن هذا الأخير "يطرح وعيا يتميز بالشفافية والوضوح حيال ذاته، وعيا لا يعرف النسيان ولا ينطوي على أسرار"[16]. لتستنتج أنه وفقا لهذا الطرح، لا سبيل لوجود مكبوت لا أكون على دراية به… ولكن لتعود وتذكر بأن الوعي ليس سيد الحياة النفسية وحده، بأن "الرقابة اللاواعية حسب التعبير الفرويدي، تميز في المقام الأول الفكر الواعي عن اللاوعي"[17].

هذا، دون أن نتساءل كيف يجوز لرقابة تصفها بأنها لا واعية أن تقوم بهذا التمييز؟ ثم ما الهدف منه؟

لن يمكنني التوقف أكثر عند هذه المسألة، يكفي أن أشير أن سارتر لن يبحث مسألة الإيمان الكاذب في حدود التحليل النفسي فقط، بل وفي الأساسي، على المستوى الذي تتساءل فيه الذات لم هذا السلوك، وما الغاية من السعي إليه، وما الذي يؤسسه تكوينيا.

الخاصية المزدوجة للكائن الإنساني:

"علينا أن نملك الشجاعة بأن نتصرف ككل الناس، دون أن نكون أيا من الناس"[18]. بهذه الجملة التي يرددها أحد أبطال رواية سارتر، بعد خطاب طويل يحمل على الضرورة الخلقية في أن نكون فعلا ما نحن عليه، ندخل عالم الحقيقة الإنسانية من بابه الواسع: من نحن إذا ما كان علينا أن نكون ما نحن عليه؟

يدعونا سارتر لمقاربة دقيقة لسلوك امرأة تذهب للقاء رجل لأول مرة، وهي تعلم تماما نوايا هذا الأخير حيالها، وتدرك جيدا أن عليها أن تحسم الموقف دون إبطاء. ولكنها في الواقع ليست على عجلة من أمرها "فهي تعير أهمية فقط إلى ما يقدمه موقف الشريك من احترام وحشمة"، دون أن تدرج هذا السلوك في سياقه الزمني، من حيث يمهد لإمكانيات علاقة في المستقبل.

فهي تحصر سلوك الشريك في دائرة "الحاضر"، فإذا ما عبر لها هذا الأخير عن إعجابه، فإنها تنزع هذا الإعجاب عن أي طابع جنسي قد يكون وراءه، لتستجيب فقط إلى تفسير فوري لهذا السلوك، لا يخرج به عن حدوده الموضوعية فيبدو الرجل الذي يتحدث إليها صادقا "كما تبدو الطاولة في شكلها المربع أو الدائري، أو دهان الحائط في زرقته أو رماديته"[19].

فأن تكون موضع رغبة من الآخر، يملؤها زهوا، دون شك. ولكن الرغبة الصريحة و"العارية" تولد لديها شعورا بالإهانة.. فماذا سيكون عليه موقفها؟ ببساطة، ترفض المرأة "قبول هذه الرغبة على ما هي عليه، حتى أنها لا تمسها، ولا تعترف بها إلا بمقدار ما تتعالى بها إلى الإعجاب والتقدير والاحترام بحيث تذوب في أكثر الأشكال علوا فتستحيل إلى ما يشبه الدفء أو الكثافة"[20].

في هذه الحال، تجد المرأة نفسها في موقف تدفع فيه شريكها إلى أعلى "درجات التأمل العاطفي"، فتروح تحدثه عن الحياة، عن حياتها، فتظهر بصورتها الأساسية، مجرد "وعي" بينما تترك يدها بلا حراك، لا مقاومة ولا راضية، مجرد شيء…

وبالطبع، لا نجد صعوبة في إظهار موقف المرأة كتجسيد لإيمانها الكاذب. فهي من ناحية "جردت سلوكيات شريكها عن أية إمكانية تخرج بها عن حدود ما هي عليه، بإبقائها على نمطية "الما هو في ذاته"، ولكنها من ناحية ثانية، كانت تغتبط بهذه الرغبة، بمقدار ما كانت تنظر إليها على غير ما هي عليه، أي بمقدار ما "كانت تتعرف إليها في حقيقتها المتعالية"[21].

وفي الحقيقة، لن يتطلب الأمر كثير جهد لكي يظهر جيدا أن آلية هذا السلوك (سلوك المرأة) تقدم على تكوين تصورات متناقضة، تعتمد في جوهرها على "الربط بين الفكرة وسلب هذه الفكرة". فالتصور الأساسي المعمول به هنا، يكتب سارتر، يستخدم لصالحه "الخاصية المزدوجة للكائن الإنساني، كحقيقة واقعة ومتعالية"[22].

بل إن هذا السلوك، بإبرازه لهذه الازدواجية لا يسعى  مطلقا إلى تجاوزها أو إلقائها، بل يهدف بالأساس إلى الإفادة منها وتكريسها، لكي يكون بالإمكان الانتقال دائما في الموقف الطبيعي، أي من حقيقة الأمر الواقع إلى الوجه الآخر للحقيقة الإنسانية، إلى طبيعتها المتعالية، أي من جملة الشروط التي يجسدها واقعي الراهن كإمكان يمثله وجودي الحاضر، إلى الإمكان الذي تعبر عنه حقيقتي المستقبلية، والذي لم يدخل بعد حيز الوجود، أي لا يزال في حيز التعالي.

هذا الانتقال يقوم في صميم الصيغة التي تقدم الحقيقة الإنسانية بأنها "الكائن الذي يتحدد بأنه ليس ما يكونه وبأن ما يكونه ليس هو"[23]. فما أكونه لن يكون له أي معنى خارج قصدية تعكس ما أرمي إليه من أهداف، تكشف الحاضر، بمقدار ما ترسم معالم المستقبل، وهذا ما يعنيه سارتر حين يقول عن الوجود الإنساني بأنه يسبق الماهية، فهذه الأخيرة هي فعل خلق، يمد جذوره في أفعالنا التي تعكس أهدافنا، بل "لا وجود لماهية خارج عملية الخلق التي نوجد من خلالها" كما تقول كولومبيل[24].

من هنا، يلوح أيضا انطواء هذه الحقيقة الإنسانية على زمانية يصح تسميتها بزمانية التعالي، الإنساني، هذه الزمانية التي تستعيد المفهوم نفسه للإنسان الذي يتضمن زمانه الخاص، كما وصفه هايدغر، والذي يتحدد أصلا كفعل انطلاق وتطلع نحو الذات المستقبلية، والتي تقودنا إليها مشروعاتنا.

فالحقيقة الإنسانية من حيث هي حقيقة متعالية، يكتب سارتر، لا تشير "إلى شيء ما يكون أولا، ليجد نفسه فيما بعد على علاقة مع هذه الغاية أو تلك، ولكنها على العكس تتحد ككائن هو نفسه فعل تطلع (pro-jet) أصلي، أي أنه يحدد نفسه بواسطة غايته"[25].

إن ما يسميه سارتر التعالي لا علاقة له بالدعوة إلى نشدان عالم من المثل خارج مشروعات الإنسان وغاياته، كما قد يخيل للمرء، بل يشير إلى "فعل القطيعة مع وجودنا من حيث هو ضرورة واقعة (nécessité de fait) أي [ قطيعة] مع وجودنا الفعلي (facticité) والذي نقيم فيه رغم ذلك"[26].

إن القيم التي يدافع عنها سارتر، تحمل على حياته الفردية، على الكاتب الذي لا يفهم وجوده، إلا من خلال ما يكتب، إنها ما يعبر عنه الفيلسوف حين يكتب في الكلمات: "كنت أخلط قاصدا بين فن الكتابة والمروءة"[27] ليعطي لفعل الكتابة قصده الإنساني الخالص، لا كقيمة جمالية وحسب، بل كعطاء للذات التي لا تتعرف إلى ذاتها إلا من خلال فعل الكتابة هذا..

لا سبيل لتمثل أية قيم، إن لم يكن بالإمكان انتزاع هذه الذات من عبثية اللحظة:

ولكن لا سبيل لتمثل أية قيم، إن لم يكن بالإمكان انتزاع هذه الذات من عبثية اللحظة ومحدودية الوجود الحاضر، الذي تتجاوزه في عملية السعي الدؤوب لتحقيق ذاتها، من حيث أن هذه الأخيرة هي تحديدا الغاية التي تجسدها الأنا القابعة في المستقبل، ولا نفي المستقبل المنظور إليه في إطار فهم كلي للزمان، بحيث يظهر هذا الأخير مستقلا عن الحقيقة الإنسانية، بل المستقبل الذي يستعيد زمان الحقيقة المتعالية بخصوصية إنسانية، أي زمان التعالي الذي لا سبيل إلى تصوره خارج حركة التعالي نفسها. "لقد كنت سهما مرميا بقرار، اخترق الزمان ومضى قدما نحو هدفه"، يكتب سارتر في الكلمات[28]، هذه الأنا، التي هي الفيلسوف نفسه، لم يكن بإمكانها أن تتجاوز الزمان وتخرقه، إلا بمقدار ما كانت تقدم نفسها كسلوك هادف، بل إن هذا الهدف هو الذي يفسر قدرتها هذه على اختراق الزمان، وحتى أنه يدعم باستمرار عملية الاختراق هذه، كتجاوز لما هو قائم، ويبرره، إذ من دون هدف لا معنى لأي تجاوز مهما كانت دوافعه… هكذا، وفي حدود سلوكية غائية، تمارس الذات اختراقا للزمان الكلي، عندما تنتزع نفسها منه كزمان سكوني، أي بفعل تعاليها الهادف.

"في العاشرة، يكتب سارتر، كنت أشعر أن مقدمة سفينتي قد خلقت الحاضر وانتزعتني منه، ومنذ ذلك الحين، بدأت الركض، وما زلت أركض، حتى السرعة لم تكن تقاس أمام عيني بالمسافة التي يمكن تجاوزها في ردهة من الزمان، بل في هذه القدرة على الانتزاع"[29]. بهده الصورة الحسية، يقاس الزمان باندفاعة النفس التي تخرج على المعايير الثابتة للتوقيت الزماني، لتعيد دوره الزمان لصالحها: فلا يعود ما هو كائن سببا في ما سيحصل، بل ما أسعى إلى تحصيله علة وسببا ومعنى لما هو كائن.

إن هذا الانتزاع، هو ما تعبر عنه أم كلثوم حين تغني: "من كثر شوقي، سبقت عمري". تجربة الحب كفعل خروج على الزمان، تقدم لنا صورة حية عن المحب الذي ينتزع نفسه من العمر، من عمره في لحظته الحاضرة، ليلتقي بعمره الذي ينتظره في يوم اللقاء، إنه الذهاب إلى الأنا التي تقيم هناك، في مستقبل النفس، والتي في تصورها للقاء الغد، تتصور العالم كله كعالم لقاء بالمحب، بل هي الحضور نفسه لهذه الأنا التي تجيء من مستقبل النفس-العالم إلى حاضره…

فهل يجوز أن يقال إن الإنسان هو ما هو، أليس الأجدر أن نتساءل هل يمكن أن نكون ما نكونه عندما "نكون كوعي بهذه الكينونة"؟ ثم ألا تبين إخفاقاتنا على الصعيد العملي في أن نكون فعلا ما نكونه، أو ما نعتقد أننا نكونه، من خلال المحاولات الساعية إلى تحقيق تطابق كلي مع الذات، بأن مبدأ الهوية كتعبير عن هذا التطابق، لا يمكن أن يدخل في تقديم الحقيقة الإنسانية؟ فإذا ما كانت الصراحة أو الصدق، "قيمة كلية"، يكتب سارتر، فإنه "من البديهي أن تكون حقيقتها العامة (maxime) بأن نكون ما نحن عليه، ليست مجرد مبدأ منسق للأحكام والتصورات بواسطتها أعبر عن ما أكون، إذ أنها لا تطرح فقط نموذجا في المعرفة، بل نموذجا في الوجود، إنها تقترح علينا مطابقة مطلقة للكائن مع نفسه كنموذج في الكينونة"[30].

قد يبدو كل هذا الشرح من قبيل التجريد، ولكن رغم ذلك، يجب أن لا يغيب عن البال أن سارتر يتناول الإنسان من حيث هو كائن -في- العالم، أي من حيث هو فاعل لسلوكيات هي وحدها ضمانة بنائه النظري. "فنحن ما لسنا إياه" تستمد مشروعيتها من معانيه أنماط وسلوكيات، يظهر فيها الإنسان على مسافة من ذاته، بل يسعى جاهدا للمطابقة مع هذه الذات، دون جدوى.

لنعد إذن إلى مدرسة الحياة، ونستفسر الحياة نفسها عن هذه الماهية الإنسانية التي يقدمها سارتر "على أنها ليست ما تكونه وما تكونه ليست هي".

إن كل تصور للماهية الإنسانية يفترض عدم المطابقة كأصل تكويني للذات الإنسانية.

يدعونا سارتر للتمعن في سلوك صبي القهوة، وتحديدا طريقة أدائه لوظيفته. "فهو يبدو بحركاته النشيطة والموجهة مبالغا في دقته، مبالغا في عجلته، إنه يتقدم نحو المستهلكين (زائري القهوة) بخطوات تنم عن كثير من الرشاقة، فينحني بكثير من الحماس، حتى صوته وعينيه، يظهران اهتماما ينم عن عناية فائقة بطلب الزبون…"[31].

لن يتطلب الأمر كثيرا من الوقت لكي نكتشف الطابع المسرحي لهذا السلوك، فصبي القهوة أشبه بلاعب، ويلعب تحديدا دور صبي القهوة. إنه "يلعب وظيفته بهدف تحقيقها".

لن يخفى على القارئ أن اللعب هنا، كوسيلة في الكشف عن الكيفية التي يحقق فيها صبي القهوة وضعه الاجتماعي، لا يخلو من طرافة، فاللعب كطريقة في التعرف على الذات، واكتشافها، وحتى التعامل معها، هي وسيلة يلجأ إليها كل الأطفال في مقاربتهم لذواتهم، وسارتر على بينة من الأمر، "فالطفل يكتشف جسده بطريق اللعب". ولكن براعة الفيلسوف تظهر في قدرته على الذهاب في تفسير هذه الظاهرة على نحو آخر، فاللعب يعكس طريقة في التصور والإدراك. فإذا كنا نتكلف (أي نلجأ للعب) في سبيل تحقيق ما نحن بصدد تصوره، فلأننا في داخلنا لسنا على تطابق تام مع هذه التصورات. "فمن الداخل، لا يستطيع صبي القهوة أن يكون مباشرة وبلا واسطة صبي القهوة، بالمعنى الذي تكون فيه هذه الدواة دواة، أو الكأس كأسا"[32].

بتعبير آخر، إن تصوري لذاتي، يفترض بالضرورة أن تكون هذه الذات موضوعا للوعي، أي أن يحصل انفصال وقطيعة مع هذه الذات، لكي يصبح بالإمكان تحقيق فعل التصور هذا، فالموجود الممتلئ بذاته، أي الشيء، أو الماهو في ذاته، لا يملك الأهلية لفعل أي تصور، يبقى إذن أن الما هو لذاته، أو الوعي، هو المنوط به وحده فعل التصور، ولكنه في تصوره لذاته، يظهر أمام هذه الذات كآخر، أي يكشف عن عدم المطابقة، كأصل تكوين لهذه الذات، فهو في ذاته في عدم تطابق مع ذاته.

إن عدم المطابقة مع الذات، لا تعبر عنه سلوكيات الإنسان حيال العالم فقط، بل وبالأخص سلوكياته حيال نفسه، فأن أكون حزينا، على سبيل المثال، هو ما "تفسره نظرتي الشاحبة إلى العالم، هذا الإنحناء في الكتفين، هذه الإطراقة في الرأس، أو هذا الإرتخاء في كل أنحاء جسدي.."[33] ولكن يكفي أن يمر أحدهم، وإذا بي أرفع رأسي وأستعيد مشيتي النشيطة وغير المتكلفة.. إذ، كيف أفسر مثل هذا السلوك، سوى أنني، وبكل بساطة، أنتظر ابتعاد الزائر لكي أستعيد لقائي مع ما تبقى لي من هذا الحزن.. "بل ألا يعني هذا أن الوعي يتكلف (s’affecte) بل، يلجأ إلى الحزن كملاذ سحري في مناهضة حالة طارئة؟"[34].

ألا يعني هذا أن الحزن الذي أظهرته منذ قليل، ليس سوى مظهرا أو صورة للحزن، بل وحتى تمثلا، كنت أتكلف بواسطته حالة الحزن الذي أظهر، تماما كما كان صبي القهوة يلعب دور صبي القهوة لكي يكونه؟ ألا يعني هذا "أن تكون حزينا، هو أن تجعل نفسك حزينا"[35].

ولكن للوعي قانونه، فأن نتصنع الحزن، لا يعني أن نعطي لأنفسنا سلوكا ما "كما يمكنني أن أعطي لصديق لي كتابا ما". فإذا ما كنت أتكلف الحزن، فإن علي أن أمده بالوجود، فلا أستطيع أن أدع حالة الحزن الذي أتكلف تتابع سيرها دون أن أقوم بإعادة خلقها وحملها "كما يتابع الجسم الساكن حركته بعد تلقيه للصدمة الأولى". وفي الواقع، فإذا كنت أتكلف الحزن، يستخلص سارتر، فلأني لست حزينا، بل إن "كينونة الحزن تفلت مني في الفعل نفسه الذي أسعى بواسطته إلى تكلفه"[36].

السلوك الصادق وتهافت مبدأ الهوية:

ولكن إذا كانت بنية الوعي تقوم على ثنائية لا يجوز تجاوزها، تؤسس لعدم تطابق أصلي تعبر عنه صيغة "أننا لسنا ما نحن إياه"، فإن السؤال عن مدى إمكانية أية معرفة، وحتى أية مصالحة مع الذات، تعبر عنه محاولاتنا في أن نكون صادقين مع أنفسنا، يصبح ملحا. خاصة وأن الوعي ليس غافلا عن هذه الحقيقة، فكينونة الوعي هي وعي بالكينونة، فاستحالة عدم التطابق مع الذات، "يشكل النسيج نفسه للوعي، إنه، يكتب سارتر، "هذا الشعور بالانزعاج الذي يلازمنا، بل هو عدم قدرتنا هذه على التعرف على أنفسنا، على أن نكون ما نحن عليه"[37].

في الواقع، إن مبدأ عدم التطابق مع الذات، لن يكون له ذيول معرفية فحسب، بل وخلقية أيضا، فإذا ما كنا عاجزين عن التعرف على أنفسنا، فلن يكون بالإمكان تلمس أية ثوابت في تقييم أية سلوكيات، سواء كانت هذه الأخيرة تتعلق بنا أم بالغير، حتى أنه لن يكون بالإمكان، بهذا المعنى، أيضا، "توجيه اللوم إلى الغير، إذا ما أظهر عن عدم مصداقيته في سلوكه حيالنا، ولا أن نغتبط بما ينطوي عليه سلوكنا من صدق وحسن نية لأننا نشعر مسبقا، بل ويتحدث سارتر عن "فهم ما قبل تمييزي" يتملكنا، في أية محاولة من هذا القبيل، بعدم جدوى هذه المحاولة… فهل يمكن القبول بمثل هذه النتائج؟ هل القول باستحالة مبدأ الهوية، يهدد فعلا بنسف أية محاولة لتحقيق أية نقاوة بالمعنى الخلقي للكلمة؟

لا يبدو أن المسألة بمثل هذه السطحية، وهي تستحق مقاربة على نحو آخر. إذ من الناحية العملية، تكشف محاولاتنا لتوخي الصراحة في مواجهة الذات، أو نقدها، بهدف تحقيق تطابق حقيقي مع ما نتمثل أنه "هذه الذات بعينها، أي ما نكونه فعلا، عن حرية أصلية كمبدأ وحيد لكل تمثل بل ولكل سلوك. فأن أكتشف في نفسي "ميولا" أشعر حيالها بالخجل، ألا يعني هذا إغفال حقيقة أني أتناسى قاصدا أن هذه الميول لا تجد طريقها إلى الوجود إلا بمقدار ما أمدها بالعون، بأنها ليست قوى طبيعية (des forces de la nature)، بل أنا الذي أمدها بالفاعلية بمقدار ما أصدر، وبطريقة دائمة، أحكاما بشأن ما تمثله من قيم؟"[38].

ذلك أن الحقيقة الإنسانية لا تخضع للمبدأ المعرفي الذي تخضع له الأشياء. فالإنسان ليس شجرة، ولا طاولة، ولا بندقية. وأن أقدم الإنسان كحرية أو كوعي، يعني أني أقر بأن لا أحدد هويته مرة واحدة، بل، وعلى العكس، فإنني في الفعل الذي أعمد فيه إلى تحديده كهوية ثابتة، أضع هذه الهوية على بساط البحث، فأن أبدي رأيا حول هذه الميزة أو الطبيعة التي تخصني، ألا يعني هذا "أنني وفي اللحظة عينها، أعمل على إخفاء ما أعلمه رغم ذلك، وهو أني أحكم على ماض يفلت منه حاضري من حيث المبدأ؟"[39].

فالإنسان وبمقدار ما يجسد هذه الحرية التي هي كينونته، لا يستطيع أن يكون ما هو، بالمعنى الذي نفهم فيه هذه الماهية كما نفهم ماهيات الأشياء، والتي تجد تحديداتها في قوانين نهائية، لا تكشف عن غير سكونها الخالص، نحن هنا أمام كائن يتحدد كحرية، أي كرفض لكل مبدأ سلوكي، ثابت، مستقر، لا يتساءل عن ذاته، لأنه لا يصنع هذه الذات، ومنذ متى كانت الأشياء تصنع ذاتها؟

إن القول بمبدأ الهوية عندما يتعلق الأمر بالحقيقة الإنسانية يقتضي تصورا للإنسان يخرجه من دائرة الوعي إلى دائرة الشيء. من هذه المنطلقات، يظهر السلوك الصادق وكأنه يتغذى من المصدر نفسه للإيمان الكاذب، فالرجل المثلي الجنسية، الذي يقدم نفسه على أنه ليس كذلك، في الوقت الذي يقترن فيه بكل السلوكيات التي تصدر عن طبيعة ميله الجنسي، مثيرا بذلك حنق صديقه، الذي يدعوه تحت شعار الصدق والصراحة، للاعتراف بحقيقة طبيعته، دون مواربة، على الأقل، في سبيل أن يحظى بالتفتح والتسامح من قبل الجماعة.. يشكل حالة نموذجية في إخفاق كل من السلوكين لتجاوز الثنائية التي تميز الحقيقة الإنسانية، بل كلاهما ينهل منها ويعمل على تكريسها.

لنقل إن وراء ما يعبر عنه الإيمان الكاذب عند الأول، شعورا مبهما بأن "الإنسان المثلي الجنسية، لا يتحدد بالطريقة نفسها التي تتحدد بها الطاولة، أو الرجل ذو الشعر الأشهب". فهو يظهر عن حسن نيته من ناحية عندما يعترف بحقيقة ميله، بطرحه هذه الحقيقة كإثم، مقابل الحصول على نقاوة داخلية، ستسمح له "بولادة جديدة"، ولكنه، في الوقت نفسه، وبمقدار ما يريد التخلص من "الحكم القاسي للجماعة" فهو يعمل على إنكارها، فإنه يعبر عن سوء نيته.

إنه ببساطة، يخلص سارتر، يتلاعب على المعنى نفسه لكلمة "كينونة". فهو على صواب لو أنه في استخدامه لجملة "لست مثلي الجنسية" يعني "أني ما لست أنا"، أي بمقدار ما تعبر سلسلة من التصرفات عن سلوك مثلي الجنسية، فأنا هذا الرجل، بمقدار ما كنت أمارس هذه السلوكيات، ولكن في الحدود التي تخرج فيه الحقيقة الإنسانية عن أي تحديد بالسلوكيات، فأنا لست هذا الرجل، ولكن هذا الأخير، "كان يفهم أني لست بالمعنى الذي يشير إلى عدم "الشيء في ذاته" فكان يعلن أنه ما ليس هو، بالمعنى الذي نقول أن "الطاولة ليست طاولة" فكان يعبر عن إيمان كاذب[40].

ولن موقف الصديق الداعي إلى الصراحة لا يقول خطورة، فهذا الأخير "لا يجهل تعالي الحقيقة الإنسانية ويحسن استخدامها عند الحاجة لصالحه" فهو في مطالبته لصديقه الاعتراف بحقيقة أمره يريد له "أن يعلن عن ما هو عليه، لكي لا يكون ما هو علي، أي أن يتكون كشيء لكي لا يكون تحديدا  هذا الشيء". إنه يطالب المذنب "أن يتكون كشيء، لكي يكف بالتحديد عن التعامل معه كشيء، وهذا التناقض يكون صميم المطالبة بصدق النية"[41].

إن القول بمبدأ الهوية، عندما يتعلق الأمر بتحديد الحقيقة الإنسانية، يقتضي تصورا للإنسان يخرجه من دائرة الوعي إلى دائرة الشيء، أي يسلب عن الإنسان حريته بإحالته إلى منظومة من السلوكيات، تصدر عن ماهية مطلقة لا قدرة لها على استعادة ذاتها، لأنها لا تتساءل عن هذه الذات، فلا تقلق بشأنها وحتى لا تعبأ بمصيرها.

إننا في محاولتا التثبت بأننا هذه لخاصية أو تلك، نقبل بمقايضة هذه الحرية بخاصية تفلت منا في الوقت الذي نحاول فيه أن نكونها. فالرجل الذي يقدم نفسه كشرير، لا يفعل أكثر من مقايضة "حرية قلقه في ارتكاب السوء" بخاصية لا حياة فيها، وهو إذ يفعل ذلك، لا يسعه غير الإفلات من هذه الخاصية، لأنه لا يمكن له أن يتجاهل أنه يعود إليه وحده "النظر فيها"، أو تركها تتحطم في ما لا حد له من الأفعال الجزئية"[42] أي ممارستها كحقيقة لا أستطيع سوى قبولها، أو مواجهتها بحرية، تظهر لي "المستقبل بكل نقاوته، إذ أن كل شيء متاح أمامي"[43].

رغم ذلك، فإن هذا الطرح لا يتعارض مع إمكانية الحديث عن سلوك صادق، فإمكانية أن نكون صادقين مع أنفسنا، ليست في حيز الاستحالة، إلا أن مثل هذا السلوك، يحمل على الماضي، بمعنى أني أكون صادقا فعلا إذا ما اعترفت أن لذة ما أو نية ما قد تملكاني. يكتب سارتر، مفسرا هذه الإمكانية، بأن "الكينونة الإنسانية في نظرتها إلى الماضي، تتكون كموجود في ذاته"[44]. وهو ما لا يبحث فيه في هذا الموضع، فما يهمنا هنا هو "سلامة النية التي تستهدف نفسها في الحاضر المحايث (dans l'immanence présente) أي في آنية اللحظة. فما الغاية منها؟".

يتساءل الفيلسوف، أليس أن أحدد ما أكونه، لكي يكون بالإمكان التطابق مع هذه الكينونة، أي أن أعمل على أن أكون على نمط الموجود في ذاته ما أنا عليه [الآن ] أي ما لست إياه"[45]، ألا يعني هذا أن سلوكي الصريح يمارس النهج نفسه للسلوك الكاذب، في انتقاله من الكينونة التي نحن عليها إلى تلك التي لسنا عليها، وإن كلا السلوكين يتغذيان من النبع نفسه: ازدواجية الحقيقة الإنسانية، بل إن الأول (السلوك الكاذب) لم يكن ليبلغ هدفه، إلا لأن الثاني غير ممكن بالأساس. "فلكي يكون هناك بالفعل نية صادقة، علي أن أكون، في الأصل، وفي الوقت نفسه ما لا أكونه، وأن لا أكون ما أكونه"، أي أن حقيقتي كإنسان هي نفسها محل بحث "إذ لا فواصل حقيقية بين ما أكونه وما لا أكونه حين يتعلق الأمر بكينونتي"[46].

هكذا وبعيدا عن أن يكون مبدأ عدم الهوية عاملا في تكريس عدم ثبات راديكالي، يروج لمجانية لا طائل منها، تحول دون معرفة الإنسان لنفسه، يكشف عدم التطابق مع الذات، عن الحرية كأصل ومبدأ كل معرفة وعمل إنساني، ثم إن المسألة ليست مطروحة هنا في إطارها الخلقي، وإن لم تستبعد موقفا خلقيا كمحصلة لها.

وهذا ما ألمح إليه غابرييل مارسيل عندما انتهى إلى أن إخفاق تجربة حسن النية عند سارتر يحول دون إمكانية أي تقويم أو تحسين خلقي: "فإذا ما اعترفت بأني أشكو من هذا العيب، أو هذه الآفة، فإني أضع نفسي في وضعية جديدة، قد تسمح لي بتجاوزهما"[47].

ولكن غابرييل مارسيل، عندما يستعيد مفهوم التجاوز، كشرط في التصحيح والتقويم، يعيد الحق إلى نصابه، ودون دراية منه، يظهر صوابية الاستدلال الذي يأخذ به سارتر، إذ أن التجاوز المشار إليه هو الحرية نفسها، والتي تعبر عن ذاتها بفعل التجاوز هذا. فلكي يكون باستطاعتي أن أعيد النظر بالسلوك الذي أسعى إلى تصحيحه، علي أن أكون حرا في الأصل، فالحرية هي شرط قدرتي على استعادة نفسي، بتجاوزي لها.

معرفة النفس مقرونة إذن بالحرية كشرطها الحيوي، وبدونها أي بدون هذه الحرية، يبقى الحديث عن أية نقاوة خلقية، في حدود الإبهام.

إن مبدأ عدم الهوية هذا، يحيل إلى الوعي، إلى الحرية، إلى الكوجيتو، حيث تظهر الحقيقة الإنسانية في "كينونتها المباشرة في البنية-الداخلية للكوجيتو الما قبل تأملي، على أنها ليست ما هي عليه، وما ليست عليه هي إياه".

إن الحقيقة الإنسانية تنهل من ينبوع الوعي، الذي يستحيل صوغه في قوالب ثابتة. فإذا كنا لا نتحدد "دون المخاطرة في افتراض الشيء ونقيضه، يكتب سارتر، فقد كنت هذا الخارج عن التحديد بلحمه ودمه"[48].

هذا الخروج عن التحديد، يجد تعبيره الفلسفي في الكوجيتو الديكارتي، الذي يصححه هوسرل عندما يعلن "أن الوعي وعي بشيء ما" ثم يرسخ معالمه هايدغر حين يخص الطبيعة الإنسانية بفهم لذاتها يعرفه بأنه تطلع لهذه الذات خارج حدودها، نحو إمكاناتها الخاصة. وهو ما سيقول به سارتر، ذاهبا بالحرية إلى غاياتها القصوى، وهو ما سيكون لي وقفة معه في فصل قادم تحت عنوان "الكوجيتو وغائية الحرية عند جان بول سارتر"n

المصادر:

Jean Paul Sartre, l’être et le néant, Essai d’ontologie phénoménologique, Gallimard, tel. Paris, 1994.

Julia Kriesteva, La révolte intime, Pouvoirs et limites de la psychanalyse, II, Fayard, Paris, 1997, p252.

Jean Paul Sartre, Les chemins de la liberté, l’âge de raison, Gallimard, Folio, Paris, 1993.

Jeanette Colombel, Sartre ou le parti de vivre, Grasst, Paris, 1981.

Jean Paul Sartre, Les mots, Gallimard, Folio, Paris, 1964.

Gabriel Marcel, L’existentialisme et la liberté humaine chez Jean Paul Sartre, Paris, Vrin, 1981.

 



[1]  - Jean Paul Sartre, L’Etre et le néant, Essai d’ontologie phénoménologique, Gallimard, tel., Paris, 1994, p82-83.

[2]  - Idem, p83.

[3]  - Idem,  p84.

[4]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p85.

[5]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p85.

[6]  - Idem, p85.

[7]  - Idem, p86.

[8]  - Julia Kristeva, La révolte intime, Pouvoirs et limites de la psychanalyse II, Fayard, Paris, 1997, p252.

[9]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p86.

[10]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p86.

[11]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p87.

[12]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p87.

[13]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p87.

[14]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p88.

[15]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p89.

[16]  - Julia Kristeva, La révolte Intime, II, p250.

[17]  - Julia Kristeva, La révolte intime, II, p251.

[18]  - Jean Paul Sartre, Les chemins de la liberté, l’âge de raison, Gallimard, col. Folio, Paris, 1993, p133.

[19]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p90.

[20]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p90.

[21]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p91.

[22]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p91.

[23]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p93.

[24]  - Jeanette Colombel, Sartre ou le parti de vivre, Grasset, Paris, 1981, p51.

[25]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p497.

[26]  - Colombel, Sartre ou le parti de vivire, p79.

[27]  - Jean Paul Sartre, Les Mots, Gallimard, Coll. Folio, Paris, 1964, p144.

[28]  - Idem, p194.

[29]  - Jean Paul Sartre, Les mots, p195-199.

[30]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p93.

[31]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p94.

[32]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p94.

[33]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p95.

[34]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p96.

[35]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p96.

أيضا، راجع بهذا الصدد: Jean Paul Sartre, l'âge de raison, p215.

حيث يقدم الفيلسوف صورة حسية عن الألم الذي "نركض وراءه" فإذا بنا وفي اللحظة التي نعتقد واهمين أننا أصبناه، يهرب منا، فلا نجد سوى بعثرة من الكلمات، وآلاف من الاستدلالات المسعورة تتدفق بدقة..".

[36]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p96.

[37]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, 97.

[38]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p98.

[39]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p98.

[40]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p99.

[41]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p99.

[42]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p100.

[43]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p100.

[44]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p101.

[45]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p101.

[46]  - Jean Paul Sartre, L’être et le néant, p101.

[47]  - Gabriel Marcel, L’existentialisme et la liberté humaine chez Jean Paul Sartre, Paris, Vrin, 1981, p69.

[48]  - Satre, Les Mots, p36.