ص1       الفهرس  71-80

نهاية الزمان، نهاية التاريخ وموت الإنسان [i]


ألكسندر كوجيف

ترجمة: عبد العزيز بومسهولي

 

نستأنف هنا قراءة الفصل الثامن من فينومنولوجيا الروح، حيث توقفت عن نهاية المحاضرة الخامسة.

والمقصود هو القسم الثاني من الجزء الثاني، المخصص لتحليل وجود الحكيم في العالم.

إن تحليل الوجود-الإمبريقي (الدازين) للحكيم يتحقق على ثلاث مراحل: الأولى تحدث فيها هيجل عن العلاقة بين الحكيم و WIKLICHKEIT = الواقعة الموضوعية. وفي المرحلة الثانية، يتحدث عن العلائق الرابطة بين الحكيم والزمان. وأخيرا يحدد في المرحلة الثالثة موضع الحكيم في الزمان الواقعي موضوعيا، أي في التاريخ. فهيجل إذن، يقوم بالتجريد. في واقع الحال، لا يمكننا –كما نعلم ذلك- فصل الـWIKLICHKEIT والـZeit (الزمان): الواقعة الموضوعية هي زمانية، والزمان ليس ممكنا إلا بقدر ما يكون واقعا-موضوعيا. ولكن هيجل يفصل بينهما لضرورات التحليل. فقد تحدث في (المرحلة الأولى) عن WIKLICHEIT، دون الحديث عن الزمان، وهو يتحدث الآن (في المرحلة الثانية) عن الزمان مميزا عن الواقعة-الموضوعية: وبعبارة أخرى، فهو يتحدث عن الزمان المجرد أو عن فكرة الزمان. هيجل يطرح تعريف الزمان في العبارة الأولى من (المرحلة الثانية)، حيث يقول ما يلي (ص558، 1 3-5): "إن الزمان هو المفهوم ذاته الموجود هناك [-في-الوجود الإمبريقي] والذي يعرض (Vorstellt) للوعي [-الخارجي] كـ[ أي] حدس (Anschaung) فارغ".

لقد علقت كثيرا على الكلمات الأولى لهذه العبارة. وليس هناك  من مجال للعودة إلى ذلك.

فالجزء الأول من العبارة، ينتسب، كما قلت سابقا، إلى الزمان عموما، أي إلى الزمان الواقعي أيضا، حيث التاريخ، الذي سيتحدث عنه هيجل في (المرحلة الثالثة). لكن الجزء الثاني من العبارة يدل هنا، أي في هذه المرحلة الثانية، على أن هيجل يتحدث عن الزمان المجرد. هنا الزمان هو (Leere Anschaung) "حدس فارغ". إنه الزمان الذي تحدث عنه كانط، وتكلم عنه الفلاسفة عموما: إنه الزمان مأخوذ منعزلا، بغض الطرف عن كل ما هو موجود في الزمان. إنه "وعاء فارغ" يسع في حقيقة الأمر الواقعة الزمانية، لكنه عد بوصفه إناء فارغا. وهذا الزمان، يقول هيجل:

"Stellt sichdem Bewusstseinvor"، يعرض لوعي-الخارج، إنه يعرض كشيء يوجد خارج الوعي. إنه الزمان، الذي ليس هو (أو بالأخرى، ليس فقط) زماني أنا. إنه الزمان الكوسمي، الذي يشاركه الإنسان، لكنه لا يخلقه. وهو أيضا فكرة الزمان، الذي يوجد في أناي، في تعارض مع الزمان ذاته، الذي يوجد خارج أناي.

والحال، أن هيجل يطابق الزمان والمفهوم. بالنسبة إليه فالحديث عن الزمان المجرد، هو إذن حديث عن المفهوم المجرد أيضا. وهذا هو ما يقوله هنا: "الزمان [والمقصود: الزمان المجرد] هو المفهوم ذاته، الذي يعد ككيان فارغ يعرض لوعي-الخارج البراني". وهذا هو التصور العادي للمفهوم: إنه المفهوم "الذاتي" الذي فصل ربما-عن محتواه الواقعي؛ إنه الوعاء الفارغ الذي يحوي الواقعة؛ وهو أيضا المفهوم الذي يوجد خارج أناي، مستقلا عني، الخ. إن الزمان يتأول، كما يتأول المفهوم: فإذا كان المفهوم نقيضا للواقعة، بمعنى إذا كانت المعرفة علاقة، إذن فإن الزمان ذاته نقيض للواقعة؛ والعكس صحيح. وبمجرد ما نميز بين المفهوم والواقعة، فإنه من اللازم التمييز بين المفهوم والإنسان؛ إذا كان الكلب هو شيء آخر غير المفهوم "كلب"، فهذا المفهوم هو شيء آخر غير مفهومي الخاص عن الكلب؛ إن المفهوم "فكرة" أكثر أو أقل أفلاطونية، إنه كيان لا-واقعي (فراغ مفعم بكيان آخر غيره) يعرض لوعي-الخارج البراني. وبمجرد ما يجعل الزمان والمفهوم لا يشكلان سوى واحد، بمجرد ما يقال كل هذا عن المفهوم، فإنه من اللازم قول ذلك عن الزمان أيضا. وهذا هو ما يقال بصفة عامة.

فقط، هيجل لا يقول كما أقول في العبارة المطروحة للنقاش: "Die abstrakte Zeit". إنه يقول: "Zeit" بكل إيجاز. إذن يبدو لديه بأن الزمان عموما (أي الزمان-الواقعي ذاته، أو التاريخ) هو:

« eine Leere Anschaung, die Sich dem Bewustsein vor-stellts »

وهذا هو ما يفكر فيه حقا، كما تبرهن ذلك التتمة. من الوهلة الأولى، فالعبارة المستشهد بها، تناقض إذن كل ما قلته سابقا حول الزمان في الفينومنولوجيا. لكن هذا هين في واقع الأمر. ومن أجل إعادة الاعتبار، يكفي تطوير العبارة الموجزة المطروحة للنقاش قليلا. لكن عند تطويرها (وهيجل يطورها بنفسه فيما تلاها) يلاحظ ظهور صيغة (ملمح) أساسية للتصور الهيجلي للزمان، الذي لم أعمل سوى على استدعائه آنفا، ويتعلق الأمر الآن بتحليله عن قرب.

بحسب هيجل، فإن الفلسفة ما قبل-هيجلية التي تعارض المفهوم (وبالتالي الزمان) بالواقعة، ليست خطأ عرضيا. وفي اللحظة التي ظهرت فيها على الأرض، فإنها لم تكن أبدا على خطإ بالكل. فهي صحيحة، بالنسبة إلى زمانها. لأن المفهوم والواقعة لم يتطابقا منذ البداية: إنهما لم يتطابقا إلا في النهاية. فبواسطة الشغل يقضي الإنسان على التعارض الأولي بينه وبين الكوني، أي العالم الاجتماعي والسياسي. وما دام لم يكتمل جهد العمل والصراع، فإن التعارض يظل قائما. وما دام الأمر هكذا، فإن الإنسان على حق إذن-حينما يقول بأن المفهوم والشيء لا يكونان واحدا. وما دام الأمر كذلك، فالزمان لا يتطابق بتاتا والواقعة، فهو يوجد خارج الإنسان.

إن الفلسفة ما قبل-هيجلية ليست مخطئة. لكنها تصير كذلك. فهي تصير كذلك فقط في، وعبر ومن أجل المعرفة المطلقة، التي يغدو بالنسبة إليها المفهوم (والزمان) متطابقا مع الواقع، أو بالأحرى، فهي أي المعرفة المطلقة) هذا التوافق. لكن المعرفة المطلقة، الكونية والمتلاحمة، لا يمكن أن تظهر إلا داخل واقع موجود كذلك: إنه يستلزم التلاحم (التجانس) وكونية الدولة، أي العالم البشري، و"تقويض" التعارض بين هذا العالم والعالم الطبيعي. والحال أن هذا يتحقق عندما تتشبع الرغبة الإنسانية جيدا وبشكل نهائي. لن يكون هناك –إذن- عمل سالب: فالإنسان قد أضحى متوافقا مع العالم المعطى (الذي يعد –نتيجة لمجهوده الذي غدا مكتملا- كليا)، ومع ما يكونه بذاته في وعبر هذا العالم. لكن الرغبة، والفعل الذي ينشأ، هما مظهران للزمان الإنساني أو التاريخي، أي للزمان بالمعنى الأدق للكلمة. إن الإنسان متوافقا مع ما هو موجود، لا يستطيع أبدا أن يتجاوز الواقع المعطى، إنه يتوقف –إذن- عن إبداع التاريخ، إنه يعجز، بعبارة أخرى، عن أن يكون هو الزمان. وإذا ما أنجزت الدولة الكونية المتجانسة، والعلم الذي يكشفها، إتمام التاريخ، فإنهما يكملان أيضا الزمان.

إذن ففي اللحظة التي يتوافق فيها المفهوم، وبالتالي الزمان، مع الواقع الموضوعي، ويتوقفان عن أن يكونا خارج الإنسان، فإن الزمان يتوقف عن أن يكون زمانا تاريخيا أو إنسانيا، أي زمانا بالمعنى الحقيقي للكلمة. إن المفهوم والزمان يتوافقان في، عبر، ومن أجل المعرفة المطلقة أو الحكيم. والأكيد، أن الحكيم يظهر في الزمان. لكن مجيئه في "نهاية الأزمنة" يطبع خاتمة الزمان. لأن نتيجة فعله الزماني، التي هي العلم، ليست قطعا الزمان، إن العلم هو الأبدية التي تكشف عن ذاتها لذاتها.

بقدر ما يستمر الزمان، بقدر ما هناك حقا زمان، إذن فالزمان والمفهوم هما بالضرورة مجردان. أما الفلسفة ما قبل-هيجلية التي تثبتان ذلك، هي بالتالي صحيحة، ليس فقط بالنسبة إلى زمانها، وإنما لكل زمان: فهي ظلت صحيحة إلى حين بزوغ المعرفة المطلقة، أي إلى نهاية التاريخ، أي حتى نهاية الزمان بوصفه كذلك.

وبعبارة أخرى، ففي اللحظة التي توقف فيها الزمان عن أن يكون مجردا، فإنه توقف عن أن يكون زمانا. إن الزمان الإنساني أو التاريخي، أي الزمان بالمعنى الأدق للكلمة، هو بالضرورة وبالأساس مجرد. إنه مجرد من جهة كونه نقيضا للواقعة-الموضوعية. في الواقع، ما دام الإنسان نقيضا للطبيعة التي هي بالنسبة إليه الواقعة-الموضوعية، فإن الطبيعة تضحى مكانا وليس زمانا: فالزمان هو داخل الإنسان، وعبر الإنسان فقط، إنه –إذن إن صح القصد- ذاتي. وفي اللحظة التي "يقوض" فيها الإنسان تعارضه مع الطبيعة، فإنه يقوض أيضا الزمان. من جهة أخرى، فإن الزمان مجرد أيضا من جهة كونه خارج الإنسان. لأنه بقدر ما يعجز الإنسان عن تحقيق الدولة الكونية والمتجانسة، فإن الخصوصي يتميز عن الكوني، أما الزمان الخصوصي، أي زماني الخاص، ليس هو الزمان عموما: فالمستقبل الاجتماعي، والسياسي، ليس هو مستقبلي، سأفنى قبل نهاية التاريخ، وأولد بعد بدئه، لكن في اللحظة التي يتقوض فيها التعارض بين الخصوصي والكوني، فإن التاريخ يتوقف، والزمان ينتفي، هو أيضا.

والحال، أن الزمان –هو الإنسان ذاته. فإبطال الزمان، هو إذن إبطال للإنسان أيضا. في الحقيقة: "إن الكينونة الحقة للإنسان هي عقله"، والمقصود العمل الذي يكسب الفوز. بمعنى أن الإنسان هو النتيجة الموضوعية لعمله. والحال، أن نتيجة عمل الحكيم، أي الإنسان الكامل الحق الذي ينز اكتمال صيرورة الواقعة الإنسانية، هي العلم. لكن الوجود-الأمبريقي (Dasein) للعلم، ليس هو الإنسان؛ إنه الكتاب. إنه ليس الإنسان، ليس الحكيم بجسده و[ كيانه ]، إنه الكتاب الذي هو ظهور (Erscheinung) للعلم في العالم، وهذا الظهور أضحى المعرفة المطلقة.

الأكيد، أن النتيجة الموضوعية للعمل تنفصل دائما عن العامل المؤثر وتقاومه. لكن ما دامت هذه النتيجة غير كلية وتامة، أي كونية ومتجانسة (خالية من التناقضات)، فإن لها بدورها مستقبلا، لأنها تتغير وتتقوض. إذن فهي ليست فقط في الزمان، ولكنها تكون زمان، فيصح القول بأنها تاريخية أو إنسانية حقا. ولهذا فإن نتيجة عمل إنسان ما تتحقق دائما في وعبر، أو بالأحرى، بقدر ما هي عمل إنساني جديد. وعلى العكس من ذلك، فإن نتيجة عمل الحكيم نهائية (تامة). إنها لا تتغير أبدا، كما لا يمكن أن تكون متجاوزة: بإيجاز ليس لها مستقبل بالمعنى الأصح. بناء على ذلك، فهذه النتيجة ليست حدثا تاريخيا بالمعنى الدقيق للكلمة، وهي ليست لحظة حقيقية للزمان. وإذا اقتضى القول فإنها ليست أبدا واقعة إنسانية. مرة أخرى: إن "الوجود-الإمبريقي" للعلم في العالم، ليس هو الإنسان، بل إنه الكتاب.

الأكيد، أن هذا الوجود "أمبريقي"، وبقدر ما هو كذلك فإن له ديمومة: إن الكتاب يدوم هو أيضا، يفسد، ويعاد طبعه، الخ. لكن طبعته الأخيرة لا تتميز في شيء عن الأولى: فلا يمكن تعديل شيء فيه، أو إضافة أي شيء إليه. إن الكتاب يظل مطابقا لذاته، رغم التغيير العام.

إن الزمان الذي يدوم فيه، هو –إذن- طبيعي أو كوسمي، وليس تاريخيا أو إنسانيا. والمؤكد أن الكتاب لكي يغدو كتابا، وليس ورقا غير مضبور (مجلد) ومسود، يلزم أن يقرأ ويفهم من طرف البشر. لكن القراءات المتوالية لا تتغير شيئا في الكتاب. ولكي يقرأ الكتاب، لا بد أن يحيا الإنسان، أي يولد، ويترعرع، ثم يموت، إن حياته تختزل داخل ما هو جوهري في هذه القراءة ( لأنه لا يجب نسيان، الدولة الكونية والمتجانسة القائمة هناك، والرغبة التي تم إشباعها بالكامل أيضا، ليس هناك أبدا صراع، ولا عمل؛ إن التاريخ انتهى، وليس هناك ما يجب فعله، فلا يكون الإنسان إنسانا، إلا بقدر ممارسته لقراءة، وفهم الكتاب الذي يكشف كل ما كان قائما، وما كان واجبا القيام به) لن يبدع أي شيء جديد: مستقبل زيد الذي لم يقرأ بعد الكتاب، ليس سوى ماضي عمرو الذي قرأه سالفا. إن الزمان الذي ستمر فيه الإنسان –قارئ- الكتاب، هو إذن، الزمان الدائري (البيولوجي) لأرسطو، لكنه ليس الزمان الخطي التاريخي، الهيجلي.

إذن، مرة أخرى: فتحقيق المعرفة المطلقة تحت هيئة كتاب، يعني جعل التوافق بين المفهوم الكامل، وبين الواقع مأخوذا في كليته، أي إبطال الاختلاف بين الواقع والزمان، وعبر هذا نفسه يتم تقويض خارجية الزمان بالنظر إلى علاقته بالإنسان، إنه تقويض الزمان ذاته؛ وهو، بالتالي، تقويض للإنسان نفسه باعتباره فردا حرا وزمانيا. إن الزمان هو المفهوم الذي هو إنسان: والمراد الإنسان التاريخي، أي إنسان الرغبة، أي الإنسان الذي لم ترض حاجياته بواسطة ما هو قائم، أو ما كان قائما، أي الإنسان الذي يحول المعطى بالصراع والشغل. ولهذا كان الزمان دائما وأساسا "مجردا"، أي خارج الواقعة الطبيعية التي هي موضوعية بالعلاقة مع الإنسان، وخارج الإنسان نفسه.

وهذا هو ما قاله هيجل في العبارة التي لم أستشهد بها إلا في البداية، متوقفا عند النقطة الفاصلة (ص558، 1، 3-12): "إن الزمان هو المفهوم ذاته الذي يوجد هناك [-في-الوجود- الأمبريقي ] والذي يعرض (Vorstellt) للوعي [-الخارجي ] محدس (Anschung) فارغ. وبسبب هذا فالروح يظهر أو ينجلي في الزمان ما دام لم يستوعب أو يفهم (erfasst) مفهومه الخاص؛ أي [ما دام ] لم يبطل (tilgt) الزمان. إن الزمان هو الأنا-الشخصي الخارجي المحض المتأمل حدسيا [و] ليس مستوعبا أو مفهوما بواسطة الأنا-الشخصي. [الزمان هو] المفهوم [ الذي ليس ] سوى المتأمل فيه-حدسيا. وفي اللحظة التي يغدو فيها المفهوم مستوعبا –أو- فاهما ذاته، فإنه يبطل –ديالكتيكيا هيئته- الزمانية، فيدرك مفهوميا (begreift) التأمل الحدسي، ويكون تأملا-حدسيا مفهوما بطريقة مفهومية، وفاهما-مفاهيميا"

في محاضرات إيينا" يقول هيجل: "Geist est Zeit": "الروح هو الزمان" وهنا، يقول: "Dex Geisterscheitinder zeit" "الروح يظهر في الزمان". فهل غير رأيه؟ لا أعتقد ذلك. إن الأمر يتعلق، في رأيي، باختلاف اصطلاحي طفيف. هناك، تعني Geist مثل ما تعنيه "Volks-geist"؛ يتعلق الأمر بالروح الماثل للصيرورة. هنا، يتعلق الأمر بالروح الصائر، أي الروح الكامل والناجز، الذي ينكشف لذاته في وعبر "العلم المطلق" بوصفه wissenschaft، أو كما قال هيجل "الذي استوعب-وفهم مفهومه". أو بالحري أيضا: فهناك تعني "Geist" "الإنسان"، بينما هنا تنتسب هذه الكلمة إلى الكتاب.

الكتاب الذي جاء نتيجة فعالية الحكيم، أي الكتاب الذي يحين المعرفة المطلقة باعتبارها الوجود-الأمبريقي للعلم، فهو ليس بالتأكيد كيان طبيعي خالص، بالمقارنة مع صخرة مثلا. إن له معنى، فهو خطاب؛ كيان يكشف معناه بذاته لذاته. ومن جهة، فإن الكتاب –إذن- كيان روحي.

وما دام محتواه كليا، ولا يكشف إلا محتواه الخاص، فإنه من الواجب القول بأنه الروح الكامل: dergeist. أما من جهة أخرى، فهذا الكتاب ليس بكل تأكيد كائنا إنسانيا. إنه يكشف محتواه دون تعديل؛ وليست له –إذن- رغبة، فهو ليس عملا. وبعبارة أخرى فهو يظل مطابقا لذاته أبدا، ولا يمتلك مستقبلا حقيقيا. إنه –إذن- ليس زمانا. وما دام محتواه أبديا لا ينتسب إلا لذاته، فهو ليس فقط أبديا: إنه الأبدية. لكن الكتاب هو نتيجة فعالية الحكيم، الذي بقدر ما هو إنسان ومواطن الدولة الكاملة، فهو يكمل كل التطور التاريخي للإنسانية، وهكذا فإن هذا التاريخ ذاته ليس في نهاية التقدير سوى تاريخ للكتاب، أو بدقة أكثر، لتطور المعرفة الذي قاد نحو هذا الكتاب. وتاريخ الكتاب هذا هو الزمان. إذن: إذا كانت "Geist" تعني الروح المكتمل أو الموجود إمبريقيا باعتباره كتابا (الذي ينفصل عن الإنسان الكامل أو الحكيم بعد سقوط هذا الأخير في الماضي المطلق، أي بعد نهاية التاريخ) فإنه لا يمكن القول أبدا بأن الروح هو الزمان: يلزم القول بأنه لا أبدية. لكن بارميندس وسبينوزا كانا مخطئين حينما اعتقدا بأن الأبدية يمكن أن تنكشف (عبر الخطاب-اللوغوس) بدون الزمان. أما أفلاطون فقد كان مخطئا في اعتقاده بأن الأبدية مستقلة عن الزمان، وقد ضل أرسطو أيضا عند قوله بأن الأبدية توجد في الزمان بوصفها أبدية. وأخيرا فقد خدع كانط هو أيضا وهو يفكر بأن الأبدية تتقدم الزمان (أنطولوجيا). لا يقول هيجل: إن الأبدية (المنكشفة بواسطة الخطاب) هي نتاج الزمان، إنها الزمان الذي مات موتا طبيعيا (إن صح التعبير)، فهي فقط هذه الأبدية، التي تفترض الزمان، وتستنتجه، بوصفه اكتمالها، الذي من الممكن استكشافه عبر الكلام (اللوغوس) الإنساني. إنها لا توجد في الزمان باعتبارها أبدية، لأنه بقدر ما يستمر الزمان، فإنه هو الذي يوجد، وليست الأبدية. لكن الأبدية، أو الروح (الكامل) يظهران في الزمان. لأن الكتاب قد حرر في لحظة محددة من الزمان، ولا يمكن أن يكتب إلا في اللحظة الأخيرة من الزمان، لأنه صادر عن كلية الزمان. هذا يعني بأنه يتميز بالقوة سلفا، منذ اللحظة الأولى للزمان، وهذا الحضور الافتراضي للروح الكامل في الزمان (يعني حضور نهاية الزمان داخل بدايته نفسها، وطيلة مدة دوامه؛ أو بالأحرى: المحدودية الجوهرية للزمان) هو ما يسميه هيجل "ظهور الروح في الزمان". والحال، أن هذا الظهور، الذي هو الزمان، ليس شيئا آخر، غير الإنسان في تطوره الزماني، هذا يعني ما سماه بالتحديد هيجل بـ"Geist" في "محاضرات إيينا". واعتبارا لهذا، فإنه من اللازم القول إذن بأن : "Geist istzeit".

إذن، وكما يقول هيجل: "إن الروح يظهر في الزمان، ما دام لم يدرك –أو- يفهم مفهومه، أي يبطل الزمان". وهذا الإبطال للزمان يحصل في اللحظة الأخيرة للزمان، في وبواسطة العلم، في الحقيقة ففي ومن أجل العلم، يتطابق الموضوع والذات، فلا يتكلم الإنسان إلا عن ذاته إنه وعي-الذات، وليس وعيا-خارجيا. والحال، أن الإنسان الذي لا ينتسب أبدا لـGegen-Stand لموضوع-مشيأ نقيض له، فإنه ليس في حاجة أبدا للسلب من أجل أن يثبت في الوجود محتفظا هويته مع ذاته-نفسها. أما الإنسان الذي لا ينفي أبدا، ليس في حاجة لمستقبل حقيقي بتاتا (ما دام يرضى دائما بالحاضر المعطى). إذن، إنه ليس أبدا الزمان الهيجلي أو التاريخي. هذا الإنسان هو مواطن الدولة المكتملة، الذي اقتنع تماما بهذه الدولة، لا شيء –إذن- يتغير بتاتا، ولا يمكن أن يتغير شيء في هذه الدولة الكونية المتجانسة، فليس هناك تاريخ، المستقبل غدا ماضيا حصل في السابق؛ والحياة أضحت –إذن- بيولوجية حقا. ليس هناك إذن إنسان بالمعنى الأدق للكلمة. الإنساني (الروح)، آوى بعد النهاية الحاسمة للإنسان التاريخي، إلى الكتاب وهذا الأخير –إذن- ليس هو الزمان قطعا، ولكنه الأبدية[2].

يمكن القول إذن، كما هو شأن هيجل، في النص المستشهد به، بأن الزمان هو المفهوم الذي ليس سوى متأمل (بفتح الميم المشددة) حدسيا (Angeschaut) "ولس مدركا-مفاهيميا (تصوريا) (begriffen)"، في الحقيقة، فإن الـ Anschaung هو تأمل لشيء ما يوجد خارج من يتأمل: إنها حالة الوعي-الخارجي وليس وعي-الذات. والحال أنه لا يوجد زمان فعلا، إلا هناك حيث يوجد Buwusstsein، الوعي-الخارجي، أي الوجود-الإنساني بالمعنى الأصح للكلمة، أو وجود كائن نقيض –جذريا- للعالم الطبيعي، الذي يحوله أساسا بقصد إبطال هذا التناقض. في اللحظة التي يحقق فيها نجاحه، فإن الوعي-الخارجي يصير وعي-الذات، فيتطابق الذات والموضوع، ويظهر العلم على الأرض، ويبطل الزمان ببطلان الرغبة والفعل التاريخي أو الإنساني.

في المقطع الذي يختتم الفقرة، يطور هيجل فكرته، إنه يقول ما يلي (ص558، 1، 12-20): "وبناء على ذلك، فإن الزمان يظهر –أو- ينكشف كقدر وحتمية للروح الذي لم يكتمل –أو- يتم (Vollendt) في ذاته-نفسها؛ و[ كمثل ] حتمية إغناء الحصة التي لوعي-الذات تجاه الوعي [الخارجي ]، لوضع مباشرية [ الشيء] في –ذاته- "L’en-soi" [الذي هو] هيئة تحتها يوجد الجوهر داخل الوعي [الخارجي ] ضمن الحركة [الديالكتيكية]، أو بالعكس، يعتبر [الشيء] في ذاته مثل كيان داخلي –أو- باطني، و[مثل ضرورة] تحقيق واستجلاء ما لا يوجد إلا داخليا –أو- باطنيا، أي رصده لليقين-الذاتي للذات-نفسها".

إنه دائما الشيء نفسه، إن الزمان، هو التاريخ؛ لكن التاريخ قد انتهى بالأساس. أمام التاريخ، فهو التحول التقدمي لـ Bewubstsein إلى Selbstbewubstsein؛ هذا يعني في نهاية التقدير، تاريخ الفلسفة. لكن تاريخ الفلسفة هذا يقتضي تاريخا بالمعنى الاعتيادي للاصطلاح، يستفاد عبره تحريك الشيء، في ذاته، وتحقيق وإظهار –أو- كشف ما لا يوجد أولا إلا داخليا –أو- باطنيا" والحال أن التحول الجوهري للطبيعة، والتحقق الموضوعي للفكرة الذاتية، لا يحدثان إلا عبر فعل الصراع، والشغل. وما دام الإنسان يصارع ويشتغل، فإن هناك تاريخا، وزمانا، أما الروح فلا يوجد في أي شيء آخر سوى في الزمان، حيث يوجد بمقدار وجود صراعات وأشغال الإنسان. لكن في اللحظة التي يحقق فيها الإنسان كل شيء، فإن التاريخ يتوقف نهائيا، كما أن الزمان يبطل، والإنسان يموت أو يختفي بوصفه إنسانا تاريخيا، والروح يدوم بوصفه روحا لا يتغير مطلقا، وباعتباره الأبدية كذلك.

لنأت الآن لتطبيقات هذا التصور حول العلاقة بين الأبدية، الزمان والمفهوم، (ص558، 1. 21-28): "يلزم القول اعتبارا لهذا السبب، بأنه لا شيء يعلم –أو- يعرف [ما] لا يوجد في التجربة (Er fahrung)؛ أو كما يعبر أيضا لقول نفس الشيء: [ما] ليس حاضرا –أو- معطى (Vorhanden) كحقيقة محسوسة، [أو] ككيان أبدي منكشف داخليا –أو- باطنيا، [أو] كمقدس يعتقد –في- قدسيته الخ. حسب [مختلف ] التعابير التي تعودنا على استعمالها. لأن التجربة، هي بالتحديد واقعة تشيؤ محتوى الوعي [-الخارجي ]، وهذا المحتوى هو الروح، [الموجود] في ذاته، [أي ] أنه جوهر وبالتالي فهو موضوع".

هذا، هو بكل بداهة، تفسير كلام في بداية مدخل نقد العقل المحض. في الزمان، يقول كانط: "يتقدم الواقع على المعرفة" وهيجل، يقبل بهذا بالبداهة: بقدر ما يكون المفهوم زمانا، فإنه يتعلق بشيء آخر غير ذاته، وداخل هذه العلاقة يكون الشيء متقدما المفهوم. لكن هيجل يأخذ المصطلح Erfahsung بالمعنى الواسع. من بين أشياء أخرى يقصد بذلك التجربة الدينية. في العبارة المطروحة للنقاش يقول أيضا ما يلي: حتى تستطيع الأبدية أن تكون منكشفة، فإنه يتوجب أولا أن يكون هناك الزمان. والحال أن المفهوم –في الزمان- يكون خارج الواقع. إذن يلزم أن يكون الشيء نفسه أيضا بالنسبة إلى مفهوم الروح: مفهوم الروح يجب أن يكون معلوما كما لو كان خارج الروح الواقعي والحال أن الروح الذي يكون خارج مفهومه (أي خارج الإنسان) إنما هو الله. إذن: بقدر ما يدوم الزمان، أي إلى حين حلول العلم، فإن الروح ينكشف للإنسان في صيغة معرفة تيولوجية (لاهوتية)، وبقدر ما يدوم التاريخ، هناك إذن ديانة بالضرورة، وإن صح القول، هناك الله. لكن السبب الأخير، والحجة الأساسية لوجود الديانة (والله)، متضمنة في طبيعة الزمان ذاتها أو في التاريخ، أي في الإنسان. (ليس الله هو الذي خلق الإنسان قبل الزمان؛ وإنما الإنسان هو الذي خلق آلهته عبر مجرى التاريخ)، في الواقع يقول هيجل بأن التجربة (Erfahrung) الدينية، وغيرها، "هي واقعة يوجد فيها الروح بوصفه موضوعا-متشيئا للوعي-الخارجي". والحال أن التعارض بين المعرفة والواقع، هو بالتحديد الإنسان. لأن الإنسان هو الوجود الأمبريقي (Dasein) لكشف العالم، وهذا الكشف بمقدار ما هو في العالم، فإنه شيء آخر غير العالم (الطبيعي) الذي يكشفه. وهذا الوعي-الخارجي لا يصل إلى المعرفة إلا وهو يستند إلى موضوع مشيأ. وهكذا، فلأجل أن يقدر الإنسان على معرفة ذاته-نفسها، يلزمه أولا أن يتموضع، أن يتخارج، وأن يصير عالما: "الإنسان –يقول هيجل- يلزمه أولا أن يتحقق (في الواقع)، ويتموضع بواسطة الفعل، قبل أن يقدر على أن يعرف". أما تموضع الإنسان، فهو بالتحديد وجود أشغاله وصراعاته، أي وجود التاريخ الذي هو الزمان. والحال أنه بقدر ما يستمر الزمان، بقدر ما هناك تاريخ، فإن الموضوع يظل خارجيا بالنسبة إلى الذات، والإنسان لن يعرف –إذن- بآثاره الموضوعية، والعالم التاريخي الذي خلقه يظهر كما لو أنه عالم مخلوق بواسطة شيء آخر غيره: بواسطة روح بالتأكيد، لكن ليس بروحه الخاص، أي بواسطة روح إلهي. ولهذا فإن هناك ديانة (وإله) بالضرورة، ما دام هنالك إنسان، وتاريخ وزمان.

إن الديانة –هي إذن- ظاهرة عارضة epiphénomène للشغل الإنساني. إنها ظاهرة تاريخية أساسا. هكذا، حتى في ظهوره التيو-لوجي، فإن الروح هو صيرورة أساسا. فليس هناك –إذن- إله مستوحى خارج التاريخي. أو بالأحرى أيضا، فإن الأبدية لا يمكن أن تكون حقيقة، أي واقعة مستوحاة بواسطة الإنسان (عبر الخطاب – اللوغوس الإنساني) إلا بشرط أن تكون نتيجة لصيرورة، أي للزمان. إن "الروح المطلق" الهيجلي، ليس هو –إذن- "الله" بالمعنى العادي للكلمة: هذا الروح هو صيرورته الخاصة، وهذه الصيرورة مستكشفة في عموميتها (تكاملها) بواسطة الكلام، وقد حولت هكذا إلى حقيقة، والصيرورة هي الروح، إنها الزمان أو الإنسان، إنها التاريخ الإنساني.

وهذا هو ما قاله هيجل في العبارة التالية (ص558، 1. 28-31): "لكن هذا الجوهر الذي هو الروح، إنما هو صيرورة الذات-نفسها، [صيرورة الروح ] التي تصير (بضم التاء وكسر الياء المشددة) من أجل الذات، ما كان (في-ذاته "en-soi"). وهذا فقط بمقدار تفكير هذه الصيرورة في ذاتها بأنها كانت (شيئا) في ذاته في حقيقة الروح" صيرورة الروح التي هي التاريخ أو الصيرورة التاريخية للإنسانية، ليست شيئا آخر سوى صيرورة العلم الذي هو "الروح المطلق" أو الروح الصائر، أي التام والكامل، الذي يكشف ذاته لذاته بواسطة ذاته-نفسها. إذن إنه الإنسان أيضا، إذا رغبنا، لكن الإنسان قد مات، أو إذا أردنا التفضيل-الإنسان يصير الله. الأكيد، أن "إله" كان قائما في الزمان، انطلاقا من الإنسان، ليس حقا إله. لكن الإنسان الذي صار "الله" ليس مطلقا إنسانا. وكيفما كان الحال، فإن التاريخ هو بالنسبة إلى هيجل صيرورة "الروح المطلق" أي الروح المنكشف تماما، والمتحقق كليا، في وعبر العلم، التاريخ هو إذن صيرورة العلم، أي أنه تاريخ الفلسفة.

وهذا هو ما قاله هيجل بالفعل (ص558، 1. 28-33): "الروح هو في ذاته الحركة [الديالكتيكية] التي هي المعرفة؛ [لمعرفة] تحول: ما –في-ذاته L’en-soi المذكور أعلاه إلى من أجل-ذاته pour-soi، والجوهر إلى ذات، والموضوع المشيأ للوعي [-الخارجي ] إلى موضوع مشيأ لوعي-الذات، يعني إلى موضوع-مشيأ [قد] بطل (انتفى) ديالكتيكيا، أو بعبارة أخرى إلى مفهوم".

والحال، أن هيجل، يضيف في العبارة التالية بأن هذه الحركة الجيالكتيكية التي هي الزمان أو التاريخ، أي تاريخ المعرفة الإنسانية أو الفلسفية، هي في نهاية التقدير –حركة دائرية-، والعلم الذي يكشف هذه الحركة بوصفه مكتملا، يلزمه إذن أن يكون هو أيضا دائريا (ص558، 1. 33-34): "الحركة [-الديالكتيكية التي هي الروح ] هي الدائرة التي تعود إلى ذاتها، وتتضمن بدايتها التي لا تبلغها (erreicht) إلا عند النهاية".

إن زمان هيجل (أي الزمان التاريخي والإنساني) هو إذن دائرة، وهو لا يتميز عن الزمان الأرسطي أو البيولوجي إلا من خلال كونه ليس دوريا Cyclique: إن الدائرة الهيجلية لا يمكنها أن تدور إلا مرة واحدة.

في الواقع، إن "الحركة الديالكتيكية" الدائرية-، هي الزمان، أي التاريخ. والحال أن التاريخ هو التناقض بين الإنسان والعالم (الطبيعي). إن بداية "الحركة"، هي أن ذلك الذي لا يكون في حركة مستمرة، هو إذن غياب التعارض بين الإنسان والعالم، أو هو من يكون ذات الشيء، إنه غياب الإنسان. والحال، أن هيجل يقول: "إن الدائرة تستلزم بدايتها" أي أن الزمان يستلزم المكان، والإنسان يستلزم العالم، وهوية الإنسان والعالم هي سابقة على الإنسان الذي هو غامض وأخرس، لأنه لم يتضمن بعد الإنسان. والحال أن أصل الإنسان هذا لم يوجد لأجل الإنسان، لأن الكينونة من أجل الإنسان، هي كينونة –منكشفة- بواسطة المفهوم، وعندما يوجد انكشاف الكينونة، فإن الإنسان الذي يكشفها عبر خطابه يوجد سلفا. أما الإنسان فهو الفعل، أي التعارض بين الإنسان والعالم، وتحديدا "الحركة-الديالكتيكية" أو الزمان. إذن فإن للزمان (الإنساني) بداية في العالم: فالتاريخ يبتدئ في عالم (طبيعي) موجود سلفا. لكن التاريخ هو تاريخ للفعل الإنساني، وهذا الفعل هو "التقويض-الديالكتيكي" للتعارض بين الإنسان والعالم. و"تقويض" التعارض، هو تقويض للإنسان-ذاته، أي للتاريخ، وأيضا للزمان (الإنساني). إن نهاية الحركة، هي بدورها هوية، تماما كما كانت عند بدئها. فقط، تستكشف الهوية في النهاية بواسطة المفهوم. إن الحركة –أي التاريخ الذي هو في نهاية التقدير سيرورة كشف الكينونة بواسطة المفهوم- لا تلغ (erreicht) بدايتها –إذن- إلا في النهاية: فليس إلا في نهاية التاريخ توجد هوية الإنسان والعالم من أجل الإنسان، أو بقدر ما هي منكشفة بواسطة الخطاب الإنساني. إن التاريخ الذي ابتدأ له إذن نهاية حتما: وهذه النهاية هي الكشف الاستدلالي لبدايته (هذه "البداية" بما هي –كما في علمنا- رغبة، أصل تطور الإنسان anthripogéne، فإن النهاية هي فهم إدراك) لهذه الرغبة، كما هي مطروحة في فينومونولوجيا الروح). لكن إذا كانت بداية الإنسان، والتاريخ والزمان، غير موجودة لأجل للإنسان، إلا في نهاية الزمان والتاريخ، فإن هذه النهاية ليست أبدا استئنافا (بداية جديدة) لأجل الإنسان، ولا من الإنسان، ولكنها حقا نهايته. في الواقع، فإن الهوية المنكشفة للإنسان وللعالم تبطل الرغبة التي هي تحديدا بداية تاريخ الإنسان والزمان. إن دائرة الزمان لا يمكن أن تدور –إذن- سوى مرة واحدة؛ فيكتمل التاريخ، لكنه لا يبتدئ مطلقا؛ ويموت الإنسان ولن ينبعث أبدا (على الأقل بمقدار ما هو إنسان)[3].

لكن بما أن الزمان ليس دوريا cyclique، فهو بالضرورة دائري circulaire: في النهاية، يتم بلوغ هوية البدء. بدون هذه الهوية (أي بدون العالم الطبيعي) لا يستطيع التاريخ أن يبدأ، فهو لا يكتمل إلا مع بناء هذه الهوية؛ ولكنه بالتالي يكتمل حتما. إذن، نعود في النهاية إلى نقطة الانطلاق: إلى عدم الإنسان.

إن العلم الذي يكشف كلية الإنسان الكاملة، أي المجرى المكتمل للتاريخ، يجب أن يكون دائريا، هو أيضا. وهذه الدائرية الخاصة بالعلم هي المعيار الوحيد لحقيقته المطلقة، أي لتطابقه التام مع جملة الحقيقة الواقعة. في الواقع، إذا كان الواقع (الإنسان) صيرورة، فإن أيا من كشوفاته المرحلية، أو "اللحظية" ليست صحيحة بالمعنى الصحيح للمصطلح: إن الواقع بقدر ما "يلغى" بواسطة الفعل في كل مرة، فإن المفهوم الذي يكشفه بطريقة صحيحة في لحظة معينة، يتوقف عن أن يكون صحيحا حقا في لحظة أخرى، إنه ليس سوى مجموع "الحركة" أي المجموع الكامل للتاريخ، للإنسان والزمان هو الذي لا يتغير؛ إذن إنه ليس سوى جملة الصيرورة totalité du devenir، التي تظل متطابقة مع ذاتها دائما، وليس بالتالي، سوى كشف هذه الجملة totalité الذي يعد صحيحا حقا.

إن العلم يجب أن يكون –إذن- دائريا، وليس سوى العلم الدائري الذي يغدو العلم التام أو المطلق. إن مصدر هذا العلم هو كذلك دليل نهاية الإنسان، التاريخ، والزمان. عندما يشرع الخطاب الإنسان في الانطلاق، من نقطة ما، متقدما حتما (وفق الضرورة المنطقية)، ثم يعود إلى نقطة انطلاقه، فإنه من الملاحظ أن جملة الخطاب قد استنفذت، واستنفاذ الخطاب، هو أيضا استنفاذ للتاريخ، أي للإنسان والزمان.

الكل مثل الزمان، التاريخ والإنسان، إن العلم إذن دائري، لكن إذا كانت الدائرة التاريخية، لا تجري سوى مرة واحدة، فإن دائرة العلم هي دورة cycle تتكرر دائما[4]. هناك إمكانية تكرار العلم، وهذا التكرار هو نفسه ضروري. في الواقع، فإن محتوى العلم، لا ينتسب إلا لذاته: فالكتاب هو مضمونه الخاص. والحال، أن مضمون الكتاب ليس منكشفا تماما إلا عند نهاية الكتاب. لكن ما دام هذا المضمون هو الكتاب، فالجواب بنفسه المعطى في النهاية للرد على سؤال معرفة ما يكونه المضمون، لا يمكن أن يكون شيئا آخر غير مجموع الكتاب، وهكذا فبالوصول إلى النهاية، لا بد من إعادة قراءة (أو التفكير ثانية في) الكتاب؛ وهذه الدورة ستتكرر دوما[5].

إذن فالعلم ليس فقط دائريا، لكنه أيضا دوريا. والحال أنه في الدورة، يغدو المستقبل أيضا دائما ماضيا. إذن ليس هناك أبدا مستقبل حق. أي ليس هناك زمان بالمعنى الصحيح للقول، زمان إنساني أو تاريخي. إذا رغبنا في القول بأن الحركة-الديالكتيكية للعلم هي زمان، فيلزم القول بأنه زمان دوري، أي زمان بدون أولية المستقبل؛ إنه الزمان الذي غدا الأبدية؛ بإيجاز، إنه الزمان البيولوجي لأرسطو. ولهذا فإن "الوجود-الأمبريقي" للعلم، ليس هو الإنسان التاريخي، وإنما كتاب من ورق، أي كيان طبيعي. الأكيد، أن الكتاب يجب أن يقرأ ويفهم من طرف البشر لكي يكون كتابا، أي شيئا آخر غير الورق. لكن الإنسان الذي يقرأه لا يبدع شيئا أبدا، ولا يغير أبدا حتى نفسه، فلم يعد أبدا زمانا له أولية المستقبل أو التاريخ؛ وبعبارة أخرى فهو ليس إنسانا بالمعنى الأصح للكلمة. فهذا الإنسان هو بدوره، كائن شبه طبيعي أو دوري: إنه حيوان عاقل، يغير، ويتوالد وهو يظل دائما مطابقا لذاته. وهذا "الحيوان-العاقل" هو من يكون "absoluter Geist"، الروح الصائر أو الكامل –و-التام؛ أي الميت.

ما يلي هو نوع من الخلاصة.

إن هيجل ليبدأ بتلخيص كل ما قاله حول العلاقة بين الروح، أو، الكائن-المنكشف بواسطة المفهوم، والزمان (ص 558، 1. 34- 559، 1.7): "إذن، في نطاق ما يكون الروح بالضرورة هو هذا التميز والمفاضلة داخل ذاته-نفسها، فإن جملته Totalité تتموضع [ عندما تكون ] متأملة (بفتح الميم المشددة) حدسيا. لمواجهة ولاعتراض (gegenüber) وعي-ذاته البسيط أو غير المقسم. وما دامت جملة [الروح ] هذه، هي الكيان-المميز –أو- المفضل، فإنها تكون مميزة –أو- مفضلة في مفهومها المحض المتأمل (بفتح الميم) حدسا، الذي هي الزمان، وفي محتواها الذي هو أل-في-ذاته. إن الجوهر [مأخوذا] بوصفه ذاتا. يمتلك في ذاته ضرورة،      [ هي أولا] داخلية –أو- باطنية ليتمثل (darzystellen) في نفسه، بما هو أل-في ذاته. يعني بما هو روح. ليس سوى التمثل (darstellung) الموضوعي-و-المشيأ المكتمل –و-التام، الذي يكون في الوقت ذاته تفكر الجوهر، أي صيرورته [التي تحوله ] إلى أنا-شخصي".

هذا النص لا يأتي بأي جديد. لقد سبق أن وظفته من أجل التعليق على النصوص السابقة. بحيث إن كل ما قلته إلى حد الآن يمكن أن يؤخذ للتعليق على هذا النص. إذن فأنا مقتنع بترجمته.

وهذا يسري أيضا على العبارة التي تليه، التي يقول فيها هيجل بكل فصاحة بأن العلم لا يمكن أن يظهر إلا عند نهاية التاريخ، بمعنى أن الحقيقة المطلقة لا وجود لها، إلا إذا كان للتاريخ نهاية (والمقصود: إذا كان الإنسان فانيا بالأساس).

وهذه ترجمة لهاته العبارة الشهيرة (ص559، 1. 7-9): "ومن ثم، فما دام الروح لم يكتمل –و- يتم في [-التاريخي ]، فإنه لا يستطيع الوصول إلى كماله، أو غايته الفضلى باعتباره روح وعي-الذات- [أي الروح الفلسفي ]". إن الـ(Wettgeist)، هو تاريخ الإنسانية. أما الـ"Selbst bewusstsein Geist" فهو العلم.

أخيرا، ففي ملاحظة نهائية (ص559، 1. 91-2)، يكتب هيجل، ما سبق أن قلته حول الديانة، أو التيو-لوجيا، معلقا على مقطع حول L’Erfahrung: "عبد الزمان، كان مضمون الديانة [المسيحية] معبرا –إذن- عن الروح [الإنساني ] قبل العلم [الهيجلي ]؛ لكن هذا الأخير، هو وحده [ يغدو] المعرفة الحقة التي يملكها الروح [الإنساني ] عن ذاته".

بقدر دوام الزمان، الإنسان والتاريخ، فإن الكينونة المكشوفة تعتبر روحا متعاليا أو إلهيا. أما إلغاء تعالي الروح (الذي يقود إلى إلغاء التيو-لوجيا) فهو ما يطبع نهاية الزمان، التاريخ، والإنسان.

لكن عند نهاية الزمان فقط، يتجلى الواقع، فتظهر الحقيقة في تعابير أخرى لأن الروح-الأبدية Esprit-Eternité هي-في الواقع- نتيجة الزمان والتاريخ: إنها الإنسان ميتا، وليس إلها منبعثا. ليس هناك إله متعال حي في السماء، ولكن هناك كتاب كتب بواسطة إنسان حي في العالم الطبيعي.

 

 



[i] - هذه ترجمة للمحاضرة التاسعة لكوجيف وهي تتمة لتفسير الجزء الثاني من الفصل الثامن من كتاب فينومونولوجيا الروح لهيجل، وقد ترجمت عن كتاب مدخل لقراءة هيجل كاليمار 1947، (ص381-395).

أما عنوان المحاضرة فهو مصاغ من عندنا، لأن محورها هو نهاية الزمان والتاريخ، وموت الإنسان. ولا يخفى تأثيرها الكبير على مفكرين كبار مثل فوكو، لاكان، وأخيرا فوكوياما الذي اقتبس عن كوجيف عنوان كتابه نهاية التاريخ والإنسان الأخير.

[2] - في الحقيقة أن كلمة –مفهوم (لوغوس) ستنفصل في نهاية الزمان عن الإنسان، وستوجد –أمبريقيا ليس أبدا في صيغة حقيقة-إنسانية، ولكن في هيئة كتاب-، هذه الواقعة تكشف محدودية الإنسان الجوهرية. وليس فقط أي إنسان كيفما كان يموت: إن الإنسان يموت بوصفه إنسانا أن نهاية التاريخ هي موت الإنسان بالمعنى الخاص، بعد هذا الموت يبقى ما يلي: أولا أجساد حية لها هيئة إنسانية، لكنها منزوعة الروح، أي الزمان، أو القدرة على الإبداع؛ ثانيا: روح –يوجد-إمبريقيا، لكنه في هيئة واقعة لا عضوية، غير حية: وبقدرما هو كتاب، لا يتمتع حتى بحياة حيوانية، فإنه لا علاقة له مع الزمان. فالعلاقة بين الحكيم وكتابه هي إذن مماثلة جدا لتلك التي تربط الإنسان بموته. إن موته جد خاص؛ إنه ليس موت الغير، لكنه خاص –فقط- في المستقبل؛ لأنه من الممكن القول: "سأموت"، وليس "لقد صرت ميتا". وهذا ينطبق على الكتاب، إنه أثري الخاص، وليس أثر الغير؛ فالسؤال يتعلق بذاتي، وليس بسواي. لكنني لست في الكتاب، ولست هذا الكتاب إلا بقدر ما أكتبه، وأنشره، أي بالقدر الذي ما يزال فيه مستقبلا (أو مشروعا). وبمجرد ما يصدر الكتاب، فإنه ينفصل عيني. إنه يتوقف عن أن يكون أناي، كما هو الشأن بالنسبة لجسدي الذي يتوقف عن أن يكون أناي بعد موته. إن الموت هو أيضا لا شخصي impersonnel، وهو أبدي، أي لا إنساني، وما هو لا شخصي، أبدي، ولا إنساني، هو الروح المتحقق بالكامل في وعبر الكتاب.

[3] - عند الانتقال إلى المستوى الأنطولوجي، يمكن القول بأن وحدانية الدائرة تصدر عن حقيقة كون الكائن (الذي يتضمن الإنسان) يتضمن نقيض الأطروحة. أو السلب، إن الحياة البيولوجية تنبثق بواسطة التناقض؛ والتاريخ ينشأ عن السلب، ولذا فمن المستحيل إعادة صنع التاريخ، لأن كل تقدم تاريخي هو سلب لما يكون، وما كان. والتاريخ يتقدم بقدر ما هنالك إمكانية (محققة) للنفي؛ لكن عندما تنعدم هذه الإمكانية، فإن التاريخ سيتوقف نهائيا.

[4] - ليس هناك في العلم ضدية أبدا: إن المعرفة المطلقة لا تقوم بتعديل الكينونة التي تكشفها. لأنها لا تولد إلا في اللحظة التي يكون فيها الإنسان مقتنعا –راضيا- بما هو موجود، وبالتالي فهو لا يبادر بأي شيء مطلقا.

[5] - في المنطق، تنكشف الكينونة أخيرا بوصفها فكرة. فالجواب النهائي لسؤال: "من هي الكينونة؟" هو إذن "الكينونة هي الفكرة". ولكن إذا طرح السؤال: "ما هي الفطرة؟" فيلزم الرد بأنها "هي الـSein (الوجود) الذي هو الـNichts(العدم) أي بأنها الـWesen(الكينونة) الخ.."، وبعبارة أخرى يجب إعادة قراءة المنطق (كتاب المنطق Logik  لهيجل).