ص1       الفهرس 91-100 

 

الأعمى

 

عبد اللطيف النيلة

 

   كل مرة، يدب الانكسار في الشيء، يفرقع، ويتطاير شظايا.

   خبر الواقعة مرات عديدة، فافترسته رغبة عارمة في سبر كنه نظرته. لذلك انتصب أمام المرآة، وتطلع، بعد لحظة، إلى عينيه، إلى نظرتهما تحديدا.

   في البدء، كان يجلس وحيدا، وسط الموسيقى والصخب. رشف جرعة نبيذ، وحطت نظرته على الكأس المنتصف بالشراب. سمر عينيه، دون أن يشعر، على الكأس، فحدث الانكسار، فالفرقعة، وتطايرت الشظايا، وترشش الشراب. أفاق من ذهوله، يمسح وجهه ويحس بألم في جبهته، ولم يفهم حقيقة ما حدث.

   قليل من الفهم أومض في نفسه، حين تكرر الحدث في صورة أخرى. كان يقلب بين يديه هديتها: مزهرية صغيرة من فخار، لها شكل قنينة«كوكاكولا»، تتوجها أزهار تبدو حقيقية، رغم أنها كانت مصنوعة من قماش متين رقيق. بمتعة حالمة، تأمل المزهرية. وما إن ركز نظرته على النجوم المتلألئة فوق صدرها، حتى بهره الانفجار. سريعا وقع، وآذت أرنبة أنفه شظية من فخار.

   مع التكرار، لم يعد لديه شك في قوة نظرته. قذف به اكتشافه إلى دوامة من الدهشة والخوف والقلق، غير أنه لم يلبث أن تصالح مع واقع عينيه، عندما أدرك أن الخطر كامن في التركيز وحده. قال لنفسه:«اجعل نظرتك ناعمة حانية، لا تضغط عليها، وسيبقى الشيء الذي تحط عليه كما هو، عاريا من كل سوء». لم يستطع، مع ذلك، أن يلجم رغبته في تحطيم الأشياء. سلط قوة عينيه، بداية، على أشيائه الخاصة، فحطم أقلاما ومنافض وصحونا، بل إنه فجر زجاج نافذته الوحيدة، وشاشة حاسوبه، والساعة اليابانية المعلقة في قلب جدار الردهة. انتقل، فيما بعد، إلى أصيص ذي نبات ذابل، كان مركونا بجوار شقة الجيران، ثم إلى قنينة زيت في رف حانوت، فإلى الواجهة الزجاجية لمحل يبيع الأحذية، فإلى لوحة في معرض الفنون...

   كان يمارس هوايته، حين تكون الأنظار غافلة. وكانت عيناه توفران له لذة اللعب وتزجية الوقت، وتشبعان رغبته في النيل من الآخرين، والانتقام من كل من استهزأ منه مرة، أو أذاقه طعم الهزيمة أو الذل...

   هاهو الآن يقف قبالة المرآة، مثقلا بذاكرة من الأشياء المتكسرة المفرقعة المتشظية. بحذر، ينظر إلى وجهه. يغمره بنظرة فاحصة وناعمة في آن واحد، كأنه يكتشفه لأول مرة. كان ضامرا، متغضنا بهم دفين، تشوب سحنته السمراء صفرة. يدنو متوجسا من عينيه الصغيرتين، بلونهما القهوي، ورموشهما السوداء التي تسبغ عليهما مسحة وسامة. كانتا عاديتين، لكن السر في البؤبؤين، بل في النظرة المتدفقة منهما. 

   ينظر إلى نظرة عينيه. يحاول أن يسبر كنهها. لا شعاع، لا شيء يتحرك في عمقها. هي مجرد نظرة. لكن، مهلا.. يحدق بدقة وتأن: ثمة بريق يخالط النظرة. يحدق مزيدا من التحديق. فجأة ينكسر شيء ما. يشوب نظرته انكسار. كأن المرآة انكسرت. تتشوش رؤيته، ثم لا يعود يرى شيئا.. ظلام أحمر، وإحساس بالانفجار والألم.

   مرعوبا يمد أصابعه يتحسس المرآة. كانت كما هي، عارية من كل سوء. بأصابع ترتجف، يتحسس الحفرتين الجافتين.. يوشك أن يغمى عليه حين يدرك كنه ما حدث: شيء ارتطم متشظيا بسطح المرآة. لكنه أحس، قبل الارتطام، بكرتين صغيرتين تندلقان بقوة من محجريه.