ص1       الفهرس  81-90

اللسانيات ونظرية التواصل[i]

رومان ياكبسن(*)

ترجمة: ع. ج.أ

يرى نوربير وينر(*) أنه لا يوجد "أي تعارض أساسي بين المشاكل التي يصادفها مهندسو قياس التواصل ومشاكل فقهاء اللغة2". والواقع أن الملاقي والتقاطعات لافتة جدا بين المراحل الأكثر راهنية في التحليل اللساني وفي صيغة مقاربة اللغة المميزة للنظرية الرياضية في التواصل. وبما أن كلا الحقلين المعرفيين يهتمان، بطرق مختلفة ومستقلة فوق ذلك، بالمجال نفسه، أي بمجال التواصل اللفظي، فإن اتصالا وثيقا بينهما يتبدى موائما لهما معا. ولا يطول الشك أن هذا التعاون سيثمر تدريجيا في المستقبل.

إن التدفق المتواصل ماديا للغة المنطوقة قد جعل نظرية التواصل تجابه في البداية وضعا غاية في التعقيد بكيفية مثيرة، أكثر مما هو عليه الأمر بخصوص المجموعة المنتهية من العناصر المنفصلة التي تمثلها اللغة المكتوبة3. ومع ذلك، توصل التحليل اللساني إلى تفكيك الخطاب الشفوي إلى سلسلة منتهية من وحدات الخبر الأولية. وهذه الوحدات الدقيقة التي تسمى السمات التمييزية يتم تجميعها في شبكات متزامنة تدعى صويتات، وهي بدورها تتسلسل لتشكل متواليات. ومن ثم، يمتلك الشكل في اللغة بنية واضحة ظاهريا وقابلة لوصف كمي.

يتحدد الهدف الأول لنظرية الخبر، مثلما صاغه د.م.مكاي(*) مثلا، في "عزل عناصر التصور المجردة عن سياقاتها الخاصة. ويمكن أن تظل هذه العناصر قارة عبر صياغات جديدة"4.

واللسانيات المماثلة لهذا الأمر يمثلها البحث في الصواتة عن الثوابت العلائقية. وقد ميز مهندسو التواصل بين محتوى الخبر البنيوي والإيقاعي. وبذلك دشنوا إمكانيات مختلفة ومفتوحة لقياس كمية الخبر الصواتي. ويمكن لهذه الإمكانيات أن تمنح اللسانيات التزامنية والتاريخية، على حد سواء، مواد نفيسة ستكون لها أهمية خاصة في تصنيف الألسن من منظور صواتي صرف، كما من منظور التقاطع بين الصواتة والمستوى المعجمي-النحوي.

لقد اكتشفت اللسانيات بكيفية متزايدة وجود مبدإ بنائي في قاعدة مجموع نسق السمات التمييزية للغة. وقد عزز مهندسو التواصل هذا الاكتشاف عبر استخدام علامات ثنائية (binary digits ou bits) بصفتها وحدة قياس. وعندما يعرف المهندسون الخبر الانتقائي لرسالة بصفته الحد الأدنى من القرارات الثنائية التي تسمح للمستقبل بإعادة بناء ما يجب أن يعلمه من الرسالة على أساس معطيات يمتلكها مسبقا5، فإن هذه الصيغة الواقعية قابلة للتطبيق تماما على دور السمات التمييزية للتواصل اللفظي. وطالما بدأ التعرف على القوانين الكلية عن طريق دراسة الثوابت، وطالما تمت محاولة تصنيف السمات التمييزية على أساس هذه المبادئ، فقد طرح د.كابور(*) في محاضراته عن نظرية التواصل6 مسألة ترجمة المقاييس التي اقترحها اللسانيون إلى "لغة رياضية وأداتية".

وقد ظهرت مؤخرا دراسة مفيدة أنجزها ج.أنكوير وتقدم محاولة تأويل رياضي للسمات التمييزية في بنيتها الثنائية7.

إن مفهوم النفل الذي اقترضته نظرية التواصل من إحدى شعب اللسانيات، البلاغة، اكتسب موقعا هاما في تطور النظرية وأعيد تحديده بجرأة بصفته معادلا لـ"الاحتمال النسبي"(*)؛ وبهذه الصفة دخل إلى اللسانيات المعاصرة ليصير أحد موضوعاتها المركزية. وتستعلن الآن ضرورة التمييز الصريح بين مختلف أنماط النفل في نظرية التواصل وفي اللسانيات كذلك، حيث يضم النفل الوسائل الحشوية المتعارضة مع الإيجاز الصريح من جهة، ويضم من جهة أخرى التصريح الذي يتعارض مع الإضمار. وعلى الصعيد الصواتي، اعتاد اللسانيون التمييز بين السمات الصواتية التمييزية والمتغيرات السياقية أو العلائقية (allophones)، غير أن دراسة نظرية التواصل للقضايا ذات الارتباط الوثيق كالنفل والاحتمالات الشرطية والتوليدية، قد سمحت بإضاءة العلائق بين الطبقتين المركزيتين من النمط الصوتي: السمات التمييزية والسمات النافلة.

وإذا كان التحليل الصواتي يهدف إلى إقصاء النوافل بكيفية نسقية، فإنه يقدم بالضرورة حلا واضحا لا لبس فيه. والاعتقاد الوهمي عند بعض المنظرين القليل الورود في اللسانيات، والذي مقتضاه "أنه لم يبق أي مبرر للتمييز في السمات الصواتية بين السمات التمييزية والسمات النافلة8"، قد تم نقضه ظاهريا بمعطيات لسانية متعددة. فإذا كان الاختلاف في اللغة الروسية مثلا بين الصوائت الأمامية والصوائت الخلفية المطابقة يترافق دوما مع اختلاف الصوامت التي تسبق عن الصوامت التي تخرج قبل الصوائت الأمامية والتي لا تخرج قبل الصوائت الخلفية ومن جهة أخرى، إذا كان الاختلاف بين الصوائت المنطوقة وغير المنطوقة يوجد في مكان آخر غير المحيط الصائتي، فإن اللساني ملزم باستخلاص أن الاختلاف بين حضور وغياب الإخراج الصامتي في اللغة الروسية سمة تمييزية، في حين أن الاختلاف بين الصوائت الأمامية والصوائت الخلفية يبدو نفلا ببساطة. ودون أن تكون السمة التمييزية من جهة والنفل من جهة ثانية مصادرتين اعتباطيتين في منظور الباحث، فهما حاضرتان ومميزتان ضمن اللسان بكيفية موضوعية. والحكم المسبق الذي يعتبر السمات النافلة غير ملائمة والسمات التمييزية وحدها ملائمة آخذ في الاندثار من اللسانيات. ومرة أخرى، فإن نظرية التواصل، وبكيفية خاصة عندما درست الاحتمالات التحويلية، هي التي ساعدت اللسانيين على تجاوز النزوع إلى اعتبار السمات التمييزية ملائمة والسمات النافلة غير ملائمة.

ومن رأي د.م.مكاي أن الكلمة الجوهرية في نظرية التواصل هي مفهوم الممكنات المسبقة؛ وترى اللسانيات الرأي نفسه، ولم يوجد في المجالين معا أدنى شك في الدور الأساس الذي تضطلع به عمليات الانتقاء في الأنشطة اللفظية، ويوافق المهندس على أن مرسل ومستقبل الرسالة اللفظية يتقاسمان تقريبا نفس "نظام تصنيف" الممكنات المعدة سلفا، وتتحدث اللسانيات الصوسيرية بالطريقة نفسها عن اللسان الذي يتيح تبادل الكلام بين المتخاطبين. ومثل هذه المجموعة من الممكنات المتوقعة والمعدة سلفا9" تستتبع وجود شفرة، والأخيرة تدركها نظرية التواصل على أنها "تحويل متفق عليه بكيفية عادية وقابلة للقلب10"، وبواسطتها تنقل مجموعة معطاة من وحدات الخبر إلى متتالية من الصويتات والعكس صحيح.

تجعل الشفرة الدال ملائما للمدلول، والمدلول على مقاس الدال، واليوم، بفضل دراسة نظرية التواصل لقضايا التشفير، يمكن لثنائية صوسير أن تأخذ صيغة جديدة أكثر دقة، وهو ما يمنحها قيمة إجرائية جديدة؛ وبكيفية مقابلة، يمكن لنظرية التواصل أن تعثر في اللسانيات الحديث على معلومات غنية حول البنية المتراكبة والمظاهر المتعددة والمعقدة للشفرة اللسانية.

لقد سبق للسانيات في توجهاتها الكبرى أن وصفت بكيفية ملائمة بنية الشفرة اللسانية، لكن يحدث بكيفية متواترة جدا نسيان تعذر الحديث عن مجموعة منتهية من التصورات المقولبة إلا في حالة الرموز المعجمية ومكوناتها النحوية والصواتية وقواعد الربط النحوية والصواتية. وقطاع التواصل هذا هو وحده الذي يمكن تعريفه بصفته مجرد "نشاط لإعادة إنتاج التصورات"، ومن ناحية أخرى، يبقى ملائما التذكير بأن الشفرة لا تنحصر في ما يدعوه المهندسون "المحتوى الإدراكي الصرف للخطاب"؛ فالواقع أن التنضيد الأسلوبي لرموز معجمية تماما مثل التغيرات الحرة المزعومة، في تكوينها كما في قواعد ترابطها، "متوقعة ومهيأة" بالشفرة.

لقد لاحظ ش.س.بورس في برمجته علما مستقبليا للأدلة (الدلائليات) أن "الدليل-القانون Légisigne هو قانون في شكل دليل. وهذا القانون يضعه عادة الناس. وكل دليل اتفاقي هو دليل-قانون"11. إن الرموز اللسانية معطاة كمثال لافت للدليل-القانون؛ ذلك أن المتخاطبين المنتسبين إلى جماعة لسانية واحدة يمكن تحديدهم بصفتهم يستعملون فعليا شفرة واحدة ووحيدة تهم الأدلة نفسها-والشفرة المشتركة هي أداة التواصل فيما بينهم، والتي تؤسس فعليا وتتيح تبادل الرسائل، وهنا تحديدا يكمن الاختلاف بين اللسانيات والعلوم الفيزيائية، وهو الاختلاف الذي استتبع ظهور نظرية التواصل، وبكيفية خاصة المدرسة الإنجليزية التي ترسم حدا فاصلا واضحا بين نظرية التواصل ونظرية الخبر. ومع ذلك فإن هذا التمييز وإن بدا غريبا يهمله اللسانيون أحيانا. إن "المنبهات القادمة من الطبيعة"، مثلما لاحظ كولان شيري بحكمة "ليست صورا من الواقع، ولكنها وثائق نكون انطلاقا منها نماذجنا الشخصية"12. وفي الوقت الذي يبني فيه الفيزيائي بناءات نظرية مطبقا النسق الافتراضي لرموز جديدة على القرائن المستخلصة، يعيد اللساني من جهته التشفير فقط، ويترجم إلى رموز لغة واصفة الرموز الموجودة قبلا والمستعملة في لسان جماعة لسانية معطاة13.

إن مكونات الشفرة، مثل السمات التمييزية، حاضرة بكيفية حرفية وتشتغل واقعيا في التواصل الشفوي. وبالنسبة إلى المتلقي، كما بالنسبة إلى الباث –مثلما لاحظ ر.م.فانون- تشكل عملية الانتقاء أساس "عمليات نقل الخبر14". ولا يربط اللساني بكيفية اعتباطية بين مجموع الاختيارات الإيجابية أو السلبية الضمنية في كل شبكة من السمات: ذلك أن هذه الاختيارات ينجزها عمليا مستقبل الرسالة كلما كانت مقترحات السياق اللفظي أو غير اللفظي تجعل التعرف على السمات ملائما.

وعلى الصعيدين النحوي والصواتي يمكن للمستقبل أن يفك الشفرة، كما يمكن للمشفر، ممارسة الإضمار. ويمكن للمشفر بكيفية خاصة حذف بعض السمات بل مجموعات متزامنة أو متعاقبة من السمات. غير أن الإضمار نفسه محكوم بقوانين مشفرة. وليست اللغة متراصة أبدا. وتدرج الشفرة الشاملة جملة من الشفرات الفرعية. ومن ثم، تتطلب مجموعة من القضايا أن ينكب عليها المهندسون واللسانيون في وقت واحد، ومنها على سبيل المثال قواعد تحويل الشفرة المركزية في اختلافها عن الشفرات الفرعية المضمرة بدرجات مختلفة، تماما مثل قضايا مقاربة مختلف الشفرات من وجهة نظر كمية الخبر المنقولة. إن الشفرة القابلة للتحويل وتغيراتها من شفرة فرعية إلى أخرى وجميع التغيرات التي تطرأ عليها باستمرار تتطلب أن توصف بكيفية نسقية ومتواقتة من لدن اللسانيات ونظرية التواصل. وإن نظرة فاحصة للتزامن الدينامي للسان متضمنة للمعطيات المكانية والزمانية، يجب أن تحل محل النموذج التقليدي للأوصاف الاعتباطية المرتهنة في المظهر السكوني.

إن اللساني الواصف الذي يسيطر على اللسان الذي يلاحظه، يكون –أو يصير تدريجيا- شريكا ممكنا أو راهنا لتبادل الرسائل ضمن أعضاء الجماعة اللسانية؛ ويصير عضوا منفعلا، لا بل فاعلا، في هذه الجماعة. ويملك مهندس التواصل كامل الحق تماما للدفاع ضد بعض "فقهاء اللغة" عن الضرورة المهيمنة بكيفية مطلقة لـ"الإتيان بالملاحظ إلى الركح" ولاعتبار "الوصف التام جدا هو الوصف الذي ينجزه الملاحظ-المشارك"15 بحسب عبارة شيري. ومقابل متقاطرات المشارك، يسلك المتفرج المنفصل والخارجي سلوك المفكك الذي يتلقى رسائل غير موجهة إليه ولا يعرف شفرتها16. ويُجْبَر عبر تفكيك الرسائل على استخلاص الشفرة. وفي حدود الممكن، فإن هذا المستوى من البحث اللساني يجب ألا يشكل إلا مرحلة أولية، يلزم أن تخلي المكان بعد ذلك لمقاربة داخلية للسان المدروس، وذلك عبر تآلف الملاحظ مع المتكلمين الأصليين وعبر استشفار الرسائل في لسانها الأم مرورا عبر الشفرة.

وكلما طال أمد جهل الباحث بمدلولات لسان معطى، ولم يتوفر إلا على مدخل للدوال، فيلزم أن يستدعي كفاءاته التنقيبية وأن يستمد من المعطيات الخارجية الحد الأقصى من المعلومات التي يمكن أن توفرها له بخصوص بنية اللسان. ويقدم الوضع الراهن للإتروسكلوجيا مثالا جيدا عن هذه التقنية. لكن، إذ كان اللساني متآلفا مع الشفرة، أي إذا كان يسيطر على نسق التحولات الذي يُنْقَلُ عبر مجموعة من الدوال إلى مجموعة من المدلولات، فإنه يصير قادرا على الاضطلاع بدور شيرلوك هولمز، اللهم إذا لم يكن الباحث يرغب بدقة في تحديد المدى الذي يمكن فيه لهذا الإجراء الاصطناعي أن يقدم معطيات أكيدة. ومع ذلك، يصعب التظاهر بجعل شفرة أليفة: إذ إن الدلالات المتوارية تعود خلسة لإفساد مسار يطمح أن يكون تفكيكيا.

ويرى نيلزبور في "الطابع غير المنفصل للمحتوى الموضوعي وللذات الملاحظة" مقدمة منطقية لكل معرفة محددة جيدا17. وتنسحب هذه الملاحظة بكل بداهة على اللسانيات؛ إذ يجب أن يتطابق بكيفية دقيقة موقع الملاحظ مع اللسان الملاحظ والموصوف. وقبل كل شيء، مثلما لاحظ بوركين رويش، فإن الخبر الذي يمكن للملاحظ أن يجنيه، يخضع لموقعه داخل النسق أو خارجه18. وعلاوة على ذلك، إذا كان الملاحظ متموقعا داخل النسق، فمن الواجب أن يُفْهَمَ جيدا أن اللغة تتبدى في مظهرين مختلفين جدا تبعا لما إذا كنا في موقع الباث أم في موقع المتلقي، وتبعا لما إذا كانت اللغة قد نظر إليها من هذا الطرف أو ذاك من أطراف صلة التواصل. وإجمالا، فإن عملية التشفير تنطلق من المعنى إلى الصوت ومن المستوى المعجمي-النحوي إلى المستوى الصواتي، في حين تقدم عملية الاستشفار اتجاها معاكسا-من الصوت إلى المعنى ومن العناصر إلى الرموز. ولما كان التوجه نحو المكونات المباشرة يقع في المقام الأول لإنتاج الخطاب، فإن تلقي الرسالة عملية اتفاقية قبل كل شيء. ويعثر المظهر الاحتمالي للخطاب على تعبير ملحوظ في المسألة التي تطرحها الجناسات على المستمع، في حين لا يوجد جناس في منظور المتكلم. فعندما يقول /POR/ فإنه يعرف مقدما إن كان يقصد /PORC/ أم /PORT/، في حين أن المستمع ملزم بالخضوع للاحتمالات الشرطية التي يوفرها السياق19. وتقدم الرسالة في منظور المتلقي عددا من الالتباسات حيث لا يوجد أي غموض في منظور المرسل. ويمكن القول إن ما يميز لبس الشعر والتورية هو استثمار خصيصة التلقي هذه على صعيد بث الرسالة.

يوجد بلا ريب مفعول ارتجاعي بين النطق والسمع. غير أن تراتب هاتين العمليتين ينقلب عند العبور من المشفر إلى المستشفر. فهذان المظهران المتمايزان في اللغة لا يمكن اختزال أحدهما في الآخر، وهما معا جوهريان بكيفية متساوية. ويجب النظر إليهما بصفتهما متكاملين بالمعنى الذي يعطيه نيلز بور لهذا المصطلح. إن الاستقلالية النسبية لنموذج المتلقي تشخصها الأولوية الزمنية المنتشرة جدا لاكتساب اللغة السلبي عند الأطفال والراشدين على حد سواء. وقد قام مؤخرا بعض العلماء الشبان في روسيا بتحيين ملتمس ل.شيربا الذي وقع حصره وشيَّد نَحْوَيْن: أحدهما "فاعل" والآخر "منفعل". ويكتسي أهمية مساوية في منظور النظرية اللسانية وتعلم الألسن واللسانيات التطبيقية20.

وما يشكل في الواقع أمرا أقل خطورة من التواطؤات الاعتباطية التي تمارس بتواتر بين تحليلات تنكب على الإرسال وعلى الاستقبال، يقوم في تناول عالم اللغة هذا المظهر أو ذاك من مظاهر اللغة مثلما صنع السيد جوردان بالنثر. أي دون اعتبار ما إذا كانت ملاحظته تتعلق بالمصدر أم بالتلقي. وهذا ما يحدث مثلا في حالة النحو الفاعل الذي يدرس العمليات المولدة دون استحضار المعنى بالرغم من أولويته في منظور المشفر. وفي الوقت الراهن تأخذ اللسانيات من نظرية التواصل مقترحات ثمينة بكيفية خاصة لدراسة التلقي اللفظي الذي أهمل قليلا.

ويحذر د.م.مكاي من الخلط بين تبادل الرسائل اللفظية واستخلاص الخبر من العالم المادي، وهما أمران وقع توحيدهما بإفراط تحت شعار الـ"تواصل"؛ ومن رأي مكاي أن لهذه الكلمة إيحاء مركزي الشكل يشوش المسألة برمتها21. ويوجد خطر مماثل حين تأويل التواصل الإنساني المتبادل بمصطلحات الخبر المادي، والمحاولات التي نزعت إلى تشييد نموذج للغة دون أي ارتباط مع المتكلم والمستمع، والتي تؤقنم بالتالي شفرة مفصولة عن تواصل فعلي، توشك أن تختزل اللغة في تخييل مدرسي.

إلى جانب التشفير والاستشفار وعملية إعادة التشفير والانتقال من هذا الطرف إلى ذاك، وباختصار المظاهر المتنوعة للترجمة، بدأت بكيفية جادة في إثارة اهتمامات اللسانيين ومنظري التواصل في الولايات المتحدة كما في أوروبا الغربية والشرقية. فمنذ مدة قصيرة فقط بدأت بعض المسائل تثير اهتمام اللسانيين22، مثل المسائل العجيبة جدا المرتبطة بصيغ ودرجات الفهم المتبادل بين ذوات تتكلم بعض الألسن المتقاربة بكيفية وثيقة مثل اللسان الدنمركي والنرويجي والسويدي؛ ويعد اللسانيون بإلقاء الأضواء على الظاهرة المعروفة في نظرية التواصل تحت اسم "التشويش الدلالي" وعلى المسألة الهامة نظريا وتربويا أي مسألة المناهج الموجهة إلى تجاوز هذا التشويش.

ونعرف أنه منذ مدة حاولت اللسانيات ونظرية التواصل دراسة كل اعتبار مرتبط بالمعنى بصفته نوعا من التشويش الدلالي وإقصاء علم الدلالة من دراسة الرسائل اللفظية. ومع ذلك، يشهد اللسانيون اليوم على نزوع نحو إعادة إدماج الدلالة عبر استعمال التجربة المفيدة جدا التي قدمها هذا التأخر الزمني. ويمكن ملاحظة تيار مماثل في نظرية التواصل. ومن رأي ويفر أن تحليل التواصل "قد اكتسح المجال لدرجة أصبح معها الآن الطريق سالكا، ربما لأول مرة، نحو نظرية واقعية حول المعنى" وبكيفية خاصة "نحو دراسة أحد المظاهر الأكثر أهمية والأكثر صعوبة في قضية المعنى، أي تأثير السياق"23. ويكتشف اللسانيون تدريجيا كيف يدرسون مسائل المعنى، وبصفة خاصة مسألة العلاقة بين الدلالة العامة والدلالة السياقية باعتبارها موضوعة لسانية بكيفية محايثة ومتميزة بوضوح عن القضايا الأنطولوجية لدلالة المطابقة.

ويمكن لنظرية التواصل التي تملكت الآن مجال الخبر الصوتي أن تضطلع بمهمة قياس كمية الخبر النحوي طالما أن نسق المقولات النحوية، والمقولات الصرفية خاصة، مؤسس بكيفية أكيدة على درجة تعارضات ثنائية. هكذا توجد مثلا تسعة اختيارات ثنائية في قاعدة ما يفوق مائة شكل مصرف بين البسيط والمركب لفعل إنجليزي معطى، مرتبط على سبيل المثال بضمير الشخص(I)، (Je)، (أنا)24. ويمكن بعد ذلك مجابهة كمية الخبر النحوي التي يهيكلها الفعل الإنجليزي مع معطيات مطابقة مرتبطة بالاسم في الإنجليزية، أو بالفعل والاسم في مختلف الألسن: ذلك أن العلاقة بين الخبر الصرفي والخبر التركيبي في الإنجليزية يجب مقارنتها مع العلاقة المعادلة لها في ألسن أخرى، وتقدم جميع هذه المعطيات المقارنة مادة هامة ستكون مفيدة في تشييد صنافة للألسن، وفي البحث عن القوانين اللسانية الكلية.

ويبقى مطلوبا كذلك مجابهة كمية الخبر النحوي المتضمنة بكيفية كامنة في مقاطع لغة معطاة (الدراسة السكونية للشفرة) مع كمية الخبر المشابهة في أفعال الكلام(*). وفي الاتفاقيات الفعلية لمختلف الأشكال النحوية داخل متن معين من الرسائل، أما ادعاء الجهل بهذه الثنائية وحصر التحليل في الإحصاء اللساني للشفرة فقط أو للمتن وحده، فيعني إفقار البحث، إذ ما العلاقة بين مكونات الشفرة اللفظية وتواترها النسبي في الشفرة وفي استعمال هذه الشفرة؟ والسؤال هذا ملح ولا يمكن المرور عليه مر الكرام.

إن التعريف الدلائلي لمعنى رمز بصفته ترجمة إلى رموز أخرى يعثر على تطبيق فعال في الفحص اللساني للترجمة داخل لغة واحدة أو من لغة إلى أخرى؛ وبدراسة الخبر على هذا النحو نصادف مقترح شانون لتعريف الخبر بصفته "ما يبقى ثابتا عبر جميع عمليات التشفير والترجمة، وإجمالا بصفته طبقة تعادلات جميع هذه الترجمات25".

وفي دراسة الدلالات النحوية أو المعجمية يلزم السهر بكيفية حريصة على عدم استعمال المفاهيم القطبية للانتظام والانحراف استعمالا فاسدا. وذلك لأننا نخطئ غالبا البنية المتراكبة والمتراتبة للغة ونلجأ إلى فكرة الانحراف. ومع ذلك، فالعنصر الثانوي هو شيء آخر أكثر مما هو عنصر منحرف. وليس هنا ما يبرر اعتبار الاشتقاق التركيبي قياسا على الوظيفة الأولية انحرافا عند كوريلوفيش26 أو تحويلات متعارضة مع الأنوية كما عند شومسكي27 أو دلالات هامشية (منقولة) مقابل الدلالة المركزية عند ليونارد بلومفييلد28. ولا تمثل الإبداعات المجازية انحرافات؛ إنها أساليب منتظمة ومنحدرة من بعض التنويعات الأسلوبية التي هي شفرات فرعية للشفرة الكلية؛ وعندما يسند مارفيل داخل شفرة فرعية من هذا النوع نعتا ملموسا لاسم مجرد نحو: A green thought in a green shade [= فكرة خضراء في ظل أخضر] – وعندما ينقل شكسبير بكيفية مجازية اسما جامدا إلى فئة مؤنثة: The morning opens her golden gates [= الصباح تفتح أبوابها الذهبية]، أو عندما يستعمل طوماس ديلان –مثلما لاحظت مداخلة بوتنام Putnam- استعمالا كنائيا لفظة douleur [=ألم ] محل عبارة moment douloureux  [= لحظة أليمة]، فمن الواجب اعتبار جميع هذه العبارات منتظمة لا منحرفة. وعلى النقيض من البناءات النحوية من نمط Les filles dort، فإن العبارات المستشهد بها تتوفر على معنى، وكل جملة لها معنى يمكن إخضاعها لامتحان الحقيقة تماما مثلما أن التوكيد الآتي Pierre est un vieux renard يمكنه أن يستدعي الجواب التالي:

Ce n'est pas vrai, Pierre n'est pas un renard mais un cochon, c’est Jean qui est un renard.

ويمكن القول في هذا السياق إن الإضمار والفصل والتغيير المفاجئ في العبارة لا يمكن أن تعتبر بنيات غير منتظمة، وتماما مثل الأسلوب المتراخي، فإن الشفرة الفرعية التي تنتمي إليها ليست شيئا آخر إلا مشتقات منتظمة لأشكال مركزية متضمنة في النموذج الواضح المألوف. وفوق ذلك، فإن هذا التغير في الشفرة الذي يتيح فهم السبب الذي يجعل نموذجا مألوفا لا يتحقق في بعض السلوكات الصريحة قد تم تجاهله من لدن اللسانيين كما من قبل المهندسين الأقل انشغالا بالأحكام المسبقة.

وإجمالا، توجد جملة قضايا تتطلب التعاون بين المجالين المتميزين والمستقلين المعنيين بالأمر هنا. وقد تبدت سعيدة المراحل التي تم اجتيازها في هذا السبيل. وأحب أن أختم باستدعاء ما يشكل دون ريب أقدم مثال وربما أفضل مثال على التعاون بين اللسانيات، وخاصة دراسة اللغة الشعرية من جهة، والتحليل الرياضي للعمليات الاتفاقية من جهة أخرى. وتدين مدرسة الإيقاع الروسية بجزء كبير من شهرتها العالمية إلى أنها أنجزت منذ أربعين سنة –على يد باحثين أمثال توماشفسكي- جملة أبحاث تصب في آن واحد في الرياضيات وفقه اللغة وتستثمر سلاسل ماركوف لدراسة البيت الشعري دراسة إحصائية؛ وهذه الدراسات متممة بتحويل لساني لبنية البيت أعطت في مستهل العشرينيات نظرية للبيت الشعري قائمة على حساب الاحتمالات الشرطية والتوترات بين الاستباقات والمفاجآت التي اعتبرت قيما إيقاعية قابلة للقياس؛ إن حساب هذه التوترات التي دعوناها: "الانتظارات الخائبة" قد أعطى إشارات مذهلة لتشييد الدراسة الإيقاعية الوصفية والتاريخية والمقارنة والعامة على أساس علمي"29.

وإنني مقتنع أن المناهج التي تم تطويرها راهنا في اللسانيات البنيانية ونظرية التواصل والتي طبقت في تحليل البيت الشعري وفي ساحات أخرى من ساحات اللغة ستفتح آفاقا رحبة لتعاون لاحق بين جهود هذين الحقلين المعرفيين. ونتمنى ألا يكون انتظارنا خائبا30.

 

 



[i] - Publié en Anglais dans les « Proceedings of symposia in Applied Mathematics », Vol.XII, Structure of language and its Mathematical Aspect, Américan Mathematical Society, 1961, p245-252, et publié en Français dans Essais de Linguistique générale, Paris, Ed.Minuit, T.I, 1963, p87-99.

(*) بخصوص رومان ياكبسن ومساهماته الغنية والمتنوعة، انظر: إلمار هولنشتاين، ياكبسن أو البنيوية الظاهراتية، ترجمة عبد الجليل الأزدي، مراكش، تانسيفت، ط.1، 1999.

 (*)Norbert Wiener.

2 - Journal of the Acoustical society of América (J.A.S.A), vol. 22 (1950), p697.

3 - C.E.Shannon et W.Weaver, The Mathematical theory of communication, Urbana, 1949, p74 SV., 112 sv.

 (*) D.M.Mackay.

4  - Cybernetics : Transaction of the Eighth conference, New York, 1952, p224.

5  - Communication theory, Ed.by W.Jackson, New York, 1953, p2.

(*)  D.Gabor.

6  - Lectures in communication theory, M.I.T., Cambridge, Mars, 1951, p82.

7  - Studia Linguistica, Vol.13, 1959, p69-97.

(*)  C.F.(entropie), dans Jean Dubois et alii, Dictionnaire de linguistique, 1973, p193.

8  - Word, Vol.13, 1957, p328.

9  - Cybernetics : Transactions of the Eighth coference, New York, 1952, p183.

10  - C.Cherry, On Human Communication, New York – Londres, 1957, p7.

11 - Collected Papers, vol.2, Cambredge, Mass, 1932, p142 sv.

12 - Op.cit., p62, C.F. W.Meyer-Eppler, Grundlagen und an wendungen der Informations Theorie, Berlin – Gottingen – Heidelberg, 1959, p250 sv.

13 - NDT : Jakobson se réfère ici à la classification, faite par Pierce, des signes en indices, icônes et symboles.

14 - The transmission of Information, M.I.T. Research Laboratory of Electronics, Technical report, n°65, 1949, p3 sv.

15  - For Roman Jakobson, LaHaye, 1956, p61 sv.

16  - R.Jakobson et Morris Halle, Fundamentals of Language, LaHaye, 1956, p17-19.

17  - Atomic Physics and Human knowledge, New york, 1958, p30.

18  - To word a Unified theory of Human Behavior, ed. by Greinker, New York, 1956, p54.

19  - R.Jakobson, (A new outline of Russian phonology), in International Journal of Slavic linguistics and Poétics, vol. 1-2, 1959, p286.

20  - Voir I.Revzin, Tezisy Konférencii po mashinnomu perevodu, Moscou, Gos.Ped.Inst., Inostranyx Jazykov, 1958, p23-25.

21  - Cybernetics : Transactions of the Ehghth conference, New York, 1952, p221.

22  - Voir, en particulier, E.Haugen., N.T.S.V.,  vol.29, 1953, p225-240.

23  - Shannon et Weaver, op.cit., p116. CF. Mackay, (the place of meaning in the theory of communication), Information theory, ed. by C.Cherry, New York, 1956.

24  - 1. Prétérit (opposé à non prétérit), 2. Parfait, 3. Progressif, 4. Expectif, 5. Détermine moralement, 6. Contingent, 7. Potentiel, 8. Assertorique, 9. Passif. CF. W.F.TWADDEL, The English verb auxiliaire, Providence, 1960.

(*) فعل الكلام Speech-act: يطلق على الحديث الذي يحققه متكلم محدد في مقام معين تحقيقا فعليا.

25  - Cybernetics : Transactions of the Seventh conference, New York, 1951, p157.

26  - Bulletin de la société de linguistique de Paris, n°110, 1936, p79-92.

27  - Syntactic structures, LaHaye, 1957.

28  - Language, New York, 1933, p149.

29  - C.F.Boris Tomachevski, Ostixe, Leningrad, 1929, R.Jakobson, Ocesskom stixe, Berlin-Moscou, 1923, et (linguistique et poétique), dans Essais de linguistique générale, ch.XI, p225-227.

30  - J’aimerais dédier cet article à la mémoire de mon père, l’ingénieur O.A.JAKOBSON.