ص1       الفهرس 91-100 

من سلطة الكاتب إلى حرية القارئ

 

عمراني المصطفى

إن الحديث عن الدراسات الأدبية يقتضي الحديث عن مجالين أو طرفين متلازمين ضمن الممارسة الإنسانية: طرفها الأول يتمظهر عبر الإبداع الأدبي، بما هو فضاء فني متعدد الأبعاد، ونسيج من الوظائف اللغوية والدلالية، يحددها النسق الاجتماعي، وتنسجها الذات المبدعة بخيوط رمزية وإيحائية، وهذا ما يدعو حتما إلى استدعاء طرفها الآخر، الممثل في الممارسة النقدية، باعتبارها منظومة معرفية تتغيى استكمال أسرار العمل الأدبي والكشف عن آلياته وسبر أغواره، مادام "النص يبقى من دون نقده ناقصا وغير مكتمل [… كما أن ] النقد لا يستطيع أن يعي النص إلا انطلاقا منه من جهة، وربطا له بالحقل العلمي-الثقافي الذي ينشأ النص فيه تاريخيا، من جهة ثانية. لذلك يبقى النص غير مكتمل إلا بشكل نسبي، ويبقى النقد يحمل طموح الوصول إلى علم الأدب دون أن يستطيع التحرر من كونه تأويلا".

وإذا كان ما يسم النص الإبداعي عموما هو طابعه الزئبقي، الذي يجعله نصا متعديا إلى قراءات متجددة ومتعددة تعدد قرائه، فإن الحاجة تبدو ماسة وملحة لترشيد القراءة وتسديد خطواتها علميا وعمليا، وذلك من خلال الاستعانة بمناهج التحليل والقراءة، والاعتماد على إمكاناتها ووسائلها، حتى لا تخبط القراءة في متاه الذاتية والانطباعية.

ولعل هذا الإدراك العميق بأهمية المناهج هو بالفعل ما أثرى الخطاب النقدي، من خلال توسله بهذا الفسيفساء من المناهج التي تغمره، والتي تشكل بحق بؤرة كل تحليل، وكل مقاربة للعمل الأدبي من زاوية معينة، ووفق رؤية فلسفية تؤطرها.

ويمكن تحديد هذا النوع الذي تعرفه المناهج النقدية، تمشيا مع التقسيم الرباعي الذي وضعه غاسطون باشلار  Gaston Bachelard (الأرض، الماء، الهواء، النار)، إلى عناصر أربعة:

ـ مناهج "نقد المؤلف (أو الكاتب).

ـ مناهج "النقد المرجعي (أو السياق)".

ـ مناهج "النقد المرجعي (أو السياق)".

ـ مناهج "النقد النصي".

ـ مناهج "نقد المتلقي" (أو القارئ).

و"لعل العزف على هذه الأطراف الأربعة، ومن منظورات متباينة، من شأنه أن يساهم في دعم هذا التعدد، ويدفع إلى ثراء الحقل النقدي الحديث، وتضخيم أدائه [لتتوسع ] بذلك إمبريالية النقد، [ويزداد] سلطانه".

وتجدر الإشارة إلى أن هذه العناصر الأربعة لم تكتمل بهذه الصورة، وإن كانت حاضرة في السابق بشكل ضمني، إلا في الآونة الأخيرة مع بروز قطب القارئ، في إطار "جمالية التلقي" (Esthétique de la réception)، بحيث أن النقد الأدبي عمد في كل مرة -ووفق شروط موضوعية أملتها الظرفية التاريخية- إلى تجديد أدائه منهجيا ومعرفيا، إلى أن اكتملت أطراف المسرحية -حسب تعبير جان ستاروبنسكي Jean Starobinski.

فكيف انبثقت هذه المناهج النقدية؟

أ - سلطة الكاتب وهيمنة السياق:

من المعلوم أن المناهج النقدية كانت في مرحلتها الأولى منصبة أساسا على عنصر المؤلف، لما له من أهمية قصوى في تفسير العمل الأدبي، لأن "أوضح أسباب وجود العمل الفني وجود صانعه: المؤلف، لذلك كان إيضاح العمل من خلال شخصية الكاتب وحياته من أقدم مناهج الدراسة الأدبية وأحسنها تأسيسا".

وهكذا شكل قطب المؤلف نقطة تقاطع مجموعة من الدراسات النقدية الممثلة في المناهج التاريخية والنفسية والاجتماعية، المنبثقة أساسا من روح الفلسفة الوضعية والفرويدية والماركسية.

فتفاعلا مع هذا المسعى البيوغرافي -وتقاطعا مع قطب المرجع أو السياق- تنظر هذه الدراسات النقدية إلى النص الأدبي بما هو "مرآة" تعكس السياق التاريخي العام، أو السياق اللاشعوري الخاص الذي أفرزه، بحيث تحتشد في الدراسات النقدية إفادات متنوعة عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية والنفسية، يستحيل معها النص إلى مجرد وثيقة، والناقد إلى مؤرخ وعالم اجتماع وعالم نفس، إلخ".

ففي إطار المنهج التاريخي، وانسجاما مع الفلسفة الوضعية التي تحاول تحرير النقد من آثار الميتافيزيقا، حاول كل من سانت بوف Saint Beuve وهيبولت تين Hippolite Taine وبرونيتير Breuneutière ولانسون Lanson وضع مناهج "تتجه بشكل عام نحو تحليل الظواهر الأدبية تحليلا جزئيا، ينظر الباحث في الأجزاء وفي ما بينها من علاقات للوصول إلى العوامل الكلية التي تحكم الظاهرة الأدبية".

أما التحليل النفسي كما يتصوره سيغموند فرويد Sigmond Freud، فإنه يتغيى بالأساس تحليل الظاهرة الأدبية من خلال علاقتها بالعقد النفسية للمؤلف، حيث "إن صورة الأدب التي يمكن أن نلفيها في الثقافة المتداولة تتمركز أساسا، حول المؤلف وشخصه وتاريخه وأذواقه وأهوائه، ومازال النقد يردد، في معظم الأحوال، بأن أعمال بودلير، وليدة فشل الإنسان بودلير، وأن أعمال فان غوغ وليدة جنونه، وأعمال تشايكوفسكي وليدة نقائصه: وهكذا يبحث عن تفسير للعمل جهة من أنتجه، كما لو أن وراء ما يرمز إليه الوهم بشفافية متفاوتة، صوت شخص وحيد بعينه هو المؤلف الذي يبوح بـ"أسراره".

وإذا كانت المقاربة السيكولوجية تنطلق في تفسيرها للعمل الأدبي من الأوضاع النفسية للكتاب، فإن المقاربة السوسيولوجية تعمد هي الأخرى إلى المعطى الخارجي، ولكن من منظور يتجاوز الفردية ليعانق الطبقة أو الإطار الاجتماعي العام.

بناء على ما سبق، يتضح أن المناهج السابقة، تمشيا مع احتفائها بسلطة المؤلف وهيمنة السياق تقوم بتفسير وإيضاح العمل الأدبي وفق شروط خارجة عن فلكه. وهي إذ تقوم بتكريس هذه النظرة، فإنها بذلك تلغي المعطيات الجوهرية التي تشكل الإبداع الأدبي. وهو ما تم تداركه في ما بعد من قبل المناهج المرتكزة على النقد النصي Critique textuelle بتنويعاته المتعددة (اللسانية والبنيوية والأسلوبية والسيميائية…)، وذلك بفضل القطيعة المنهجية التي أحدثتها إثر إعلانها "موت المؤلف".

ب - سلطة النص ولعبة الكتابة:

إن إعلان "موت المؤلف" هو الذي مكن من "تحرر الفكر النقدي من سطوة المتكلم"، وبالتالي الولوج إلى "مسرح الكلام، والذي نعنيه على وجه التدقيق هو انعتاق النقد من مرجعية "المتكلم بالأدب" إلى مرجعية الكلام الأدبي نفسه، وهو الإعلان عن تحول وجهة النظر من الناطق بالنص إلى النص بذاته، أو قل من ناسج القول إلى نسيج القول".

ولذلك سيكون من المهام المنوطة على النقد النصي "مقاربة النص الأدبي بما هو بنية مغلقة ومكتفية بذاتها، لا تحيل على وقائع مجاوزة للغة قد تتصل بالذات المنتجة أو بسياق الإنتاج، بل تحيل على اشتغالها الداخلي فقط، مكرسا بذلك فيتشية النص ولا شيء سواه".

وتعتبر الشكلانية الروسية واحدة من أهم المحطات التي أرست دعائم هذا الاتجاه، وفق تصور جديد، يعيد النظر في المسملمات التي تبنتها "المناهج التقليدية"، وهو ما حدا بأحد روادها (جاكبسون) إلى تحديد مجال اشتغالها بقوله: "إن موضوع العلم الأدبي ليس هو الأدب وإنما الأدبية، أي ما يجعل من عمل ما عملا أدبيا… وهكذا فإن مؤرخي الأدب يأخذون أطرافا من كل شيء، من الحياة الشخصية، من علم النفس، من السياسة، من الفلسفة. إنهم يركبون جمعا من الأبحاث التقليدية بدلا من علم أدبي كما لو كانوا ينسون أن كل موضوع من الموضوعات المذكورة إنما ينتمي بالضرورة إلى علم معين… وأن هذه الموضوعات يمكن لها بالطبع أن تستعمل الوقائع الأدبية كوقائع ناقصة ومن الدرجة الثانية". كما يستطرد نفس الباحث من خلال عبارة استعارها من ملارميه Mallarmé: "الزهرة الشعرية هي تلك التي لا توجد في أية باقة".

أما المبدأ الثاني الذي دافع عنه الشكلانيون الروس، فيتعلق أساسا بإعادة الاعتبار لمفهوم الشكل، الذي تم إقصاؤه في الدراسات التقليدية. وهذا ما أكده تينيانوف Tynianov بقوله: "مهمة التاريخ الأدبي… هي بالتحديد، الكشف عن الشكل".

وقد نحت البنيوية منحى الشكلانية الروسية، فأعلنت باسم رائدها رولان بارت Roland Barthes "موت المؤلف"، حيث أصبح النص متحررا من كل سلطة قبلية أو قيود آسرة مستهدفة. لذلك فإن "نسبة النص إلى مؤلف معناها إيقاف النص وحصره وإعطاؤه مدلولا نهائيا. إنها إغلاق الكتابة". وفي موضع آخر يؤكد بارت أن "الكتابة قضاء على كل صوت، وعلى كل أصل، الكتابة هي هذا الحياد، هذا التأليف واللف الذي تتيه فيه ذاتيتنا الفاعلة. إنها السواد-البياض الذي تضيع فيه كل هوية، ابتداء من هوية الجسد الذي يكتب".

أما مشروع السيميولوجيا، فإنه جاء كإضافة جديدة ومكملة للأشواط التي قطعتها "المناهج الجديدة" (اللسانيات، البنيوية، الأسلوبية…) من حيث ارتكازها (السيميولوجيا) على النص، ليس في نسقه المغلق، ولكن في بعده الانفتاحي. "فقد بدأ الجميع ينظر إلى أن النص غير منجز ما دامت قراءاته متواصلة، بل إنه في دلالاته يتضاعف مثل المتوالية الرياضية، تبعا لتعدد القراءات".

إذا كانت اتجاهات "النقد النصي" (الشكلانية، البنيوية، السيميائية…) قد أعلنت من سلطة النص على حساب فيتيشية المؤلف والمرجع، فإن الأشواط الأخيرة التي قطعتها وصلت بها إلى تخوم "مملكة القارئ" دون أن تتمكن من احتلالها: فعبر مجهودات جان موكاروفسكي، وفيليكس فوديكا (الشكلانية الروسية) وطروحات بارت ما بعد البنيوية، وأسلوبية ريفاتير، وسيميوطيقا إيكو… تتعالى أصوات تنذر بحدوث تغيرات وتحولات في التناول النقدي للظاهرة الأدبية، إلا أنها رغم ذلك تبقى أصواتا خجولة، مادام عنصر النص لا يزال يحتل صدارة التحليل في دراساتها وأبحاثها.

ج - نحو تحرير القارئ:

يعتبر المتلقي أو القارئ ذلك العنصر الغائب أو المهمش في المنظور النقدي الغربي، إلى أن برزت "مدرسة كونستانس" (Ecole de Constance) من خلال أعمال رائديها المشهورين هانز روبير ياوس (Hans Robert Jauss) وفولفجانج إيزر (Wolfgang Izer) اللذين أتاحا للقارئ فرصة تحريره من سطوة صوت الكاتب وفيتيشية النص، وفرصة تحرير القراءة من أسر انقيادها بالمعنى النهائي والقصدي، نحو معانقة آفاق مفتوحة على تعددية المعاني المحتملة واللانهائية. ولهذا كان إعلان "ميلاد القارئ" في حضن هذه المدرسة (كونستانس) مؤشرا صريحا على تحول مسار الممارسة النقدية على نحو ما أشار إلى ذلك "خوسيه ماريا بوثويلو" قائلا: "… وأنا أعتقد أن نصفي قرننا الحالي يتفقان في حدوث تغيير مزدوج للنموذج: فالتغيير الأول كان بمثابة "إحلال شعرية الرسالة أو النص" محل "شعرية المرسل أو المؤلف"؛ والتغيير الثاني شهد المواجهة بين "شعرية الرسالة" و"شعرية الاستقبال" [ التلقي ]".

ويدعم هانز روبير ياوس هذا التصور، في مقال له بعنوان "التغير في نموذج الثقافة الأدبية" مؤكدا بأن جمالية التلقي تشكل قفزة نوعية، وإنجازا متميزا مقارنة مع النماذج السابقة (النموذج الإنساني الكلاسيكي، نموذج الوضعية، نموذج الشكلانية الجمالية). ويكمن هذا الإنجاز المتميز للنموذج الجديد (جمالية التلقي) في "القدرة على انتزاع الأعمال الفنية من الماضي عن طريق التفسيرات الجديدة، وترجمتها إلى حاضر جديد، وجعل التجارب المختزنة في الماضي سهلة المنال مرة أخرى، أو -بعبارة أخرى- طرح أسئلة يعاد طرحها على يد كل جيل، ويكون فن الماضي قادرا على الحوار معها، وعلى أن يقدم إلينا الإجابات عنها".

إلا أن الجديد الذي ميز جمالية التلقي (Esthétique de la réception) بوصفها نموذجا جديدا في الممارسة النقدية لا يتمثل فقط في عقد الصلة بين الموروث الماضي والحاضر الراهن، وإنما أيضا في إيلاء الأهمية للمتلقي (القارئ، أو المشاهد، أو السامع) كطرف أساسي في العملية الإبداعية والنقدية. لكن اللافت للنظر، أن هذه المكانة التي حازها المتلقي لم تكن من وحي مدرسة كونستانس (التي احتضنت النموذج الجديد)، بل سبقتها آراء نقدية، لعل أقدمها تصور أرسطو حول علاقة المشاهد/المتلقي بالمسرح، وفق مفهوم "التطهير" (Catharsis)، إلى درجة أن بارت يرى أن "أرسطو كان يؤسس جمالية معينة للجمهور". كما لا نغفل في هذا المجال، أسلوب "التغريب" الذي وضعه برتولد بريخت (Bertold Brecht) كمقابل لمفهوم "التطهير" الذي سنه أرسطو "الذي يحول متلقي العرض المسرحي من موقف التأييد القائم على التماهي إلى موقف النقد".

ومن الذين اهتموا بعنصر المتلقي، تستوقفنا أعمال كل من رومان جاكبسون (خاصة في الخطاطة التي وضعها للوظائف التواصلية) ورولان بارت (حول "العلاقة الإيروسية" المقامة بين القارئ والنص)؛ كما تستوقفنا آراء جاك دريدا التفكيكية، وأعمال روبير اسكاربيت وجاك لينهارت في إطار سوسيولوجية الجمهورية والقراءة وأفكار ميكائيل ريفاتير (أسلوبية القراءة) وميشال شارل (بلاغة القراءة) وأمبرتو إيكو في إطار سيميولوجية القراءة… إلخ.

هذه إذن هي أهم المحطات النقدية التي استأثرت بالدعوة إلى الاهتمام بالقارئ كمحفل أساسي في الممارسة النقدية، إلى أنها رغم ذلك تبقى محاولات محتشمة، ما دامت لم تطرحه كبديل منهجي. ومن هنا يبقى لجمالية التلقي الفضل الأكبر في محاولة رد الاعتبار للمتلقي كطرف أساسي ومشارك في العملية الإبداعية. وهذا ما أشار إليه أحد الباحثين بقوله: "قد يبدو أن ما قامت به مدرسة كونستانس من خلال ممثليها المشهورين هانس روبير ياوس، وفولفجانج إيزر هو أنها قد أعادت بناء تصور جديد لمفهوم العملية الإبداعية من حيث تكونها عبر الزمن-التاريخ وطرق اشتغال القراءة ودور القارئ في إنتاج هذه العملية أو النص. إن هذه الفرضية بما تحمله من جمالية التلقي التي تتكون عبر صيرورة تاريخية أو عبر صيرورة القراءة ذاتها، هي التي ستعطي لهذه النظرية ميزتها وجدتها وبعدها الخاص". وهذا ما جعلها بحق تطرح نفسها كبديل منهجي وكمنعطف جديد نحو تأسيس أفق مغاير في مجال التأويل ضمن الممارسة النقدية، الشيء الذي جعل المهتمين يصفونها بعدة أوصاف:

"فقيل مرة إنها ثورة في تاريخ الأدب الحديث، وأخرى بأنها وضعت نمط استبدال جديد وحولت مجرى الدراسات الأدبية والنقدية شأن ما قام به الشكلانيون الروس في بدايات القرن العشرين، أو ما قامت به مدرسة براغ، أو ما جاء به دوسوسير أو تشومسكي، وغيرهما من الأسماء المعروفة في تاريخ علم الأدب الحديث واللسانيات والسيميائيات والأنثروبولوجيا..".

إلا أن ما يجعل لجمالية التلقي خصوصية، كإبدال (Paradigme) معرفي مغاير، هو اعترافها -رغم التراكم النظري الذي حققته- بالطابع الجزئي لنظريتها في الإحاطة الشاملة بالنص الأدبي: "فبخلاف المناهج التي تظل رغما عنها جزئية مع ادعائها للشمولية، فإن جمالية التلقي وهي تسعى إلى الشمول تصرح بأنها -جزئية- إنها لا ترغب في أن تكون مكتفية بذاتها مستقلة عن غيرها، لا تعتمد إلا على نفسها في حل مشاكلها". وهذا ما جعلها، حتى وهي تضع القارئ محور اهتمامها، لا تقر -على غرار سلطة الكاتب والنص- بفيتيشية أخرى "تتعلق هذه المرة بـ"القارئ"؟[…] ما دام أن مدار الاهتمام ليس هو القارئ كذات متلقية مستقلة عن محافل الظاهرة الأدبية الأخرى، بل كسيرورة تلق مرتبطة بالنص خاصة ومنفعلة به". ذلك أن العمل الأدبي في منظور جمالية التلقي يمتلك قطبين أساسيين: القطب الفني، والقطب الجمالي. الأول يشكل نتاج الممارسة الإبداعية لدى المؤلف، والثاني يشير إلى التحققات (Concrétisations) المرصودة من قبل القارئ: "إن موقع الأثر الأدبي إذن هو حيث يلتقي النص والقارئ. وإن له، بالضرورة طابعا افتراضيا بالنظر لعدم إمكان تقليصه لا في حقيقة النص ولا في القابليات الذاتية للقارئ".

هكذا إذن يتبين أن العمل الأدبي هو نتاج العلاقة التفاعلية بين النص والقارئ. وهذا بالفعل ما أغفلته المناهج النقدية السابقة: فالماركسية إما تتجاهل القارئ نهائيا أو تنظر إليه نظرتها إلى المؤلف حين تبحث في وضعه الاجتماعي؛ أما الشكلانية، فهي لا تهتم بالقارئ إلا في حدود كونه ذاتا تدرك البنية الشكلية للعمل الأدبي". ومن ثم تصبح المهمة المنوطة بتاريخ جديد للأب [ في تقدير ياوس ] هي المزج بصورة ناجحة بين أفضل مزايا الماركسية والشكلانية. ويمكن تحقيق هذا عن طريق الوفاء بالمطلب الماركسي في الوسائط التاريخية، مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بما أحرزه الشكلانيون من تقدم في مجال الإدراك الجمالي".

تأسيسا على هذا، تقترح جمالية التلقي إخراج الأدب من حلقة جمالية الإنتاج والتصوير المغلقة، لتعانق آفاقا أرحب من زاوية التلقي. وهي إذ تقوم بذلك، تحرر القارئ من القيود التي فرضت عليه في زمن تسلط الكاتب والنص. "ذلك أن الأدب والفن لا يصير صيرورة تاريخية ملموسة إلا بواسطة تجربة أولئك الذين يتلقون المؤلفات ويتمتعون بها، ويقومونها ومن ثم يعترفون بها أو يرفضونها، يختارونها أو يهملونها، فيبنون تبعا لذلك تقاليد، بل إنهم يستطيعون بصفة خاصة أن ينهضوا من جهتهم بالدور النشيط المتمثل في الاستجابة لتقليد ما، وذلك بإنتاج مؤلفات جديدة".

وبالرغم مما يبدو على جمالية التلقي من انسجام على مستوى المنحى الذي رسمته لنفسها، فإن ذلك لا يمنع من الحديث عن شقين مختلفين ومتكاملين في الآن نفسه: يتعلق الأول، بالاتجاه الذي سنه هانز روبير ياوس من خلال إعادة النظر في التاريخ الأدبي من زاوية المتلقي، وذلك في ضوء مفاهيم أساسية كمفهوم "أفق الانتظار" (Horizon d’attente)، الذي يشكل أداة أساسية لقياس "المسافة الجمالية" (Distance Esthétique) بين أفق النص وأفق القارئ، ونوعية العلاقة التي تربط بينهما (الاستجابة، أو التخييب، أو التغيير). أما مفهوم "منطق السؤال والجواب"، الذي استعاره من جادامر (H.G. Gadamer)، فتكمن أهميته في رد الاعتبار للعلاقة الجدلية والمتجددة بين النص والقارئ، بمعنى أن "مؤلفا قديما لا يحيا في تقليد التجربة الجمالية لا بالأسئلة الخالدة، ولا بالأجوبة الدائمة، وإنما بفضل التوتر المفتوح، قليلا أو كثيرا بين سؤال وجواب، مشكل وحل، يمكن أن يستدعي فهما جديدا وأن يطلق من جديد حوار الحاضر بالماضي". وهو نفس التصور الذي لخصه كوولينغوود (Gollingwood)  في قولته المشهورة: "إنه لا يمكن فهم نص إلا إذا فهم عن أي سؤال يجيب".

ولذلك فإن السؤال الذي كان يحظى بالأسبقية عند ياوس هو: "ما وظيفة الأدب اليوم، وما هو المعنى الذي يمكن أن يأخذه البحث الحالي الذي يتناول العصور الماضية".

وفي نفس الاتجاه، وبشكل مغاير، حصر فولفجانج إيزر اهتمامه في الإواليات والشروط المتحكمة في خلق علاقة تفاعلية بين النص والقارئ، متجاوزا بذلك الطروحات السابقة التي تنظر إلى النص بوصفه وثيقة مرتبطة بالواقع، وبمعنى موضوعي ووحيد يفرض على القارئ في كل زمان ومكان.

إن مهمة التأويل حسب إيزر تكمن في تفجير الطاقات الدلالية الاحتمالية الكامنة في النص بفضل المشاركة الفعالة للقارئ، باعتباره الشحنة الحرارية التي تتوهج باستمرار عند كل قراءة جديدة. ولذلك ارتبط الوقع (Effet) "بالصورة التي يخلقها المعنى أو يوحي بها لا بالمعنى ذاته، وهو أمر يؤكد حضور الذات لا هامشيتها إزاء معنى جاهز: "إن المعنى حين يعاش بوصفه وقعا، يخلق تشوشا، لا يستطيع أي شرح محوه". ولعل هذا ما دفع إيزر ليحصر مجال اشتغاله في ثلاثة أبعاد أساسية، تمشيا مع المعضلات الثلاثة التي طرحها: "كيف يتم تلقي النصوص؟ وكيف تبدو البنى التي تتحكم لدى القارئ بتكوين النصوص؟ وما هي وظيفة النصوص الأدبية من خلال سياقها؟" وهذه الأبعاد هي:

أ - النص بما هو موجود بالقوة، يسمح بإنتاج المعنى عندما يقوم القارئ بتجسيده وملء فجواته.

ب - فحص عملية معالجة النص في القراءة، حيث تبرز أهمية الصور العقلية التي تتشكل أثناء محاولة بناء موضوع جمالي.

ج - فحص الشروط التي تؤذن بقيام التفاعل بين النص والقارئ وتحكمه، وذلك في نظرية الاتصال وبنية الأدب الإبلاغية.

بناء على طروحات ياوس وإيزر، يمكن أن نختزل أهم النقاط التي شكلت بديلا منهجيا لجمالية التلقي في ضوء علاقتها بالمناهج النقدية السابقة على النحو التالي:

1 - إن التحول الكبير الذي عرفته الممارسة النقدية، هو تحول على مستوى بؤرة الاهتمام، حيث سعت المناهج النقدية إلى الانتقال من العناية بالمعنى، إلى تخصيص النظر في اشتغال النص وعناصره المكونة، ليتحول الاهتمام مع جمالية التلقي إلى التركيز على إبدالات الوقع والتلقي.

2 - كما أن هذا التحول (المشار إليه أعلاه) هو في الواقع تحول من الوحدة إلى التعدد، من مركزية الرؤية إلى شموليتها، من الفعل إلى التفاعل، من المعنى السرمدي إلى تعدد المعاني وخصوبة التأويل.

3 - إن جمالية التلقي فتحت أفقا جديدا في الممارسة النقدية، بحيث لم تعد بؤرة الاهتمام هي سلطة المؤلف والسياق أو فيتيشية النص، بل العلاقة التفاعلية المبرمة بين النص والقارئ.

4 - إن الاتجاهات النقدية الأخرى (كالشكلانية والماركسية…) تنظر إلى العلاقة بين النص والقارئ بوصفها علاقة تسير في اتجاه واحد. وتتم عملية التلقي عندما يفك القارئ سنن النص وفقا لاتجاه من الاتجاهات النقدية. أما جمالية التلقي، فترى أن عملية القراءة تسير في اتجاهين متبادلين من النص إلى القارئ، ومن القارئ إلى النص في إطار علاقة تفاعلية.

5 - لم يعد مع جمالية التلقي الاهتمام ينصب على المعرفة في حد ذاتها، بل معرفة طرائق المعرفة وإمكانياتها.

6 - إن النص الأدبي، في تصور جمالية التلقي، ليس إطارا أو شكلا يعبئه الكاتب بمعنى ثابت وسرمدي، كما يعتقد سابقا، بل بنية دلالية افتراضية، محققة من طرف القراء المتعاقبين عليه (النص).

7 - إن معنى النص ليس هو المعنى الجاهز والمختبئ في النص، بل المعنى الذي ينشأ نتيجة للتفاعل بين النص والقارئ، أي بوصفه "أثر يمكن ممارسته" واكتشافه من جديد، وليس "موضوعا يمكن تحديده" والتقيد به.

8 - في ضوء الاستنتاج السابق، فإن القراءة لا تمثل إعادة وتكرارا للقراءات السابقة بل هي تحتضنها وتتجاوزها إلى قراءة إبداعية مغايرة وبديلة، أي إلى "كتابة للقراءة".