ص1       الفهرس  91-100 

العمومية المحايثة : من التعريف إلى الاعتراف

عبد الصمد الكباص

-1-

يأخذ التعريف موقعه كإمكانية من خلال ذلك الإدعاء الذي  يجعل المعرفة توحيدا. إنه واجهة متميزة لواجب الوحدة الذي يجعل  شعاره : " أن تعرف هو أن توحد", حيث يصبح هذا الواجب  نواة صلبة تشكل المعرفة في تطورها ونموها وتحولها تلبية لندائه الدائم, وليس التعريف إلا  نمطا من أنماط هذه  التلبية.

إن الوحدة التي تجتاح المعرفة والتي تقدم كفعل تلقائي لفعالية العقل، تجعلها مدفوعة نحو الكشف  عن ذاك المعطى الأصلي الكامن في كل ما تسعى لمعرفته المتمثل في تآلفه التام  مع نفسه واستقراره الآمن في ذاته أي وحدته  القبلية. إنها  تكشف عما  هو  مقرر لها سلفا بإملاء من هذا الواجب الذي يتحكم فيها ويحركها, وبذلك  فهو عندما  يحملها على الإقرار  بوجود قبلي موضوعي خارجها, أي منفصل  ومستقل عما  تستوعبه كحيازة  ذاتية لنفسها, فإنه يلزمها  بأن يكون هذا القبلي الموضوعي وحدة متماهية مع ذاتها, بحيث لن تكون المعرفة حتى في الحدود القصوى لنشاطها  التركيبي سوى إخبار دقيق بهذه الوحدة القبلية. وهذا القبلي الموضوعي الموحد في ذاته, الذي ينتمي للمسلمات البدئية  للمعرفة, هو العالم.

هكذا فإن الوحدة تشكل مبتدأ المعرفة ومنتهاها, منطلقها وغايتها.  إنها وحدة قبلية  مزدوجة : ذاتية وموضوعية, داخلية  مباطنة للمعرفة وخارجة عنها. لذلك  فبناء المعرفة  لذاتها كاستدلالات وأقيسة وقضايا وأحكام وتعريفات ومفاهيم  موجه لتلبية واجب الوحدة الذي يشكل إضافة إلى ذلك  مداها الذي من خلاله يتحدد ما يمكنها أن تعرفه وكيف يجب أن يكون لتعرفه وكيف يمكن أن تعرفه , أي الحدود المجردة  التي ترسم المعالم الأساسية التي يمكن في إطارها أن تبلور المعرفة  الآفاق القصوى لإمكاناتها ولأشكال انتظامها.

إن هذا الادعاء يجعل "واجب الوحدة" كما لو كان مبدأ  مطلقا على المعرفة تحقيقه في كل خطوة  تخطوها. فإذا كان همها هو الحقيقة فإن هذه الأخيرة  لن تجد مستقرها إلا في الطابع الكلي للأشياء لذلك فليس أمامها إلا أن تعمل على إيجاد الهوية في الاختلاف , والاستمرار والاتصال في كل انفصال وتقطع , والنظام في التشتت. وهذا التماهي بين الوحدة والمعرفة يؤدي إلى تولد مركب فاشي يعد نفسه الكل الذي يستوعب  كل شيء والذي لا يجب أن يكون خارجه أي شيء , فليس أمام الموضوعات إلا أن تستساغ كقابلية للوحدة وإما أن تسقط نهائيا من دائرة  المعرفة والاعتراف.. إن مسألة   المعرفة بهذا تصبح مسألة  اعتراف بحق الوجود  وأهليته إلى الحد الذي لم يعد بإمكان الأنطولوجيا أن تقدم إثباتات عن نفسها إلا من خلال ما تسمح به حدود  الابستمولوجيا..

-2-

التعريف في حد ذاته ليس إلا تصريفا لجدلية الاعتراف والتنكر , التي تشكل الإفراز النهائي لمعرفة محكومة بواجب الوحدة, والتي تصبح معها كل محاولة للمعرفة  عملية قسرية تحدد ما يمكن / يجب معرفته وتسقط ما لا يجب أن تعرفه. هذا الأخير تحذفه مما تعترف به كعالم  ولا تقر بوجوده. إنه التنكر  الذي تفرزه  وتمارسه كل معرفة من حيث هي اعتراف , فالممكن هنا ليس إلا وجها  آخر للوجوب , فهو ليس تفتحا لحرية الكائن  وتلقائيته, بل هو ما يحدد مسبقا  من قبل "واجب الوحدة" , إنه ممكن واجب. فهو  ممكن (أي موضوع ممكن معرفته) لتوافقه مع إلزامات هذا الوجوب الذي يصبح محددا قبليا لما يجب أن يكون عليه كائن ما لكي يحظى بالاعتراف ويتمكن من الاندراج ضمن الأفق الموضوعي للمعرفة. وهو ما يجعل  من هذه الأخيرة تدخلا قسريا, إسقاطا, حذفا , تنكرا واستبعادا.. وكل هذا من خلال ما تمنحه من اعتراف.

المعرفة بهذا بعيدة  كل البعد  عن أن تكون شفافية  الكائن الذي ينفتح لها من تلقاء نفسه لينكشف أمامها كموضوع  يمنحها ذاته. فالتجريد كعملية  معرفية  هو في أحد أهم أبعاده تجريد (أي سلب وإزالة ومصادرة) لتعددية وحركية  وتوثر ذاك الذي يتخذه  كموضوع  وقضاء تام على انفلاته وطمس  لاختلافه , مقابل تثبيته في حالة جامدة هي في طابعها الصوري استجابة  جاهزة لمتطلبات قبلية يتضمنها الواجب المشار إليه , إنه تثبيت لطيف لم يوجد لـه أي مرجع يماثله , طيف يستعاد في التجريد (Abstraction) كما لو كان  تكرارا  أبديا للوحدة الذاتية والأساس الدائم  والاستمرار الخفي  والامتلاء الضمني لذلك الذي  من المفروض فيه والمسلم به إنه مرجع موضوعي منضبط لنظامه الثابت والمستقر. فالتعريف (Définition ) الذي ينصب على عزل الخصائص والصفات المعتبرة أساسية التي من دونها ينتفي الموضوع المراد تعريفه , وتنتفي معه إمكانية  تعيينه وتمييزه ليجعله كلية , لا يتجاوز  كونه عملية إفقار تسلب ما تعرفه احتماليتـَهُ بما تتضمنه من مفاجآت وصدف  وانقلابات غير متوقعة وتحولات (Mutations ) غير قابلة للضبط, وتجرده من توثره وانفلاته وطفراته  بما هي مجرى  تعدده وثرائه.  لتحوله إلى مومياء ثابتة وجامدة مجوفة ومحنطة. كل هذا لكي يعفى العقل من قلق الاختلاف ومتاعبه , ويستمتع  براحة التطابق والنظام. وهذا التثبيت الطيفي هو ما يخول للفكر أن يجعل  من هذه الأطياف أصناما لا يجرؤ على تجاوزها  ونماذج لا يعترف إلا يما يطابقها.

وإذا  كانت المعرفة  حصيلة ذلك المجهود المضني  لإيجاد تعريفات  لكل ما تقدمه في مجالها  الموضوعي, فإن هذا يؤكد أنها مسكونة  برغبة  رهانها الأول هو تبديد الحضور الكاووسي الذي يجعل العالم  اندلاعا جموحا للصدف والمفاجآت   وفوران من الاختلافات والطفرات  , وهذا التبديد يتخذ صيغة تثبيت طيفي يجري مفعوله في نسيج التمثيل ليفضي في نهاية المطاف إلى وحدة لم تكن إطلاقا. لكن المعرفة  كذلك تفسير وتحليل , تفكيك وتركيب, قد يكون التعريف منطلقها وقد يكون منتهاها وغايتها , وفي كلتي الحالتين  فهي لن تخرج عن نزوعها التبديدي  المشار إليه سابقا. غير أنها تحول هذه الأطياف  المختلقة  بالتجريد إلى أصل أو معيار أو نموذج على الوقائع أن تكشف في تحققها عن مدى  مطابقتها لها. وهكذا فما أن يتم صنع الطيف التجريدي حتى يصبح هو المرجع الحقيقي والصحيح , فخيالات الكهف وأشباحه أصبحت  هي معقل الحقيقة , هي الماهية الأصلية والأساس الجوهري , إنها المثال الذي لن يسمح بأي انزياح عنه  والذي يشتغل  كقاعدة للاعتراف والتنكر.

هذه هي حصيلة التجريد هذه العملية السالبة : التنكر للحيوية المتوترة السيالة غير المتكررة وطمسها  من خلال  الاستعاضة  عنها باختلاق كلية  من الصفات الأساسية والتي لن تكون في جمودها إلا طيفا بدون مرجع ولا أساس, طيف لفراغ ثابت يعتمد للعودة لـــذات الواحد (le même ) الذي يحافظ  على ديمومة استعادة نفسه من زخم عوارضه كتماثل مستمر...

-3-

مضمر التعريف هو الهوية , إنه يحدد الطريقة التي ينتمي بها الموضوع المُعَرَّفْ إلى ذاته , أي هذا الانتماء الذي يجعل  منه نفسه , فهو يعين خصائصه الجوهرية وصفاته الذاتية التي من دونها تنتفي إمكانية وجوده, وبالتالي يستحيل عليه أن يكون ذاته , فبدون التسليم بالهوية الذاتية للموضوع  , كضرورة  قبلية , تصبح إمكانية التعريف مستحيلة. إنه لا يتعامل مع الموضوع إلا من حيث هو حصيلة  وحدة سكونية , وحتى إن عمل على استيعاب متغيرات  فهو يحولها إلى ثوابت , أي إلى سمات وخصائص ثابتة  تعتمد كأساس دائم للتعرف على الموضوع  المعرف. 

وبذلك فالتعريف يرفع  موضوعه إلى هيئة  لا زمانية , إنه يجرده  من زمانيته التي تجعله في صيرورة  تغاير مستمر , ويقدمه كلحظة ثابتة ودائمة  فوق الزمان وتحولاته, فعندما   يصوغ تعريف لموضوعه تحديدا معينا , لا يربطه بظرف زمني محدد أو لحظة  خاصة قابلة للتغير ترتهن  مشروعيته بها , إنه يطمس من خلال بنيته كل إمكانية لتأكيد ما هو عابر أو مؤقت في موضوعه. ومن خلال ذلك فهو يلغي من ذاته كل ما بإمكانه أن يجعله  متناهيا ومحدودا ونسبيا واحتماليا. إن التعريف  بهذا يصبح مؤشرا على معرفة مطلقة بالموضوع المعرف , ومن ثمة فهو قاعدة لتصريف تضخم المطلق في نسيج المعرفة واجتياحه لها. 

يفرغ التعريف موضوعه من زمانيته , ويقدمه في وضع لا زمني , لأن القصدية التي تحركه والتي وجد من أجل تحقيقها  هي البحث عن ماهية الموضوع  وتحديدها. فليس أمامه لكي يكون تعريفا تاما (حدا تاما) إلا أن يكشف عن الطبيعة  الدائمة لموضوعه , إنه  يتقصد ما لا يتغير ولا يتحول ولا يتزحزح أي تلك النواة اللازمنية التي تشكل الأساس الثابت للشيء وكذلك  حقيقته. إنها مصادرة ميتافيزيقية التي تشكل المنطلق الضمني للتعريف , والمتمثلة في كون الوحدة أساس العالم, وأن الحقيقة لا تكمن إلا في الثابت  والجوهر, وأن المجهود  التركيبي للمعرفة يجب أن يسعى للوصول للكلي,  وأن  ما يجب على العقل أن يكشف عنه هو الهوية  في الاختلاف  والوحدة في التباين, أما العوارض, الحوادث المفاجئة  , والصدف غير المكرورة فلا تعتبر إلا طوارئ خارجية عارضة  ليس من حقها  أن تكون ذات حقيقة. والعرف المنطقي الذي يمثل  عنصرا لا ينفصل عن هذه المصادرة  الميتافيزيقية وأداة فعالة لتصريفها , يحدد التعريف  ووظيفيته من خلال  هذا المنطلق  الذي يصادر على الوجود القبلي للماهية والهوية : " ونحن نحاول تحديد الأشياء  يكتشف العقل الإنساني أن ثمة صفات للشيء متأصلة فيه ومتعمقة  بداخله تكون حقيقية  وتعطيه جوهريته ويقينيته... إن كل هدف العلم وكل ما يصبو إليه العلماء كما  تصور ذلك أرسطو  هو محاولة التعمق في الطبائع  الجوهرية  للأنواع المختلفة من الأشياء , والذهاب  إلى رؤية ماهيات هذه الأشياء  والغوص في حقيقتها الدفينة  , وهذه  المحاولة  توصلنا إلى  الكشف عن كيفيات الأشياء الجوهرية  التي لا يكون النوع إلا بها "  (1 ).

إن التعريف بهذا  لا تكون لـه أية أهمية إلا في إطار عملية تثبيتية , تسلم قبليا بأن هناك نواة لا زمانية للموضوع  وحقيقة دفينة محايثة لجوهره قابلة للتعيين والتحويل إلى كلية من الخصائص التي تدل على جنس الموضوع وفصله : " يجب أن يكون التعريف.. معبرا عن ماهية الشيء وهذا ما طالب به أرسطو  " التعريف هو القول الدال على ماهية الشيء وماهية الشيء تتركب من الجنس والفصل النوعي , ولهذا فإن التعريف يتركب من الجنس والفصل النوعي , ذلك  ضروري لكي تتحدد ماهية الشيء  ولكي يتميز من غيره , فالجنس يحدد ماهيته , والفصل  النوعي يميزه  من بقية الأنواع  الداخلة  تحت  جنسه " (2 ).

فالتعريف يصبح انعكاسا ذاتيا  للماهية , أو هو الماهية وقد اغتربت في اللغة لذلك  فهناك شرط أساسي يجب التعريف أن يقوم عليه , " هو  أن يكون ما صدق القول المعرف والشيء المُعرَّف واحدا , وأن يكون مميزا , بمعنى أنه يجب أن ينطبق على كل المعرف ولاشيء غير المعرَّف" (3 ) فالما صدق بالنسبة للتعريف هو الماهية الذي يكون بالنسبة لها ترجمتها  اللغوية التي من المفترض أن تكون صافية ومطابقة لها.

ليس  التعريف نقلة من اللا معرفة إلى المعرفة , فهو لا يتأسس إلا على افتراض معرفة سابقة بالموضوع المطروح كغاية للمعرفة , إنه لا يتحقق إلا من خلال المصادرة الضمنية على المطلوب , وإلا فهو أولية مقترحة في نسق استنباطي  تتيح إمكانية التوصل إلى قضايا مستنتجة منها ولازمة  عنها منطقيا. وهو في هذه الحالة لن يكون له أي موضوع  خارج عنه يخبر عن ماهيته وحقيقته, كما يشير إلى ذلك اسبينوزا في رسالته إلى سيمون دي فريس (4 ).

يجسد التعريف الاستجابات المفروضة  قبليا  من طرف واجب الوحدة التي على الموضوع أن يبديها , وهكذا فهو ليس إلا انعكاسا لهذه القبليات  , فالماهية  المتاخمة  للهوية التي تجد تعبيرها في الجنس والنوع والفصل والخاصة, لا يبحث عنها التعريف في موضوعه وإنما يدمجه فيها إدماجا  قسريا. إنه لا يبحث عن جديد وإنما يؤكد ضرورة المتطلبات المحددة له سلفا. إن التعريف الموروث المقدم للإنسان : " الإنسان حيوان ناطق " على سبيل المثال , يظهر الإنسان  كطبيعة دائمة , كماهية أزلية , إنه دائما هكذا حيوان ناطق , هذه هي ماهيته ووضعه الدائم وأساسه  الثابث الذي يحدده له هذا التعريف. وهو تحديد يمنح لنفسه راهنية مطلقة غير قابلة للتجاوز  تثبت نفسها في كل لحظة زمنية , فصيغته إطلاقية لا تتضمن أي مؤشر يجعل راهنيته محدودة ومشروطة  بلحظة  متغيرة وقابلة للزوال وبشرط وجودي نسبي يتعلق بمن يُعرف وبالموضوع المعرف والتعريف نفسه. " فالإنسان حيوان ناطق " دائما في الماضي والحاضر والمستقبل , تلك هي حقيقته الخالدة التي لا يمكن تجاوزها. إن التعريف كقول, كعبارة لغوية له لحظة زمنية تشكل  حيزه الزمني الذي أنتج فيه , لكنه في صيغته الإطلاقية يقدم كتجاوز  متعالي ومفارق لكل محدودية,فهو يعين امتدادا لا متناهيا كليا ومستمرا  لحضور أزلي هو الماهية الثابتة المعطاة سلفا.

التعريفات (سواء كانت حداتاما أو ناقصا أو حتى رسما) تتضمن ادعاء ضمنيا مفاده أنها وصلت  إلى النقطة القصوى التي تستقر فيها الحقيقة النهائية لموضوعها , وأنها قدمت المعرفة الأكثر دقة وتميزا وجلاء , لتشكل بذلك الضمانة المؤكدة  المطلقة  لذات  الواحد الذي لا يكف عن تكرار  نفسه بشكل مستمر. فبمجرد  ما تطرح نفسها كتعريف تعزي  لموضوعها من خلال  ما تحدده  فيه طابعا يمنحه تباثا ووحدة  ودواما وخلودا.. كما لو كانت  وظيفتها هي جعل  إشعاع الخلود والثبات الذي يتمتع به الجوهر الإلهي  يسري في أشياء العالم وجزئياته.

وحسب ما سبق فالتعريف يصبح الانعكاس الابستمولوجي لمقدمات لاهوتية يشكل الثبات  والوحدة أهم مصادراتها.

-4-

هناك إرادة  تحرك التعريف لا ينبغي إغفالها. إنها إرادة  التشميل فالموضوعات يجب أن تتولد من خلال تعريفاتها كوحدة  وكماهية  ثابتة  معروفة معالمها وخصائـصها وككلية مستقرة ممتدة  في ذاتها ومحايثة لها  إنها إرادة   تبديد العرضي والمؤقت والعابر , ونسف  الصدفة والمفاجأة  والطفرة والسعي  لاستعادة الوحدة  في الكثرة  والهوية في الاختلاف , وهي كذلك  جعل  الموضوع  في صورة واحدة مؤبدة , هيئة واحدة  دائمة وتمديدها لتشمل كل تحققاته المحتملة سواء ما كان منها أو ما هو كائن  أو ما سيكون بالشكل الذي يجعل  هذه التحققات مهما تباعدت زمانيا وتوثرت اختلافاتها مجرد امتداد لذات الواحد.

تظهر مشكلة لإستقراء مأزق التشميل وقسريته. إذ كيف يمكن تمديد صلاحية أحكام محصلة  في الماضي لتقرر إن ما استفدناه  منها بخصوص مسألة ينطبق على نفس المسألة في المستقبل ؟ وكيف يمكن إسقاط معارفنا السابقة  المتعلقة بظاهرة معينة على معارفنا اللاحقة بها ؟ وكيف يمكن دون الإقرار القبلي بالوحدة  والاتصال أن نضمن أن الظاهر غدا ستكون هي نفسها التي لاحظناها اليوم ؟ كيف يمكن  أن نحكم على المجهول بما حكمنا به على المعلوم ؟ وكيف يمكن نقل ما استفدناه من خلال أحكام  جزئية إلى حكم كلي " بحيث نعمم ما قررته الأحكام حول  بعض عناصر فئة  ما على عناصر الفئة كلها " ؟ (6 ) وأن ننقل صدق الأحكام الجزئية  إلى الحكم الكلي الذي هو  من نفس الفئة ؟ وأي ضمانة ستضمن بدون تسليم مسبق أن ما لاحظناه في الماضي  سوف يتكرر في المستقبل ؟ وأن المستقبل سيكون مطابقا للماضي ؟.

إرادة التشميل هي التي  تحرك هذا النزوع التعميمي الذي لا يسمح إلا بالمتوقع الذي يكون تكرارا لما حُدد كقائم , إنه نزوع لتمديد إثباتات القبل والآن لتشمل الما بعد وتفرض عليه نفوذها , ليصير امتدادا  نمطيا للقبل  واستمرارا خطيا لـه , فطفرة البعد من حيث هو كيان متشظ تشكل إحدى الأهداف الأكثر حيوية  التي تروم إرادة التشميل طمسها , مثلما  تعمل على مصادرة  مفاجأتها وصدفها التي تؤسس اختلافها وتعددها. فالممكن  ليس من سديم المستقبل غير المتعين إلا بفرادة تحققاته البعدية, وإنما هو تنميط  مسبق من خلال ما هو محدد سلفا. ولذلك  فهو لن يكون  مفاجئا.

واستحالة هذا  التنميط المطلق لطفرة  البعد ومفاجأته هي التي تدفع  إلى تحويل الاستدلال الاستقرائي  إلى استدلال  قياسي  متضمن لمقدمات كلية مضمرة هي بمثابة  مبادئ قبلية تضمن الإنتقال من المقدمات الجزئية  إلى النتيجة  الكلية  أو تحويله إلى عنصر مساعد ضمن نموذج سابق لـه طبيعة  استنباطية تتم كل عملية استقرائية في ضوئه.

تعمل إرادة التشميل على تجاوز هذه الوضعية  التي تجعل  الانتقال نحو البعد  بمثابة مغامرة  تمر عبر هاوية لا تسمح إلا بالمختلف والمفاجئ غير المنتظر واللامتشابه , والتي يكون من تجلياتها الابستمولوجية أن " مقدمات الاستدلال الاستقـــرائي تجعـــل نتائجه احتمالية لا يقينية " (7 ). ويقدم المنطق قسمة قبلية بين الجزئي والكلي, ويعمد إلى إقحام هذه القسمة كمعيار للتمييز الكمي بين القضايا ولتصنيف الحدود, إلا أن هذه القسمة وبعيدا عن حياذها على المستوى الصوري  فإنها تمنح للكلي وضعا اعتباريا خاصا. وتقيم فارقا تفاضليا بينه وبين  الجزئي , إذ ليس هم المعرفة هو ملاحقة  الجزئي من أجل جزئيته وإنما  الوصول إلى الكليات وإلى كلية الكليات , حيث يكون العالم هو الافتراض القبلي للإمكان المطلق لهذا الكلي. حتى أن معرفة الكليات اعتبرت  في عهود سابقة  أسمى من معرفة الجزئيات , لذلك لن يكون العلم الإلهي إلا علما بالكلي.

هذه القسمة تعمل على استنزاف التفرد واللا تكرار لتفسح المجال للتشميلات وتمنحها ضرورة شمولها. فليس هناك جزئي ولا كلي إلا من خلال هذا الافتراض القبلي لإمكان نقطة  مشتركة بين متواليات اللغة (القضايا) وما صدقها , فخارج اللغة لا وجود لكلي ولا لجزئي, وهذا التصنيف ذو طبيعة  لغوية صرفة  وليس لـه امتداد انطولوجي. والقضايا الكلية فراغ  محض , فهي لا تعين  شيئا ولا تدل عليه, إنها  دالة قضية لا أكثر.  لذلك فالتوق إلى كثافة أنطولوجية  للكلي يفضي في إمكانه الأقصى إلى تضخم ثيولوجي , إذ ليس الكل إلا تحليقا لإمكان عام في فراغ مطلق.

وإرادة التشميل هي التي تجعل  الكلي بمثابة الانعكاس التجريدي لحتمية التماثل الذاتي التي يتقوم بها كل تعين جزئي إزاء باقي التعينات الأخرى التي تجمعها معه وحدة هذا الكلي , وفي نفس الوقت تجعله الضمانة المتعالية لهذا التماثل وحتميته. فهي تعزو أهمية كبرى للكليات في المعرفة فليس هناك من قابلية  لتفسير موضوع أو لفهمه  إلا من خلال افتراض مسبق  لكلية يجد فيها تأسيسه  الذي يستمد منه  معناه ودلالته وأحيانا  كثيرة ضرورته , هذه الكليات التي كما قال عنها   دولوز " لا تفسر شيئا  وإنما هي التي تحتاج إلى تفسير " (8).

إن  مفعولات إرادة التشميل تتجلى في هذا النزوع  نحو الكلي الذي هو نزع  نحو الشامل, بذلك  تعمل على فتح وترسيخ  أفق لا محدود يسمح للواحد بالإنتشار الدائم  في لا نهائيته  لكن من خلال جزئياته التي ينعكس فيها ويغمرها بكليته.

-5-

يقودنا ما سبق إلى التفكير  في نمط  من التحويل. إنه تحويل استعاري من خلاله تتأسس  النقلة من الجزئيات إلى الكلي. يكون فيه للكلمات دور حاسم تعمل فيه على تهييء الوسط الملائم لهذه النقلة  التي لها جموح تشميلي تجعل هذه الجزئيات  تنكمش أمام سطوة  كليتها  باعتبارها  مصدر وحدتها , وإذا كانت  هناك تعريفات تكونت نتيجة لاستقراءات  فالسؤال عن الضمانة التي تكفل  الصلاحية  القبلية للامتداد نحو البعد يظل قائما بالنسبة للتعريف بشكل عام.

لذلك يمكننا أن نقول وبلا تردد أن التعريف يحمل مشروعا تنميطيا لعالم غير مضمون  في إمكاناته البعدية إنه يسعى لتقديم تنميط لما سيكون انطلاقا مما كان , ليكون الآتي مجرد انعكاس للمنقضي , استمرار لذات الواحد. إنه يفترض عالما  ممكنا  خاصا به يكون كحيز ثابت لمواضيع ثابتة تبقى  هي نفسها , عالم اكتمل ووصل إلىوضعه  النهائي , تغمره هويات لا تنقطع عن نفسها , ولا تسمح بأية ثغرة  يمكن من خلالها أن يتسلل  التعدد الذي يبدد تماسكها كوحدة ويجعلها حيزا متفجرا للتشتت حيث يكون البعد أفقا دائما للاختلاف الذي لا يقبل  الإعادة ولا التكرار.

يتكون  التعريف كعرض أو بسط تجريدي لحالة الثبات والاكتمال التي يتمتع بها عالمه وموضوعاته. لذلك  فمجال صلاحيته يتشكل  مما انتهى مطلقا وإلا ستصبح مؤشرا على معرفة أثر من الآثار الماضية المتلاشية لموضوع متغير باستمرار.. أي تذكيرا  بنمط من الاضمحلال  والتناهي. وهذا يجعلنا نفهم  بالضبط لماذا المعرفة المنفتحة  على العالم لن تكون في صلبها إلا مقاومة منتصبة في وجه كل تعريف.

-6-

ينطوي التعريف كذلك على بنية ضمنية تتحدد على أساس "واجب الكون" فهو يحدد انتظارات خاصة لدى من يحمله حول الكيفية التي يجب أن يكون عليها الكائن المعرف.  التعريف بهذا يلغي تلك المسافة التي تجعله منظورا  لموضوع وتأويلا ممكنا لـه مرتبط بمؤول مشروط بتناهيه الخاص الذي يغرق هذا المنظور في نسبية مطلقة , بل يأخد طابع موجه  يحدد كيف يجب أن يعرف ويفهم أو على الأقل يدرك  الكائن  موضوع التعريف , حيث يغدو التعريف محوا دائما للمُعرِّف.

يقربنا هذا الوضع من الملامح  الأولية للخطورة التي ينطوي عليها التعريف , إذ أنه يقدم كوصف لماهية الكائن لكن ما أن يوضع حتى يكتسب نفوذا يجعله  يحدد الكيفية  التي يجب بها أن يعرف موضوعه من طرف الجميع , أو كيف يجب أن يكون , فتعريف  الشعر مثلا بأنه " كلام موزون مقفى" يحول الشعر إلى كيان منغلق , إلى كلية تامة منضمة على ذاتها اكتملت منذ الأبد , ويحدد ما يجب أن يكون عليه  لكي يحظى بالاعتراف به كشعر ويتداول بهذه الصفة , إنه يحصر المستقبل  من حيث هو سلسلة  من الاحتمالات في ما يحدده , وهكذا  فما سيأتي به المستقبل من الشعر سيكون محددا سلفا انطلاقا من التعريف , وهذا يفضى إلى التسليم   بكون ما سيكون ليس إلا تكرارا لما كان. فقاعدة  التلقي تصبح مصاغة  انطلاقا مما يحدده  التعريف الذي يمارس تأبيدا لوضع مؤقت, لتحقق زائل , يحوله إلى ماهية أبدية  لها امتداد لا متناهي في المستقبل.

إن التعريف يغدو محوا دائما للمعرِّف , فما أن يوضع  ويتخذ هذه الصفة باعتباره تعريفا لموضوع ما , حتى يشرع في ممارسة إلغاء للمفرد الذي  صاغه ويتحول إلى عمومية. فالتعريف التالي  مثلا : "الإنسان  حيوان عاقل" لا يتضمن أية إشارة لمعرفه , وإنما يتضمن  عمومية محايثة هي بمثابة نمط من الإدراك العام, والمعرفة العامة,التي من المفروض أن تتواجد لدى الجميع, والتي تمثل الإمساك  التام لحقيقة ماهيته التابتة.

إن سؤال "الإنسان حيوان عاقل بالنسبة لمن ؟ " هو ما يحاول التعريف أن يطمسه , إنه هكذا بالنسبة  للعموم , وهكذا يجب أن يكون وأن يدرك , أي هذا هو نمط وجوده, ونمط معرفته التي تعلن عن حقيقة  هذا الوجود. تسكن العمومية المحايثة  كل محاولة  تعريفية , إذ كلما قدمت تعريفا  ولو مؤقتا , إلا اعتبرته ممثلا  لهذه المعرفة المفروض والواجب أن تكون عامة , أي معرفة للجميع. وهكذا فهذه العمومية المحايثة  للتعريف تجعل  هذا الأخير  متعلقا بكائن عام أهم خصائصه أن له الإمكانية الدائمة  لحيازة المعرفة العامة المتجاوزة  لكل تشتت واختلاف , هذا الكائن العام ينتشر داخل الذوات  ليكرس وحدة  معرفتها وموضوعيتها ويحميها من خطر " الأنا وحدي" , والتعريف يسند نفسه بهذا الكائــــــتن العام , ويـــــدعي أنه ينطق بمعرفته , أو هو علامته  الظاهرة  القابلة للتبادل البينـذاتي ( intersubjectif ).

هذه العمومية المحايثة  تجعل التعريفات تسبح في فضاء وهمي من الاكتمال. إذ لا وجود لتعريف يطرح نفسه انطلاقا من ذاته كتعريف عابر ومؤقت  مهما بلغ ادعاؤه بذلك لأنه ينطلق من مسلمة أنه ينطق بالدائم والثابت وأنه الإفصاح البين والواضح عما يتشكل كأساس  ماهوي للموضوع المعرف , وأخيرا إنه الانعكاس الخارجي الصافي  لمعرفة عامة لكائن عام يتعدى تشتت الأجساد ونسبية الرؤى ومحدودية  المواقع وتعددية المنظورات.

-7-

في التعريف ينغلق الكائن وقابلية وجودة للحركة تعلق. توضع التعريفات ليفصل بين الكائن والزمان فيتشكل من خلال هذا الفصل نمطا آخر للوجود  بدون حركة  ولا توثر ولا استنفاد ولا تلاشي ولا كاووس, تمثل المعرفة سكنه الأصلي وموطن تولده.

من الصعب أن نقبل بأن الكائن يعين نفسه بنفسه في الآخرية بواسطة  التعريف , كما أننا  لن نقبل بأن يكون التعريف هو التعيين الذاتي للموضوع إزاء الموضوعات الأخرى. وهذا يجعلنا نتساءل : هل هناك تعريفات صحيحة  وأخرى  خاطئة ؟ كلا , لا وجود لثنائية من هذا النوع , فلكل كائن مجرى أنطولوجي  هو سيلان احتمالات حدوثه  وكثرتها وتدفقها (9 ) الذي ينفي كل إمكانية  لحصوله ككلية  منغلقة  تظهر في شكل ماهية  أو أساس أو جوهر.. ومن ثمة  فكل التعريفات المتعارضة  غير المتكاملة  التي يمكن  أن تعطي لموضوع ما تبقى مكتسية نفس درجة الصحة. " فالشعر كلام  موزون  مقفى يدل على معى " يعادل  في صحته " الشعر كلام غير موزون وغير مقفى ولا يدل على معنى " مثلما يعادل في صحته  كل تعريف يمكن أن يصاغ  مهما بلغ اختلافه وتعارضه أو حتى تناقضه. لا وجود لتعريفات صحيحة  وأخرى خاطئة. لأن التعريفات  تخلق موضوعاتها , ولا تعرف موضوعا سابقا عليها. ما يسبق التعريف ينتمي إلى المجرى الأنطولوجي الذي  يستحيل حصره , بمعنى آخر فما يشير إليه تعريف ما لبس في الحقيقة ماهية ولا خاصية جوهرية وأساس ولا فصل , إنه احتمال  حدوث  يتولد من داخل هذا التعريف نفسه , فلا سبيل للمقارنة بين التعريفات من حيث الصحة أو الخطأ , كل تعريف هو صحيح في ضوء الموضوع الذي يطرحه  بنفسه لكن شرط النظر إلى هذا الموضوع ليس ككيان ثابت  وإنما كاحتمال حدوث , فافتراض معيار أولي سابق على كل تعريف بإمكانه الحسم القطعي ما بين التعريفات  الصحيحة  والتعريفات الخاطئة , سيكون  خطأ في حد ذاته لأنه مع المجرى تستحيل المطابقة.

يفجر الكائن من حيث هو مجرى إمكانية وحدة المعرفة  ويدفعها نحو استحالتها , فتاريخ المعرفة  هو تاريخ تدافع سيل من التعريفات المتعارضة  التي تنقض بنفسها مشروع الوحدة الذي يؤسسها  وتقاوم بعضها البعض , إذ أن النقطة التي تتقاطع فيها المعرفة  بالوجود هي تلك التي يتواجه فيها المجرى  الأنطولوجي أي سيلان احتمالات حدوث الكائن وكثرته  وتعدده المنتج في اختلافه الدائم وتغايره المتعذر  حصره ,  مع إرادة  الوحدة  التي ترتسم كقوة انتشالية  تعمل على تجريد السيولة المتوثبة التي تستنزف إمكانية الواحد المتماهي مع نفسه المحتفظ  بها في قلب كل تغير. وفي هذه المواجهة  تنتصب تلك الحركة الحاسبة لاقتصاد الكائن  التي تستحيل  في التعريف إلى سياسة للكائن  تحدد مشروعية  وجوده  أي صيغته في الوجود التي يمكن الاعتراف به على أساسها.. وهكذا يتضح  أننا في التعريف لا نتحرك في حقل  للحقيقة متكامل  وناضج وإنما في ساحة معركة ممزقة  يتجابه فيها التنكر  والاعتراف.. إنه ليس سؤالا للمعرفة بل سؤال السياسة...

الهوامش

1 – محمد علي أبو ريان , علي عبد المعطي محمد : " أسس المنطق الصوري ومشكلاته" دار  النهضة العربية بيروت , ط II 1976 ص, 145.

2 – عبد الرحمن بدوي : " المنطق الصوري والرياضي" وكالة المطبوعات الكويت الطبعة الرابعة 1977 , ص76.

3 – نفسه : ص 76-75

4- فؤاد زكرياء : اسبينوزا , دار التنوير للطباعة  والنشر , بيروت , لبنان , الطبعة II , 1981 , ص 61-60.

5 – بناصر البعزاتي , " في الاستقراء" مجلة كلية  الآداب والعلوم الإنسانية  , الرباط  ع , 1994-19 , ص 9.

6 -  نفسه

7 -  هانز رايشنباخ : نشأة الفلسفة  العلمية, ترجمة  فؤاد زكريا, المؤسسة للدراسات والنشر, بيروت , الطبعة الثانية , 1979 , ص 205.

8- G, Deulleuze.F. GUATAR I : Qu'est ce que la philosophie "Edition minuit,p12 de

9 – عبد الصمد الكباص : المجرى الأنطولوجي" , دار إفريقيا الشرق الدار البيضاء , الطبعة الأولى 2006.