تأملات حول قضايا الشباب
السياسية
والانتقال الديمقراطي
حسن طارق
«إن تعزيز
المشاركة لا يكمن فقط في إضافة ثلاث ملايين أو أكثر من الناخبين الجدد. إذا كان
المقياس العددي مهم، فهو لا يكفي، إن عددا كبيرا من الأنظمة السلطوية اعتمدت في
سيرها على أصوات عشرات الملايين من المنتخبين الشكليين. إن المشاركة الفعلية تعتمد
على الكم ولكن كذلك وأساسا على النوع : من خلال تكريس نظام الحريات، وأساليب
تمثيلية حقيقية، ومكانة ودور أهم للهيآت التمثيلية، وإكثار مؤسسات المراقبة...
وهناك شيء مؤكد
هو أن عادة التعبئة من القمة-وهي عادة عريقة في واقعنا السياسي- نقيض للمشاركة
بمضمونها الديمقراطي...» عبد الله الساعف :
"بعض الأسئلة في فرضية المجتمع المدني". مجلة آفاق ع ¾، سنة 1992
-1-
وقف الفكر الغربي المعاصر، طويلا حول الظاهرة
الشبابية، خاصة بعد انتفاضة 1968،
محللا ومتسائلا عن هوية شبيبة غامضة ومتمردة، تم مر وقت بعد ذلك ليعيد نفس الفكر اكتشاف
موضوعة "الشباب" كإحدى الأوهام الكبرى التي عبرت أزمنة "الحداثة"
الأوروبية.
بعيدا عن ذلك يلاحظ المتتبع للخطاب العمومي
المغربي، بكل مستوياته السياسية والثقافية والاجتماعية أيا كان مصدره، سواء تعلق
الأمر بالفاعلين السياسيين أو السلطة أو الصحافة... ذلك الحضور الكثيف
"للشباب" كموضوعة وكمقولة في البناء الدلالي لهذا الخطاب (=الخطابات).
ولا شك أن هذا الحضور يحفل بكثير من النزعة
التمجيدية، لقوة الشباب وعنفوانه وقدرته على التحدي ومجابهة الصعاب. غير أن هذه
النزعة تقترن بالدعوة المستمرة إلى المشاركة والمساهمة في العمل السياسي، بشكل
يجعل من خطابات الفاعلين المختلفين مجرد إعادة إنتاج لخطاب السلطة السياسية نفسها، التي شكل حث الشباب على
المشاركة، إحدى ثوابتها خاصة بعد أحداث دجنبر 1990.
في مستوى أول من التحليل يبدو هذا الحضور
الكبير للحديث عن الشباب داخل الخطابات السياسية العمومية، شيئا طبيعيا ويكاد يكون
مطابقا وموازيا للحضور الحقيقي لإشكاليات الشباب وقضاياه داخل الساحة الاجتماعية
والاقتصادية الوطنية.
إن الشباب الذي يشكل موضوعا رئيسيا للسياسة
وللشأن العام وللمشاريع المجتمعية لاشك أنه سيكون حاضرا بنفس القدر في النقاش
السياسي والتداول العمومي.
فإذا كانت أكبر إشكاليتين يعرفهما المغرب
المعاصر، ويضغطان بكلكلهما على سياسييه وصناع القرار داخل دواليب أجهزته
التنفيذية، هما إشكالية البطالة وإشكالية التعليم. فإن هاتين الإشكاليتين يمكن
اعتبارهما شبابيتين بالطبيعة وبقوة الأشياء.
فقضية التعليم، تهم بشكل مباشر مصير وآفاق
الشباب المغربي، والشبيبة المغربية هي نتاج طبيعي للمدرسة الوطنية العمومية. فإذا
كان السوسيولوجيون يعتبرون أن ظاهرة الشباب، مرتبطة تاريخيا، بظهور المدرسة
العمومية، كآلية من آليات توزيع الزمن الاجتماعي، (طفولة-شباب-كهولة)، فإن الحالة
المغربية تعتبر درسا مدرسيا في هذا الباب. خاصة على مستوى البروز السياسي
للتعبيرات الشبابية المغربية والتي ارتبطت بشكل مباشر بقضايا تعليمية، في
انتفاضة 23 مارس 1965.
أما إشكالية البطالة والتي تمس موضوعيا جزءا
كبيرا من فئات الشباب بشكل يجعل كل الأسر المغربية تعيش على إيقاع التداعيات
الاجتماعية والنفسية لها. فقد حولت بشكل جذري الشروط العامة لحياة الشباب المغربي،
الذي فقد الثقة في المدرسة كوسيلة للترقي الاجتماعي، وتراجعت الفئات المتعلمة منه
داخل سلم التراتبية الاجتماعية، وتعرض عمريا لحالة تمطط سوسيولوجي قسري لمرحلة
"الشباب"، وتخلى عن نزوعه الطبيعي للاستقلالية ولتجسيد فردانيته تحت ضغط
الحاجة المستمرة للأسرة والعائلة، وقلص هاجسه اليومي، في الحصول على عمل من اهتماماته
بالأسئلة السياسية والفكرية....
ومع ذلك فإن التسليم بكون حضور موضوعة
"الشباب" داخل الخطاب السياسي يبقى حضورا طبيعيا، لا يلغي فرضية الحضور
"الانتهازي" للشباب كموضوع للخطابات السياسية.
لقد بنت مثلا، مدرسة سياسية مغربية، مقربة من
السلطة منذ بداية الثمانينات، خطابها التأسيسي-الباحث عن الشرعية- على موضوعة
"جيل الاستقلال"، في مواجهة مبطنة لجيل الحركة الوطنية.
وتكررت هذه التيمة، في كثير من التجارب
الحزبية، وصولا إلى تلك التي أسست عشية الانتخابات التشريعية لعام 2002، حيث تم
الاشتغال على نفس الأطروحة المبشرة "بموت الحركة الوطنية" وبتأسيس حزب
أجيال ما بعد الاستقلال وفئات الشباب.
وفضلا عن هذا التمظهر الانتهازي لحضور الشباب
داخل الخطاب السياسي لدى بعض الفاعلين العموميين، يمكن بسهولة كذلك الوقوف على
تمظهر "تبسيطي" لمقولة الشباب، من خلال توظيفها في مقاربة جيلية للمسألة
السياسية لبلادنا.
وإذا كانت هذه المقاربة التي تقحم صراع
الأجيال، الشباب ضد الكهول والشيوخ، كمعادلة رئيسية لفهم الحياة السياسية. تجد
مرجعياتها النظرية في بعض الأدبيات التي عوضت الطبقة العاملة بالشبيبة المتعلمة
كقائدة للتغيير الاجتماعي (كتابات ماركوز مثلا)، فإن الخطابات السياسية المغربية
لم تسلم من هذه النزعة.
حيث اعتبرت تيارات اليسار الجديد خلال فترة
السبعينات، الرهان على الشبيبة التلاميذية والطلابية، بمثابة رهان على "طليعة
تكتيكية"... ثم تابعنا كيف روجت بعض الصحف المستقلة في فترة معينة لأطروحة
الشباب الذي عليه أن يتوحد بغض النظر عن اختلاف مرجعياته السياسية والفكرية....،
وبشكل أكثر بروزا رأينا أن تنظيما سياسيا صغيرا، متواجد بإحدى مدن الشمال، قد جعل
"الانتقال الجيلي" أطروحته المركزية مدافعا عن فكرة "الجيل"
كآلية للتحليل وكركن من أركان مشروعه السياسي.
والواقع أنه مع التأكيد على حضور "صراع
الأجيال" داخل الدينامية الاجتماعية بشكل من الأشكال، فإنه يبقى من الوهم
اعتماد هذه المقولة لوحدها كأداة لتفسير ولقراءة كل تناقضات الحياة الاجتماعية
والسياسية.
إن تسييس مقولة "الأجيال" هو في الحقيقة
تحريف لحقيقة الصراع السياسي والاجتماعي، كما هو، مؤسس على صراع للمصالح المادية
وللقيم الفكرية وللمشاريع المجتمعية.
فالشباب في نهاية التحليل، ليس كتلة متجانسة
ولا طبقة اجتماعية ولا هوية اقتصادية نقية له... إنه فئة عمرية مخترقة بالتناقض
الاقتصادي وبالصراع الاجتماعي وبالتقاطبات الفكرية والقيمة.
لذا فالانجرار وراء هذه الإيديولوجيا
الشبابوية، التي ترسم التناقض الرئيسي في المغرب، بين نخبة شائخة وشباب متقدم
وحداثي، هو بمثابة نوع من اللاسياسية.
-2-
عموما يقدم الخطاب المتداول داخل النخبة
وفي أوساط الإعلام، حول الشباب والمشاركة السياسية، درسا مدرسيا نموذجيا، في سيطرة
الكليشيهات والقوالب الجاهزة والنمطية على تمثلاتنا الجماعية لكثير من الظواهر
السياسية والاجتماعية.
هكذا يقدم هذا الخطاب، معطى
"العزوف" كثابت منهجي في تحليل علاقة الشباب بالسياسة بعيدا عن كل
الأسئلة الممكنة وكحقيقة مطلقة خارج كل تفاعلات التاريخ.
حيث يبدو "العزوف" مقدمة
ضرورية لبناء التحاليل، وركنا من أركان صياغة المواقف، وثابتا من ثوابت الخطابات السياسية والإعلامية للفاعلين
وللصحافة ولأصحاب القرار...
والواقع أن هذه الوثوقية التي يحفل بها
الخطاب العام، حول عزوف الشباب عن المشاركة السياسية، لا يسندها موضوعيا، أي تراكم
علمي أو خطاب معرفي... فما أنتجته الجامعة المغربية في باب ما يمكن جزافا تسميته
"سوسيولوجيا الشباب" يبقى مجرد أبحاث قليلة ومتفرقة وعلى قلتها وتفرقها
لا تكاد تجزم بسهولة بأن الشباب المغربي عازف عن الشأن العام... فالخزانة العلمية
المغربية تتوفر على أبحاث جادة ورصينة في الموضوع سواء تعلق الأمر بعمل الأستاذة
منية الشرايبي حول الشباب المغربي بين الخضوع والتمرد، أو الأعمال الميدانية
لمجموعة البحث المكونة من الأستاذة رحمة بورقية والأستاذ المختار الهراس... حول
اهتمامات الشباب وعلاقته بالقيم الدينية... دون أن ننسى البحث الرائد للراحل بول
باسكون حول انتظارات الشباب القروي...
هذا بالإضافة إلى التراكم الذي خلقه
المجلس الوطني للشباب والمستقبل، خاصة من خلال البحث الوطني حول الشباب الذي أنجز
سنة 1993.
لكن مع ذلك لا نتوفر على ما يكفي من
تراكم النتائج والاستخلاصات المبنية على قاعدة المعطيات الميدانية والواقعية...
مما يسمح بالانخراط في التداعي الجماعي حول "ظاهرة العزوف"، بكل اطمئنان
وثقة وسهولة.
إن مقولة العزوف لا تفشل فقط في امتحان
"العلمية"، بل إنها كذلك لا تصمد إزاء بعض التساؤلات المفاهيمية الباحثة
في كنه كلمتي "الشباب"
و"السياسة" خاصة إذا نحن جنحنا إلى تأويل مفهوم السياسة تأويلا
ديمقراطيا، بأن نقول بأن السياسة، مرتبطة بوجود حقل عمومي لمناقشة وصراع المشاريع
المجتمعية، والأفكار، والبدائل، والقيم، التي يتم تدبير الشأن العام على أساسها.
فبهذا التعريف يحق لنا أن نتساءل بسذاجة، في الشرط المغربي، أيهم ظل
عازفا عن الآخر هل السياسة أم الشباب؟ أو ليست السياسة أو قل للتدقيق تلك العقود المظلمة من اللاسياسة والقمع
والحقل العمومي المغلق وحضور الدولة وتغييب المجتمع... هي التي كانت لا تقبل
بالضرورة أي مستوى من مستويات المشاركة الشعبية، للشباب ولغير الشباب...
توحي كذلك مقولة "العزوف"
بشكل مضمر إلى مغالطتين تاريخيتين لا غبار عليهما، الأولى تتعلق بكون الخطاب حول
العزوف يبدو معه هذا الأخير كما لو كان طارئا ومستحدثا، من صميم الحاضر ولا علاقة
له "بماض" وهمي زاخر بالمشاركة الشبابية؟!!
والواقع أن تاريخ التقاء مجتمعنا
بالظاهرة السياسية، كما عرفناها أعلاه، لا يسمح بتاتا بالركون إلى هذه الخلاصة
المتسرعة، وحتى ما يتحدث عنه البعض من كون عقد السبعينات كان عقدا ذهبيا لمشاركة
الشباب، فالأمر في الحقيقة مجانب للحقيقة، نعم لقد شكل النصف الثاني للستينات وعقد
السبعينات، زمن ميلاد الشبيبة المغربية كظاهرة سوسيولوجية ذات بعد جماهيري مرتبط
بظهور المدرسة العمومية، ولاشك أن المناخ الدولي والقومي والآثار الثقافية للنكسة
وللثورة الثقافية ولانتقاضة 68، ساهمت في خلخلة التمثلات السياسية
والفكرية والرمزية لهذه الشبيبة. لكن هذا كله لا يسمح بجعل عقد السبعينات حالة
معيارية ومرجعية لقياس عزوف أو مشاركة الشباب في تاريخ وزمن لاحق.
المغالطة الثانية التي يضمرها خطاب
العزوف نستشفها من طرح السؤال التالي : تتحدثون عن عزوف الشباب عن العمل السياسي،
مقارنة بمن؟ هل هذا يعني أن هناك فئات عمرية (الكهول، الشيوخ...؟) أو اجتماعية
(النساء مثلا) أكثر إقبالا على المشاركة والاهتمام بالشأن العام.
من الواضح أن المقارنات السابقة لا تذهب
بالضرورة في اتجاه جعل الشباب أقل اهتماما وأدنى مبالاة بالعمل السياسي.
وإذا كان استقراء التاريخ السياسي
للمغرب الحديث لا يجعلنا نلاحظ أن منحنى تجسيد اهتمام الشباب المغربي بالشأن العام
في انحدار تاريخي مؤكد.
فإنه من المهم تنسيب ظاهرة تعاطي الشباب
مع الشأن العام، وعدم الركون إلى الجاهز من الأجوبة، دون تفكيك منهجي وتساؤلي مع
استحضار السياق التاريخي.
فمشاركة الشباب المغربي في العمل
السياسي، لابد لها أن تتأطر موضوعيا بحجم المشاركة الشعبية في العملية الديمقراطية
ككل. هذه المشاركة التي لاشك أن بلادنا ما زالت تعيش لحظتها التأسيسية، فسلطة
الاقتراع العام ما تزال هشة والظاهرة الحزبية كإحدى حقول
المشاركة لا تزال في خطواتها الأولى وثقافة الشأن العام ما تزال هجينة وقيم المواطنة والالتزام
الجماعي هي أقرب ما يكون إلى المشروع منه إلى الحقيقة المجتمعية المترسخة...
وعموما فمجالات "السياسة"
و"الحقل العمومي"... ما تزال محدودة وبالغة الهشاشة. غير أن
هذا الإقرار بالعوائق المجتمعية وبالشروط الموضوعية الضاغطة، لا يمنع من الوقوف
على حيوية جزء كبير من الشبيبة المغربية وانخراطها في فضاءات المواطنة، التي لم
تعد المواطنة الحزبية هي نموذجها الوحيد، بل أصبح للالتزام الجماعي صورا وصيغا
للحضور أكثر تعددا، وانفتاحا على حقول العمل الجمعوي بكل هوياته الجديدة وعلى
مجالات الحركة الاجتماعية والاحتجاجية...
على أن جهودا كبيرة، ما تزال تنتظر الفاعلين العموميين، للانفتاح
أكثر على الشباب بتطوير خطابات أقرب إلى اهتماماتهم، وآفاق انتظارهم، بتحسين بنيات الاستقبال
وبتشبيب الهياكل وتحديث صيغ العمل...
إن التواصل مع الشباب، يجعل الملاحظ يقف
على مجموعة من النقط التي تبدو كمبررات لعدم مشاركة البعض، ولعل أكثر هذه النقط
التي تتكرر يمكن جردها في ما يلي :
- «"عدم الثقة في الأحزاب والسياسيين،
والصورة السيئة التي يحملها الشباب عن درجة التزام المسؤولين السياسيين وعن فساد
النخبة؛
- ثقل الماضي السياسي للمغرب، ماضي القمع
والتزوير الانتخابي؛
-
الميوعة التي يعرفها الحقل السياسي وكثرة الأحزاب والدكاكين السياسية؛
-
غياب الديمقراطية الداخلية داخل الأحزاب وشيخوخة الفاعلين الحزبيين وتمسكهم
بمناصبهم حتى الموت؛
-
إفلاس العمل السياسي وعدم قدرة السياسيين على معالجة قضايا الشباب المغربي الذي
يفضل الهجرة السرية عل تجرع مرارة البطالة والاقتصاد والإحساس بالمهانة؛
-
غياب أية إمكانية للتغيير السياسي، لأن النخبة السياسية هي نفسها منذ عقود؛
-
طبيعة الخطابات السياسية واللغة المنتجة من طرف الأحزاب المغربية؛
-
قصور الأحزاب السياسية عن التواصل مع المجتمع وعن الحضور داخل الأحياء والكليات؛
-
الصراعات الغير المفهومة التي تعرفها الأحزاب والتطاحنات بين أعضائها على المناصب
والتزكيات؛
-
اهتمام الشباب أساسا بمشاكله اليومية : النقل، الدراسة، العمل،.. لذلك هو لا يفكر
في السياسة".
قد نتفق، إذن، على أن تمثلات الشباب من خلال
هذه العينة من الأفكار، تحمل الكثير من القسوة وتختار، في حالات كثيرة، النصف
الفارغ من الكأس، وتجازف بإصدار أحكام تعميمية أقرب إلى الكليشيهات منها إلى
المعاينة النقدية، لكن، لنقل أيضا، بكل وضوح، إن هذه الأفكار التي يمكن أن نسمعها
في أي حوار مع شاب أو شابة داخل الجمعية أو داخل الكلية أو في مقهى... هي أقرب إلى
الشعور العام للمواطن المغربي وهي، أكثر من ذلك، تكاد تطابق درجة تمثل المغربي
للسياسة وللعمل السياسي.
إن قراءة الأسباب المدرجة هنا تحيلنا على
"السياسة" كما يستوعبها ليس فقط الشاب المغربي، بل المواطن كذلك، إن
السياسة تبدو، في هذه الحالة، كشيء مخيف، كممارسة مائعة، وغامضة، وزئبقية، كشيء
بعيد عن حياة المواطن اليومية، كاحتكار من طرف محترفين عارفين بأسرارها،...
نعم، إن عمق الإشكالية هو، بالضبط العلاقة
بالسياسة والتصور العام الذي يحمله المواطنون عنها. والبداية المطلوبة قد تكون
تماما هي تغيير "العرض" المقترح، وليس التباكي على قلة
"الطلب" البداية المطلوبة هي الثورة الثقافية الضرورية لإبداع ممارسة
سياسية أخرى، لتحويل العلاقة العمومية بالسياسة والسياسيين لكي تصبح السياسة ليس
فضاء للغموض والخوف والسرية بل اجتهادا مدنيا لتدبير الشأن العام وللجواب عن
إشكاليات الحياة اليومية للمواطن وممارسة شفافة وكالتزام مدني ومجتمعي وكامتداد
للمواطنة...
المؤسف أن تركيز الخطابات العمومية على فكرة
عزوف الشباب عن السياسة لن يدفع بالنقاش المطلوب إلى مداه الأقصى، لأنه ينطلق من
معالجة دراماتيكية لإشكالية مغلوطة.
فمشاركة الشباب كما وضحنا سابقا في العمل
السياسي هي مجرد تعبير عن درجة ومنسوب المشاركة المجتمعية العامة في الحياة
السياسية، وهي مرتبطة بدرجة تجذر تقاليد المشاركة الديمقراطية ومؤسساتها وآلياتها
داخل تربة المجتمع المغربي... وهي، قبل ذلك وبعده، مرتبط بهذه التي نتواضع على
تسميتها بـ"الحياة السياسية المغربية"!!
- 3-
بناء على ما سبق يبدو من الواضح أن معالجة
موضوع "الشباب والانتقال الديمقراطي" تحيل إلى إشكالية مركبة ترتبط
بتحليل المتغير العمري، والمحدد
الديمغرافي، ورصد حضوره في مسلسل سياسي
تاريخي يحفل بالكثير من التعقيد والتوتر، رغم ما تقدمه المعالجات الإعلامية
لموضوعة "الانتقال الديمقراطي" من تعميمات تعتمد السهولة منهجا لها، في
قراءة المرحلة على ضوء بعض المفاهيم الجاهزة لعملية الانتقال.
الواقع أننا أمام معادلة من متغيرين ليس من
اليسير الظفر بتحديد مفاهيمي صارم لهما، الأول وهو الشباب كفئة اجتماعية، بمحددات
عمرية، وسوسيولوجية، ونفسية، تمنحها خصائص التوتر والقلق والأسئلة والانتقالية...
والثاني وهو الانتقال الديمقراطي، بما هو مسلسل للتحول السياسي وللسيرورة التاريخية المعقدة المبنية على صراع الماضي
والمستقبل، في جدلية تحتاج إلى تدبير سياسي محكم، لأن المسلسل لا يضمن في حد ذاته
عدم القابلية للتراجع ولا يحكمه بالضرورة مسار خطي.
ولعل أول تحذير منهجي جدير بالاستحضار يتعلق
بالحسم المبدئي مع فكرة توازي الانتقال الديمقراطي مع ما يمكن تسميته بالانتقال
الجيلي. نعم قد تساعد ديناميات مرحلة الانتقال الديمقراطي انبثاق أجيال جديدة من
النخب والقيادات، غير أنه من باب التبسيط الفج الاعتقاد بأن جوهر عملية الانتقال
الديمقراطي يكمن في انتقال دفة التدبير العمومي من جيل أكثر تقدما في السن إلى جيل
آخر أكثر شبابا.
إنه من المفيد هنا أن نذكر بما قلناه سابقا بأن
الشباب ليس طبقة اجتماعية، كما أن الانتماء العمري لفئة الشباب لا يعني تماما
الانتماء إلى هوية سياسية خالصة، إن الشباب بطبيعته كجسم ديمغرافي مخترق بالتناقض
السياسي والفكري والاجتماعي.
إن تفكيكا أوليا لإشكالية الشباب والانتقال
الديمقراطي، يخلص بنا إلى سؤالين أساسين متفرعين من المعادلة المطروحة، يبحث الأول
عن كيفية مساهمة الشباب في الانتقال الديمقراطي، فيما يذهب السؤال الثاني نحو
معرفة كيفية تناول الانتقال الديمقراطي قضايا الشباب.
وهكذا ينتقل الشباب، من السؤال الأول إلى
السؤال الثاني، من كونه فاعلا-مفترضا- لعملية الانتقال، إلى اعتباره موضوعا لهذا
الانتقال الديمقراطي.
بالنسبة لسؤال الفعالية (الفعالية الشبابية في
دينامية الانتقال)، فالأمر مرتبط أساسا بسقف مساهمة الفعل المجتمعي في مسار
الانتقال في مستوياته السياسية.
وعموما يمكن القول -خارج التضخم الخطابي حول
الشباب والمشاركة في الحياة العامة- بأننا إزاء دينامية عادية لحضور الشباب في
الحراك الاجتماعي تتميز بتواجد ملحوظ للشباب داخل مسارات كل الحقول العمومية
الحزبية منها والنقابية والجمعوية. وبحضور غالب في الحركات الاجتماعية خاصة ذات
الأفق المطلبي المرتبط بالشغل... غير أن الأمر لا يخلو من مفارقة بين هذا الحضور
الشبابي في الهياكل التنظيمية وواجهات العمل المجتمعي وبين خفوت ما يمكن تسميته
بالصوت الشبابي داخل المجال العمومي. فالحركة الطلابية لم تعد حاملة لهذا الصوت
والنسيج الجمعوي وإن كان ما يزال يحتفظ بطابعه الشبيبي على مستوى الفاعلين، فإنه
بالمقابل على مستوى المضامين لم يعد تعبيرا شبابيا خالصا كما كان الأمر في بداية
الاستقلال عندما كان العمل الجمعوي يعني بالضرورة العمل الشبابي. من خلال ما كان
يعرف بجمعيات الشباب. لقد انفتحت الجمعيات وخاصة أجيالها الجديدة على مضامين
ومجالات عمل جديدة.
أما عن السؤال الثاني، المتعلق بموقع الشباب في
صيرورة الانتقال الديمقراطي، فما يمكن الوقوف عليه هو غياب المسألة الشبابية عن
جدول أعمال الانتقال الديمقراطي، قياسا مثلا مع المسألة الحقوقية من خلال ملف
تدبير الماضي، أو المسألة الإعلامية من خلال معالجة أسئلة المشهد الصحفي... ومن
الواضح أن من أسباب هذا الغياب، بالإضافة إلى العوامل الذاتية التي تحدثنا عنها
سابقا والتي أسهمت في خفوت "الصوت الشبابي" داخل المجال العمومي، تكمن
عوامل أكثر موضوعية ترتبط بطبيعة الدولة المغربية التي لم تكن في السابق -لأسباب
يطول شرحها- تملك أي مشروع مجتمعي، يقدم مواقع وأجوبة لانتظارات الشباب، لهذا ظلت
لسنوات تنظر إلى فئات الشباب "كمشكلة" وكمصدر للتوتر... في نفس الوقت
الذي ظلت الأحزاب والنخب السياسية هي الأخرى لا تولي الاهتمام الكافي للمسألة
الشبابية نتيجة لاهتمامها بالسؤال السياسي المرتبط بالصراع حول إشكالية التدبير
والحكم.
وإذا كانت النساء قد نجحن بشكل ملحوظ في صياغة
وبناء قضية المرأة، باستقلالية نسبية عن المطلب السياسي العام وعن صيرورة النضال
الديمقراطي، فإن الشبيبة المغربية لم تنجح في تقديم المسألة الشبابية، كإحدى محاور
النقاش والتداول العمومي.
ومن جهتهم فإن الفاعلين السياسيين المعنيين
بقضية الانتقال الديمقراطي لا يبدون-حتى على مستوى الخطاب- كمراهنين على دعم
الشباب لتسريع وتيرة الانتقال أو لكسب معركة الإصلاح، كما يمكن أن نلاحظ في حالات
تاريخية عديدة.
إذا كان لا بد لهذا التأمل السريع، في إشكالية
الشباب والانتقال الديمقراطي، أن ينتهي بخلاصات مؤقتة، فيمكن القول بأن حضور أسئلة
الشباب داخل صيرورة الانتقال الديمقراطي، مرتبط من جهة بجهد ذاتي للحركة الشبابية،
ومن جهة أخرى بتجاوز النظرة الاختزالية لعملية الانتقال الديمقراطي كمجرد صيرورة سياسية،
وهي النظرة التي تعبر عنها بكل وفاء النزعة الدستورانية الطاغية على خطابات جزء من
القوى الديمقراطية.
ويبدو أن هذا التجاوز يتوفر على إمكانية التحقق
إذا استطاعت الحركة الشبابية موقعة أسئلتها وتصوراتها، ضمن أفق المسألة الاجتماعية
التي تعيش، الآن، لحظة إعادة بناء جديد، كإحدى أكبر أسئلة المرحلة.