ص1       الفهرس 91-100 

الرؤية الكرنفالية للعرض المسرحي

عند محمد بلهيسي

 

                            مصطفى رمضاني

حينما نستحضر اسم المبدع محمد بلهيسي، نستحضر معه اسم مدينة تازة بكاملها. بل حين نستحضر اسم تازة، نستحضر على التو اسم محمد بلهيسي. فقد ارتبط في أذهاننا نحن المسرحيين هذا الاسم بذاك، حتى صار لا يذكر أحدهما إلا مقرونا بالآخر، وإن كنا نعرف أن هذه المدينة أنجبت علماء وفقهاء وفنانين في مختلف المجالات. ولكن محمد بلهيسي يشكل رغم كل ذلك حالة خاصة، لأنه عرف كيف يسمو بهذه المدينة لتصبح قبلة الفنانين والأدباء وطنيا وعربيا، بفضل علاقاته الفكرية؛ فتراه يتعامل مع الروائي، والقاص، والشاعر، والمغني، والمؤرخ والمفكر، والسينمائي، تعامله مع المسرحي، هاويا كان أم محترفا، دون اعتبار للخلفيات الفكرية والإيديولوجية، لأن الحضور الإنساني والفني عنده أسبق من غيره.

ومن جهة أخرى، إن مدينة تازة بمكوناتها الحضارية، ورموزها التاريخية والثقافية، وحتى الجغرافية تحضر باستمرار في أعمال محمد بلهيسي تصريحا أو تلميحا. ويبدو أن ارتباطه بالاحتفالية جاء نتيجة ارتباطه الصوفي ببعض تلك المقومات وما تحمله من خلفيات سوسيولوجية وجمالية. ففيها عشق فن الملحون، وتشبع بجو التراتيل الصوفية وفنون القول والغناء، والرقص الشعبي، وكل ما يرتبط بالتراث، حتى أضحى هذا التراث سمة لازمة لإبداعاته المسرحية وغيرها من الإبداعات التي يمارسها عن طريق الهواية لا التخصص، ومنها هواية التشكيل والزجل اللذين سيكون لهما تأثير كبير على عملية بناء العرض المسرحي عنده كما سنرى.

ولكن يبدو أن عشقه لفن المسرح لا يضاهيه أي عشق آخر. فقد اكتوى بناره، وتذوق حلاوته ومرارته منذ الصبا حين التحق بجمعية اللواء تحت إشراف بعض فناني المدينة آنذاك، مثل محمد بناني، وبنيونس، والحاج النصيري. ودشن بدايته في التشخيص ضمن مسرحية "بيت الأحزان". كما دشن بداية التأليف بمسرحية "مقام النور" التي مثل فيها بعدما قام بإخراجها الفنان محمد العوفير([1])، ثم ألف نصين آخرين هما "سيدي المنسي" و "باب الدنيا". وبهما دشن رحلته في الإخراج. وهي رحلة تفوق الثلاثة عقود قدم خلالها بتجارب متعددة، وأخرج نصوصا لكتاب تنوعت توجهاتهم الفكرية والجمالية. ولكن حضور التراث في كل من هذه الأعمال ظل يمثل السمة الثابتة لرؤيته الجمالية فيما يخص العرض المسرحي، بدءا "بسيدي المنسي" و"باب الدنيا"، مرورا بنصوص عبد الكريم برشيد الاحتفالية، وصولا إلى "يا قاضي القضاة"، بل إلى مقامات "الكغاط" التي هو بصدد إنجازها كما يؤكد ذلك ملفها التقني الذي اطلعنا عليه، وهذا أمر طبيعي جدا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تشبع محمد بلهيسي بالاحتفالية، وبالرؤية الكرنفالية منها على وجه الخصوص. والمعروف أن التراث يشكل دعامة جوهرية في المسرح الاحتفالي، إلى درجة يصعب معها الحديث عن المسرح الاحتفالي بعيدا عن التراث كما يؤكد ذلك البيان الرابع للمسرح الاحتفالي بقوله : "إذا قلت الاحتفال قلت التراث، وإذا قلت التراث فإن ذلك لا يقتضيك الرجوع إلى الخلف، لماذا؟ لأن التراث في حقيقته حضور واستمرار، إلى ما بعد الآن، إنه شاهد على فعل التغيير، شاهد على أنه لا شيء ساكن ولا شيء ثابت. فلا وجود إلا لهذا التحول المستمر والمتلاحق"([2]).

ولأجل ذلك، فنحن حين نستحضر تجربة محمد بلهيسي المسرحية، ولا سيما في مجال الإخراج، نستحضرها في إطار هذا التأصيل. وإشكالية التأصيل في المسرح المغربي- كما في المسرح العربي عامة- تظل مقرونة بفعل التجريب المؤسس، لأنها تمثل درجة البدء في الإبداع، أو لنقل هي درجة التأسيس في هذا الإبداع. وهي كلها مصطلحات قد تعني شيئا واحدا في الخطاب المسرحي العربي، ويتحكم فيها هاجس واحد هو كيف نتواصل مع الجمهور، وكيف نحقق عرضا مسرحيا يحترم ضوابط الفن الدرامي، ولا يلغي الخصوصية المحلية في بنائه الفني والجمالي.

وهذا ما سعى محمد بلهيسي إلى تحقيقه عبر الاشتغال على ما توفره أشكال التعبير الشعبي ضمن آليات بصرية وسمعية وحركية، حتى يوفر لعمله المسرحي ما يغذي جميع الحواس. وهو في ذلك يواجه الواقع، ويستنطق الذاكرة، ويستحضر رموز التراث والتاريخ، ويستعين بمختلف أنماط التعبير الشفوي والبصري، من إيقاعات غنائية، ورقص شعبي، وتراتيل وطقوس صوفية، وآلات تقليدية ومنمنمات وأحجام تراثية وغيرها...

وإلى جانب هذا الشغف العام بالتراث والاشتغال عليه في عروضه المسرحية، نلاحظ حرصه الدائم على توظيف بعض صيغ التراث المحلي، وميله إلى استغلال الجماليات البصرية المحلية لإضفاء الطابع الجمالي الاحتفالي الممتع والمثير، خصوصا فيما يتعلق بالجانب السينوغرافي وما يرتبط بتقسيم الركح وتأثيثه. وفي هذا الصدد نلاحظ ميله إلى استغلال الأفضية المفتوحة كالأسواق، والمواسم، والحلقات، وما  تزخر به من ألوان التعبير الفردي والجماعي، مثل المداحين والرواة، وأشكال الفرجات الشعبية الأخرى، وما تقتضيه من اشتغال على الخطوط الدائرية، فيما يخص تقسيم الخشبة، وتموضع الممثلين، وما يملأ المجال البصري من أدوات سينوغرافية، وأكسسوارات، وحركات، وألوان ونحو ذلك مما يندرج ضمن الجماليات البصرية، ويضفي الصبغة الكرنفالية على العرض المسرحي برمته.

ففيما يرتبط بمسالة تأثيث الركح، نلاحظ أن محمد بلهيسي بشكل عام يعمد إلى ملء الفضاء المسرحي بالأحجام العملاقة، كالسواري والقصور، والخيام، والأسواق، والساحات العمومية، بأثاثها الشعبي المتنوع، فيركز على المجسم أكثر من تركيزه على المجرد، مع الاستعانة بمبدإ التشكيل قدر الإمكان تجنبا للواقعية المباشرة من جهة، وحرصا على تأكيد تقنية الامتلاء من جهة أخرى، لأن في امتلاء الركح امتلاء للحقل البصري، ومن ثم امتلاء في الفرجة المسرحية  ذاتها.

إن لتقنية الامتلاء عند بلهيسي وظيفة جمالية بالأساس، دون إهمال للوظيفة المعرفية والفكرية طبعا. فهي تلغي المساحات الفارغة، وتملأ الحقل المرئي، وتبعد الملل والرتابة عن المتلقي، وتجعل حواسه ومداركه حاضرة ودائمة الاشتغال. وحتى في الحالات التي نسميها بياضا -كما قد يضطر إلى ذلك أثناء تغيير المشاهد المسرحية مثلا- يملا ذلك الفراغ بما يوفر الامتلاء بواسطة إشغال حاسة السمع عند المتلقي بالمرددات، أو الأغاني، وما إلى ذلك. وإلى جانب مسألة تأثيث الركح، نجده يؤكد تقنية الامتلاء هاته بكيفية توظف الأزياء المسرحية لتقديم الشخصية في جانبها الظاهري والتعبيري. فإضافة إلى دورها الوظيفي في تحديد الشخصية اجتماعيا ونفسيا، وكذا دورها في بناء الأحداث وتطورها، وما قد تحيل عليه دلاليا في سياق مكونات العرض العامة، فهي تقوم بدور جمالي،  لأنها تبهر العين، وتمتعها بما تقدمه من تنوع في الأشكال والألوان والمقاييس. فمن المعروف أن محمد بلهيسي يوظـف الأزيـاء التراثيـة  والتقليدية، مثل العباءات الفضفاضة، والجلابيب، والسلاهيم، والقفاطين، والقلنسوات، والعمامات، والطرابيش، والبلاغي، والنعال. وغالبا ما يضفي على هذه الأزياء طابع الفنتازيا، رغبة منه في إثارة الفضول والدهشة لإشغال الحواس والذهن معا.

ويلاحظ أن بلهيسي يقتني مادته الخام لتفصيل هذه الأزياء أو تشكيلها من المواد المحلية الأصيلة، تأكيدا لإصراره على تأصيل الخطاب المسرحي، وربط مسألة التجريب بالمكونات والأدوات المحلية، وما ترتبط به من صيغ وأشكال تعبيرية قادرة على اختراق إطارها المحلي، لتحقق وظيفتها التواصلية في بعدها الإنساني الشامل، خصوصا فيما يتعلق بالوظيفة البصرية للغة المسرحية. وهي لغة كما رأينا تهدف إلى تحقيق مبدأ الامتلاء عن طريق الأدوات السينوغرافية المتميزة بأحجامها وأشكالها وألوانها، وكذا الأفضية المفتوحة ذات الخطوط الدائرية، وما تزخر به من أنماط التعبير الشعبية الشفوية والحركية البصرية كذلك.

وتمشيا مع مبدأ الامتلاء في عروضه المسرحية، نجد محمد بلهيسي يعتمد تقنية الكتل المسرحية في مجال التشخيص. فهو لا يركز كثيرا في إدارة الممثلين على البطل الفرد، وإنما يركز على المجموعات والكتل. وهو ما يبرر خلو مسرحياته من الممثل النجم. فإذا كان بعض المخرجين يستعينون بالممثل النجم لملء بعض ثغرات العرض، فإن محمد بلهيسي يفضل الاستعانة بالكتل، ويركز على الفعل الجماعي، وعلى التنسيق بين كافة عناصر العرض لتحقيق التناغم فيما بينها، ما دام  ذلك التناغم هو أساس نجاح العمل المسرحي الذي لا يبرر إلا في إطار الكلية. أما الممثل، فبالرغم من أهميته، فهو لا يشكل عنده إلا عنصرا وظيفيا ضمن ذلك النسيج الكلي. ولكنه مع ذلك عنصر أساسي ولا غنى عنه؛ بل ولا يمكن أن يقوم مسرح بدونه. بيد أن أهميته عند بلهيسي تبرز ضمن الكتلة التي هي جزء من فعل امتلاء العرض المسرحي.

ويتضح حرص بلهيسي على فعل الامتلاء كذلك من خلال تقديم عروض مسرحية بشكل جماعي، وإن كانت في أصلها مسرحيات فردية، أو بممثل واحد، كما هو الشأن مع مسرحية "جنائزية الأعراس" التي ألفها عبد الحق الزروالي وأخرجها، ثم شخصها هو نفسه بمفرده وكذا مع مسرحية "الزغننة" للمرحوم محمد تيمد ذات الممثل الواحد أيضا. ولما أخرجهما محمد بلهيسي من جديد، قدمهما بممثلين متعددين انطلاقا من تقنية الكتل ومبدإ الامتلاء بحثا عن أسباب توفير الكرنفالية للعرض المسرحي. ويبدو أن وراء هذا الاختيار في التعامل مع مكونات العرض المسرحي من منطلق مبدأ الامتلاء ما يبرره. ولعل أقرب تبرير نقدمه في هذا المقام، هو تشبعه بالتوجه الاحتفالي.  والاحتفالية كما نعلم تركز على مبدإ الجماعية، وعلى ضرورة استغلال الصيغ التعبيرية السمعية، والبصرية، والحركية، وما توفره من دلالات الإيحاء والبلاغة، وقدرات على الإبهار والإدهاش والإمتاع؛ وطبعا على الممثل وطاقاته الفردية، سواء أفي تعبيره الجسدي، أم في ملامحه وقسماته، أم في أدائه الصوتي ومؤهلاته الفنية كالغناء، أو العزف، أو الرقص، وغيره... وفي هذا الصدد يبين محمد بلهيسي موقفه من الممثل فيقول : "الممثل عندي له كل حرية  التصرف، في حدود ما أرسمه كمخرج، الممثل لا بد أن يفجر أحاسيسه. فهو في هذه العملية يساعدني على معرفة كنهه وبواطنه. وبهذه العملية أستطيع أن أخلق لحمة بين كل التشكيلات الحركية التي يؤديها جميع الممثلين"([3]) 

إن محمد بلهيسي صانع فرجة. ولما كانت هذه الفرجة لا يوفرها عنصر من خارج بناء العرض وتضافر كل مكوناته الأدبية الفنية والتقنية، فإننا وجدناه يستعين بكل الصيغ والأدوات التي تساعد على توفير مظاهر الإدهاش والإمتاع، فالعرض المسرحي يغني بتعدد عناصره وحسن استغلالها، وبحركيته وقدرته على شد الجمهور بما يتضمنه من طوابع كرنفالية. ومحمد بلهيسي من المخرجين الذين يتعاملون مع اللغة المسرحية الشاملة بحثا عن أسباب إمتاع الجمهور ومخاطبة كل حواسه ومداركه. فهو يرى أن لا شيء أنجع من تعدد الحركات، وتنوع عناصر العرض المسرحي ومكوناته، واشتغالها وتشكيلها داخل سياقه. لهذا يلح على جماعية هذه العناصر وتناسقها لتحقيق ما يسميه بالعرض المتكامل، يقول :"أنا أقتل الصورة كي أحييها من جديد... فالحركة عندي لا يمكنها أن تنضج أو تثمر إلا في تعدديتها. كما أنني أعتمد الخطوط المتحركة كمنهج وكأرضية لرسم التشكيلات الحركية... العمل المسرحي أو العرض المتكامل يتطلب منا خلق لحمة تربط المتحرك بالجامد والمتغير بالثابت، بمعنى آخر لا يمكن للتوابع أن تبقى جامدة أما عيني"([4]).

والملاحظ أن محمد بلهيسي ظل وفيا لمنهجه في الإخراج، مرتبطا بالتصور العام فيما يتعلق بتأثيث الفضاء الركحي، وإدارة الممثلين، أو ما سميناه بالرؤية الكرنقالية فالعرض المسرحي عنده بمثابة حفل شعبي أو كرنفال يبهر العين ويمتع الأذن، تحضر فيه الحركية والفعل الجماعي، وتعدد الأفضية التي غالبا ما تمتد إلى صالة الجمهور. بل إن بعض عروضه تبدأ من خارج قاعة العرض نفسها، وتنتهي إلى الشارع أحيانا. وكثيرا ما يشرك الجمهور في الفعل المسرحي بترديد أغان ومرددات، أو بالقيام بأفعال تغني الأحداث، وما إلى ذلك ما يؤكد تشبع بلهيسي بالرؤية الاحتفالية الداعية إلى تكسير الحدود الوهمية بين الصالة والركح، وتجاوز الجغرافية الضيقة والمقننة للخشبة الإيطالية، وجاهزية النص المغلق، والأداء المقنن سلفا للممثل.

والجدير بالتذكير  أن هذه السمة المتعلقة بمنهج بلهيسي في الإخراج، لا تنطبق على نصوص عبد الكريم برشيد الاحتفالية التي أخرجها فحسب، ولكنها تنطبق كذلك على كل النصوص الأخرى التي أخرجها لمؤلفين لم يتبنوا التصور الاحتفالي، مثل عبد الحق الزروالي، وأحمد العراقي، وقمري البشير، ومحمد المعزوز، والمرحومين محمد تميد ومحمد مسكين، ومحمد الكغاط.

ففي مسرحية "صالح ومصلوح"(*) التي أخرجها محمد بلهيسي وقدمها ضمن فرقة اللواء خلال المهرجان الوطني الواحد والعشرين لمسرح الهواة بتطوان عام 1980، نجده يدمج قاعة المتفرجين بالخشبة، ويدفع الجمهور إلى ترديد بعض الأغاني الشعبية، ويقدم الأحداث داخل فضاء المقهى بصفته فضاء مفتوحا يسمح بمثل هذا الحوار المرتجل بين الجمهور والممثلين، ويساعد على كشف الخدع المسرحية حتى يدرك المتفرج أنه فعلا في مسرح احتفالي مطالب بأن يشارك فيه :

المخرج : (يخاطب الجمهور) خوتنا لعزاز، الرحلة بدات والسما ضوات.

الخادم : (يخاطب رواد المقهى) بركاو من الغوات.

المخرج : غادي تساعدونا بشوية ديال السكات، وباب المناقشة راه مفتوح لكل واحد فيكم كيلمس فنفسه القدرة على الحوار... معنا في الفرقة الثنائي هنية ومرزوق، ومعاهم الفكاهي المحبوب إدريس بولمحاين.

الرواد : (يصفقون).

المخرج : فال الخير... كنشكركم على هذا التشجيعات اللي قبل وقتها، إنما ما فيها باس، والآن مع المسرحية([5])

مسرحية (السرجان والميزان)، فقدمها بمطعم الحي الجامعي لكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز بفاس سنة 1977. وتبدأ الأحداث وسط الطلبة خارج المطعم، ويرغم الممثلون الطلبة على المشاركة في الفعل المسرحي عن طريق الارتجال، الشيء الذي جعل العرض لا ينطلق في موعده الأصلي كما حدده المخرج، ويتجاوز النص كما ألفه المؤلف عبد الكريم برشيد.

وفي مسرحية "عرس الأطلس" التي ألفها عبد الكريم برشيد أيضا، نجد المخرج محمد بلهيسي يوظف مجموعة من الصيغ التعبيرية الاحتفالية، التي تبرز شعبية العرض المسرحي. فقد استغل فضاء الموسم، وبنى عليه كل المكونات والملاحق الأخرى، كالخيام المنصوبة، وحلقات الرقص، والحرف الشعبية، والألعاب البهلوانية، والمقاهي التقليدية، وغيرها مما يدل على فضاء الموسم. وقد ساهمت هذه الملاحق في تأكيد الطابع الاحتفالي للعرض المسرحي، لأنها أرغمت الجمهور  على المشاركة في الأحداث -ولو من بعيد- كما لو كان فعلا في موسم حقيقي. وفي هذه المسرحية أيضا، نجد أن المخرج جعل العرض مفتوحا بدون مقدمة محددة، إذ تبدأ الأحداث من خارج القاعة. وحينما يدخل الجمهور، يجد الخشبة مفتوحة بلا ستائر والراوي يحكي حكاية أطلس بشكل تلقائي كما لو كان في حلقة شعبية، والناس يتحلقون حوله ويسألون، ويحاورون بشكل مرتجل.

ومثل هاته التقنيات الاحتفالية التي تتوسل بالارتجال غالبا ما تتكرر في أعمال محمد بلهيسي المسرحية التي أخرجها، سواء أكانت من تأليفه، أم لمؤلفين احتفاليين كعبد الكريم برشيد الغزيرة مثل "السرجان والميزان"، و"سالف لونجة"، و" وعرس الأطلس"، و"ليالي المتنبي"، و"على باب الوزير"، أم لمؤلفين آخرين مثل عبد الحق الزروالـي في "صالـح ومصلـوح" ، و"جنائزية الأعراس"، ومحمد تيمد في "ألف ليلة وليلة"، وأحمد العراقي في "عروة يحضر زمانه ويأتي"، ومحمد مسكين في "النزيف"، وقمري البشير في "يا قاضي القضاة"، ومحمد المعزوز في "الماء والقربان"، ومحمد الكغاط في "مقامات الكغاط".

إن هذا الولع بالطوابع الكرنفالية الشعبية التي طبعت جل أعماله المسرحية، تفيد أن محمد بلهيسي مجبول على الاحتفالية. وقد طبقها تلقائيا في عروضه قبل أن يتشبع بمبادئها عن وعي واقتناع حين ظهرت على شكل بيانات وتنظيرات. وكان انتماؤه لجماعة المسرح الاحتفالي من قبيل تحصيل الحاصل. فهو احتفالي بطبعه في إبداعاته، بل وحتى في حياته اليومية وعلاقاته مع المبدعين. وهذا ما فطن إليه المخرج عبد المجيد فنيش حينما صرح بأن محمد بلهيسي "يتميز بتبني المقولات الاحتفالية قبل أن تصاغ في شكل بيانات. فالمتتبع لتجربة محمد بلهيسي في الإخراج من خلال أعماله الأولى يلمس بجلاء انغماس هذا الشاب -إخراجيا- في حيوية احتفالية لم تجد آنذاك موجها ولا مرجعا نظريا تستمد منه قوتها ومشروعيتها"([6]).

ولا شك أن تجاربه المتنوعة، واحتكاكه بكبار المخرجين والكتاب ساعده على إنجاح تجربته وإغنائها؛ بل وتوجيهها بوعي فني، وتأكيدها ضمن الأفق الاحتفالي. ولعل ارتباطه بعلمين كبيرين من أعلام المسرح العربي الاحتفالي يأتي على رأس هذه المؤثرات : الطيب الصديقي  في الإخراج،  وعبد الكريم برشيد في مجال التأليف والتنظير المسرحيين. فتأثير الصديقي واضح بأسلوبه الاحتفالي الفنتازي في الإخراج، واشتغاله على التراث. كما أن التوجه الاحتفالي لنصوص عبد الكريم برشيد يظل حاضرا بقوته، رغم أن بلهيسي غالبا ما يتصرف في النص المسرحي باعتماد أسلوب التقطيع. وفي هذا الصدد نشير إلى أنه يعد من بين المخرجين القلائل الذين يعتمدون أسلوب التقطيع المشهدي الممنهج. وهو بذلك يوفر للتقنيين البطاقات التقنية الكفيلة بمساعدتهم على فهم تصور الإخراج، وتتبع مراحل تطور العرض.

وإلى جانب الصديقي وبرشيد، استفاد بلهيسي من تجربته الطويلة في المشاهدة، وحضور المهرجانات المسرحية الوطنية العربية والدولية. فمن المؤكد أن حضور المهرجانات والمواظبة على مشاهدة التجارب المسرحية المتنوعة يعد في حد ذاته تكوينا ذاتيا كفيلا بإغناء التجربة الذاتية. فقد شارك في جل المهرجانات الوطنية لمسرح الهواة، ومهرجانات المسرح الاحترافي بالمغرب، ومهرجانات مسرحية عربية، كمهرجان قرطاج، وبغداد، وسوريا، والعراق، وفلسطين، والأردن، فضلا عن المهرجان الدولي بأفنيون حيث استفاد من كبار المخرجين العالميين، بيد أن أهم شيء ينبغي أن نستحضره هاهنا ونحن نتحدث عن المؤثرات التي أغنت تجربة محمد بلهيسي، هو أن هذا الفنان يتكئ في تجربته الإخراجية على خلفية فنية ترتبط بذاته الخاصة، فهو يملك مواهب لا شك أنها من العوامل الأساسية التي وجهته نحو هذه الطوابع الكرنفالية للعرض المسرحي. فمن المعروف أنه  خطاط وتشكيلي يعي جيدا جماليات فن الكاليغراف، وكيفية تشكيل  الأحجام والمقاسات. كما أنه زجال يكتب الزجل، ويملك حسن الأداء. وفضلا عن ذلك، فهو عاشق للتراث وأشكاله التعبيرية الشعبية منها على وجه الخصوص. وهذا ما يبرر تجليات هاته الموهبة في مكونات عروضه المسرحية منذ رحلته الأولى في عالم الإخراج المسرحي. وقد تفتقت هذه الموهبة واغتنت بنضج تجربته وممارسته الطويلة والمتنوعة.

وما يلاحظ كذلك، أن عروض محمد بلهيسي المسرحية تمثل نموذجا للبرزخ  بين الهواية والاحتراف. فمن جهة نلمس مدى ارتباطه بنصوص تجريبية هادفة تستجيب لأفق انتظار المتلقي الذي يرغب في مشاهدة عمل يحيل على الواقع، ويعالج قضايا لها علاقة بهمومه وطموحاته بوعي فكري متنور، ويتوسل في الوقت نفسه بالأساليب التجريبية في كيفية الاشتغال على مكونات العرض المسرحي، من إدارة الممثلين، وتشخيص، وتوظيف للجماليات البصرية في الإضاءة والألوان، وتوظيف واستغلال الصيغ التعبيرية الشعبية بهاجس التجريب، والمغامرة الفنية، والعشق، كما هو حال  عروض المسرحيين الهواة المغاربة في فترة تألق هذا المسرح.

 ومن جهة أخرى، نلمس صرامة التعامل الاحترافي مع التقطيع الركحي، وتأثيث الخشبة، وملئها بالديكورات الضخمة، والأدوات السينوغرافية المتعددة والمبهرة. وهي ميزة طبعت جل أعماله المسرحية عبر مسيرته الطويلة في هذا المجال. وهي التي أهلته للحصول على جوائز وألقاب في مجال الإخراج وطنيا وعربيا، لعل من أهمها جائزة الإخراج عن عرض "صالح ومصلوح" ضمن المهرجان الوطني الواحد والعشرين لمسرح الهواة الذي أقيم بتطوان سنة 1980، وجائزة العمل المتكامل عن عرض "عرس الأطلس" ضمن المهرجان الثالث والعشرين لمسرح الهواة الذي أقيم بمدينة آسفي سنة 1982، وجائزة أحسن إخراج ضمن مهرجان المسرح العربي الذي أقيم بقرطاج سنة 1987 عن عرض "عرس الأطلس" أيضا. كما نال جائزة أحسن إخراج عن عرض "ليالي المتنبي" ضمن المهرجان الثاني للمسرح الاحترافي بالمغرب سنة 2000 وعن العرض نفسه أحرز جائزة الدرع الذهبي من مهرجان المسرح العربي بعمان من نفس السنة.

وإذا كان بلهيسي قد برهن على نزعته التجريبية المستمدة أصلا من حقل مسرح الهواة الذي تربى في أحضانه، وفيه تكون حتى أضحى أحد أهم أعلامه، فإنه برهن من جهة أخرى على مؤهلاته الاحترافية، وحنكته في إدارة العروض المسرحية الضخمة. وقد أكد ذلك حين أشرف على إخراج بعض المسرحيات التاريخية، أو الاستعراضية، أو تلك  التي تسمى بالملاحم، وعرف كيف يتحكم في إدارة عدد كبير من الممثلين يفوق الخمسمائة، وبطاقم تقني ضخم، كما هو الحال في ملحمة "واحة الفرح" التي قدمها سنة 1987 بمدينة الراشدية، و"ليلة سمر" في ضوء القمر". وهي كلها أعمال تبرهن على أن محمد بلهيسي يجمع فيها بين عشق الهواية وصرامة الاحتراف. وهي معادلة صعبة يعمل جاهدا على تحقيقها بحضوره الإبداعي الدائم، وإصراره على الاجتهاد والتجريب، رغم بعض الثوابت الكرنفالية الاحتفالية التي تميز عروضه، لأنها كما قلنا جزء من ذاته وتكوينه. وهي التي تفرده عن غيره، ليصبح أسلوبه في الإخراج أسلوبه هو : به يتميز، وبه يعرف. والتمييز كما نعلم مؤشر من مؤشرات الأصالة.

الهوامش والإحالات :

 



[1]- انظر الحوار الذي  أجراه أمين عبد الله مع محمد بلهيسي بجريدة الميثاق الوطني (المغربية) بتاريخ 9-11-1985، ص 7.

[2]- عبد الكريم برشيد-المسرح الاحتفالي- الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان-مصراته- ليبيا، ط1 - 1989-1990- ص 145.

[3] - من حواره مع نضال محمد علي- جريدة الجمهورية(العراقية) ع 6732 س 21 بتاريخ 20-07-1988.

[4] - في حواره أجراه مع الحسين الشعبي، جريدة البيان المغربية بتاريخ 22-8-1986، ص5.

* - هي من تأليف عبد الحق زروالي- مرقونة

[5] - مسرحية صالح ومصلوح، مرقونة.

[6] - دراسة للإخراج في مسرحية عرس الأطلس- الملحق الثقافي لجريدة الميثاق الوطني (المغربية) بتاريخ 18-19، أكتوبر 19897، ص 3.