ص1       الفهرس 91-100 

 

الاجتثاث الفينومينولوجي للانطولوجيا

عمر التاور

     لو أننا أنعمنا النظر في الفكر الفلسفي المعاصر.  لألفيناه أولا وقبل كل شيء فكرا فلسفيا يعنى بطرائق النظر الفلسفي أكثر مما يعنى بمضامين الفلسفة.  فالأهمية التي حظي بها المنهج في علوم الطبيعة والإنسان.  سرعان ما انعكست على الفلسفة في سعيها الحثيث نحوم طلب الدقة والموضوعية. فكان من ذلك أن تناسلت طرائق النظر الفلسفي وتعددت من فينومينولوجيا وأركيولوجيا  وهيرمينوطيقا وتفكيكية الخ.  ونحن إذ نؤكد على أهمية هذه المناهج في إثراء الممارسة الفكرية في القرن العشرين وطبعها بطابع الخصوبة والتعدد. فإننا سنركز اهتمامنا على الأقل في هذه المحاولة على المنهج الفينومينولوجي من خلال رصد أهميته واستبار طريقة توظيفه لاجتثاث الانطولوجيا عند الفيلسوف الألماني المعاصر مارتن هيدغر(1889-1976) لاعتقادنا أن هذا الفيلسوف لم يجدد المنهج الفينومينولوجي المنحدر من ادموند هوسرل فحسب.  بل جدد أيضا مضامين الفلسفة حين اجترح  لنفسه أفقا لممارسة فعل التفلسف  داخل نصوص الفلاسفة ذاته. لعل الدرس الفلسفي الذي استفاده هيدغر من فينومينولوجيا هوسرل ومن دعوته للعودة إلى الأشياء ذاتها هوالذي دعاه إلى العود صوب النصوص الفلسفية ذاته.  وتلك تجربة جديدة فتح هيدغر أبوابها في الفكر الفلسفي المعاصر بفضل احتكاكه المباشر بكتاب الفيلسوف النمساوي فرانز برنتانوعن "المعنى المتعدد للموجود عند أرسطو" الذي ما لبث أن دعاه إلى جملة أسئلة من قبيل: إذا كانت للموجود معاني متعددة فأيها المعنى الأصلي ؟ وما معنى الموجود؟ أهناك فرق بينه وبين الوجود؟ وما معنى الوجود؟ ولما السؤال اليوم عن الوجود والفلاسفة منذ العهد القديم يكادون لا يسألون إلا عنه؟

راحت دوامة السؤال تدور به في فراغ لا مخرج منه إلا بالعود إلى المبحث السادس من البحوث المنطقية حيث ساعده تمييز هوسرل بين العيان الحسي والعيان ا لمقولاتي على رؤية مشكلته القديمة حول المعاني المتعددة للموجود في ضوء جديد.  فراح يدرس هذا الكتاب ويتعمق درسه حتى لاح في ذهنه ذلك الخاطر الملهم الذي ماانفك يشغل بال الإنسان المفكر على الدوام.

إن هذا الذي يظهر نفسه بنفسه وتحاول فينومينولوجيا هوسرل القبض عليه في الفكر الفلسفي المعاصر.   قد فكر فيه أرسطومن ذي قبل.  كما تناولته تجربة أوائل الإغريق في الفكر والوجود على نحوضاقت فيه العبارة واتسعت الرؤيا.

إن هذا الظهور الذي أعادت فينومينولوجيا هوسرل اكتشافه في الفكر المعاصر وجعلته الموقف الأساسي للفكر والوعي هوفي حقيقة الأمر أهم  ما يميز الفكراليوناني. إن لم يكن أهم ما يميز الفلسفة نفسه.

إن السؤال عن الوجود إذن ليس حديثا بل إنه قديم قدم الفلسفة ذاته. وهيدغر نفسه يقر بذلك حين يقدم لكتاب  " الوجود والزمان" (1927)  بنص لأفلاطون من محاورة السفسطائي جاء فيه :"إنه لمن المؤكد أنكم تعرفون حقا المعنى الذي تقصدونه حين تستخدمون تعبير "الموجود".أما نحن فقد اعتقدنا فيما مضى أننا نفهمه  وها نحن اليوم حائرون بشأنه"

 

[1]

ويروم هيدغر من خلال استحضار نص أفلاطون.  انتشال الفكر من عتمة الميتافيزيقا عبر العود إلى منابع الفلسفة لإعادة قراءة المفاهيم وتنقيحها وتنقيتها من سديم  الاغتراب الميتافيزيقي. ويعلق هيدغرعلى النص فيسأل: أنحس اليوم بالحيرة والارتباك لأننا لا نفهم تعبير"الموجود"؟ - كل. ولهذا يتعين علينا قبل كل شيء أن نوقظ ونستعيد الفهم لسؤال الوجود ونفسر الزمان باعتباره الأفق الممكن لكل فهم للوجود في شموليته.

 إن العمل الأساسي لاستعادة /إيقاظ الفهم يتمثل في محاولة استعادة أصالة المفاهيم بالشكل الذي يجعل من مفهوم الفكر أعلى قيمة مؤشرة على الوجود.  ويقتضي اختيارا منهجيا يتأسس على مهمة مزدوجة تقوم من جهة على التحليل الانطولوجي للدازين[2].  ومن جهة ثانية على الاجتثاث الفينومينولوجي للانطولوجي. فأما التحليل الانطولوجي للدازين (da-sein فالمقصود به هوتحليل أساليب وجود ذلك الكائن (الدازين) الذي يضطلع بمهمة السؤال عن الوجود. وتبين الأسس الانطولوجية  التي تكون مقومات هذا الكائن الذي يتميز (عن غيره من الكائنات التي تقع طوع البنان وتحت اليد "zuhande"  بالانوجاد   "EK-sistenz " فالهدف الوحيد من هذا التحليل الانطولوجي هوالتعرف على ماهية ذلك الكائن القادر وحده على طرح السؤال عن الوجود والمتميز عن غيره بفهم محدد للوجود.  وهذا ما لن يتأتى إلا بفضل دراسة فينومينولوجية لأنماط وجودنا (القلق. الهم. الوجد. الكلام. الموت...الخ.) وعن ذلك يقول ايمانويل لفيناس : "يشكل كتاب (الوجود والزمان ) ثمرة وازدهارا للفينومينولوجية الهوسرلية.  فقيمة المخزون الرائع للمنهجية الفينومينولوجية تم إبرازها من طرف هيدغر في أعماله الأولى وخصوصا في تحليله الفينومينولوجي للقلق كنمط أساسي لوجودنا "[3].

لا سبيل إذن لاستعادة السؤال عن الوجود إلا بتحليل السائل (الدازين) ولن نستطيع تناول السؤال كله تناولا موضوعيا ما لم نمهد له بالبحث في طبيعة وخصائص وجود هذا الذي يضطلع بمهمة استعادته وطرحه.  فهوالدرب الآمن إليه. ولا ينبغي أن يفهم من حديث هيدغر عن الدرب الآمن أن التحليل الانطولوجي للدازين تحليل هامشي في سياق استعادة السؤال عن الوجود.  ذلك أن استعادة /إيقاظ الفهم للسؤال عن الوجود يتطلب هذا التحليل الانطولوجي للسائل (الدازين) الذي يتميز عن غيره من الكائنات بانهمامه بالوجود.

ولا ينبغي أيضا أن يقع في الاعتقاد أن تحليل الدازين يتصل بما قد يتبادر إلى الذهن من تحليلات سيكولوجية وأنثروبولوجية. فالهدف الوحيد من هذا التحليل هوالتعرف على ماهية الدازين باعتباره موجودا قادرا على السؤال عن الوجود أولا ومتميزا عن غيره بفهم محدد للوجود ثاني. وعليه.  فإن التحليل الانطولوجي للدازين هونقطة البدء المعلنة للبحث الفلسفي عند هيدغر بل إنه أساس كل بحث أنطولوجي تقتضي الضرورة أن يكون أساسي. والمنهج الوحيد المناسب لمثل هذا التحليل الانطولوجي هو المنهج الفينومينولوجي ومنهج الظاهرات دون أن تعني الظاهرة مظهرا بالمعنى المبتذل للكلمة بل تعني ما يظهر نفسه بنفسه أي ما يتبدى أمام الوعي المانح الأصلي. ومن هنا أمكن القول أن الفينومينولوجيا منهج في الوصف الفلسفي ينحصر في وصف الظاهرة أي وصف ما هو معطى للوعي على نحو مباشر.  ولعل هذا ما عناه هوسرل حين كتب يقول :"إن الفينومينولوجيا وصف خالص لمجال محايد  هومجال الواقع المعاش والماهيات التي تتمثل في هذا المجال"[4].  أما عند هيدغر فإن الفينومينولوجيا ستقوم بدور علم التأويل ومن هنا تأثره  بفلسفة  دلتاي.

إن التحليل الانطولوجي للدازين مسألة مؤقتة ومهمة أولى الهدف منها شد أزرنا وإعانتنا على تحديد السؤال عن الوجود الذي يتطلب مهمة ثانية تتمثل في الاجتثاث الفينومينولوجي للانطولوجيا بالشكل الذي يسمح لنا باستشراف بواطن هذه الانطولوجي.  ومن ثمة العود إلى مصادرها الأصلية التي استعارت منها المفاهيم التي ظلت المذاهب الفلسفية تتوارثها وتنحرف بها  عن أصوله. وعلينا أن نضع هذه المفاهيم في سياقها التاريخي بدل أخدها كحقائق أزلية ما انفكت تفرز تصورات ميتافيزيقية عن الوجود.  وتلك رغبة لازمت هيدغر منذ كتابه "الوجود والزمان" أما أداته لتحقيقها فهي معول التقويض والاجتثاث. اجتثاث تاريخ الانطولوجيا لأهميته في إيقاظ الفهم للسؤال عن الوجود الذي "أصبح اليوم طي ضلوع النسيان"[5].

إن الاجتثاث الفينومينولوجي للانطولوجيا لا يعني الوقوف إزاءها موقف الإقصاء والتهميش.  ولا حتى   إخضاعها لعملية الرد الفينومينولوجي epoché(6)6 على طريقة هوسرل. وإنما الهدف منه هو اكتشاف إمكانياتها الخصبة ومعرفة ما إذا كانت  قد نظرت حقا إلى مسألة الوجود من أفق الزمان باعتباره الأفق الترنسدنتالي لكل فهم للوجود. يؤكد هيدغر منذ البداية أن منهجه هو المنهج الفينومينولوجي دون أن يأخذ بمفهوم هوسرل للفينومينولوجيا كفلسفة ترنسندتالية ترد كل شيء إلى الوعي الخالص.  إذ الواقع أن هيدغر يتنصل من الفينومينولوجيا فلسفة واتجاها  حين يجردها من طابعها المطلق من الزمان ويرجعها إلى السياق التاريخي "فإذا كان هوسرل قد فتح إمكانيات التحليل الفينومينولوجي للمعرفة.  فإن هيدغر كان أول من منح لهذه الإمكانيات أساسا وضعيا وعينيا لوجودنا اليومي.  فقد أظهر بأن البحث الفينومينولوجي الموجه نحو الحقائق والماهيات الخالدة نابع في آخر المطاف من وجودنا الزماني والتاريخي "[7] بل إن هيدغر ليجعل من الفينومينولوجيا أنطولوجيا تتجه في صميمها إلى ما يظهر الظاهرة نفسه.  وبهذا لن تكون الانطولوجيا ممكنة إلا إذا صارت فينومينولوجي.  أما من ناحية الدازين فإن الفينومينولوجيا ستصير تأويلا (وهيرمينوطيقا) يبين خصائصها وبنيته.  يقول هيدغر: "إن الفلسفة هي انطولوجيا فينومينولوجية كلية.  تبدأ نقطة انطلاقها من تأويل الدازين الذي تبث – بوصفه تحليلا لهذا الدازين – نهاية مسار كل سؤال فلسفي عند الأصل الذي صدر عنه ولسوف يرتد إليه "[8]

إن الاجتثاث الفينومينولوجي للانطولوجيا معناه في المقام الأول إماطة اللثام عن تاريخية مفاهيمها وتصوراتها للوجود.  بحيث نصبح على وعي تام بالانطولوجيا وتاريخها ونتبين حدودها ونفهمها من وجهة نظر الدراسة الفينومينولوجية التي تهيب بنا العودة إلى الأشياء ذاته. تقول الفقرة السادسة من كتاب (الوجود والزمان ) : "إن اجتثاث تاريخ الانطولوجيا مهمة ينبغي إنجازها "[9] ويكون المقصود بكلمة  destruction  في هذه الفقرة هوإحداث قطيعة[10] مع تاريخ الانطولوجيا بما هو تاريخ سوء الفهم وتفكيك التراث الفلسفي  بما هونسيان  للوجود[11].

 بيد أن إحداث قطيعة مع تاريخ الانطولوجيا لا يمكن أن تتم إلا بمجاوزته وتعديه.  كما أن تفكيك التراث الفلسفي لا يتحقق إلا بالدخول في حوار عميق مع الفلاسفة والمفكرين[12] حتى نعرف ما إذا كانوا قد نظروا حقا إلى مسالة الوجود من أفق الزمان.  وهكذا يكون إيقاظ  الفهم واستعادة السؤال عن الوجود قد اقتضى – في سياق حديث هيدغر – القيام بمهمتين اثنتين:

تفترض المهمة الأولى مجاوزة تاريخ الانطولوجيا بما هو ميتافيزيقا (أي نسيان الوجود) دون أن تعني تخطيه.  بقدر ما تعني الرجوع القهقرى إلى أساسه والعودة إلى منابعه الأصلية التي استمد منها المفاهيم التي ما لبتت أن انزاحت عن أصوله. غير أن هذه العودة لا تعني عودة في سياق الزمن.  فهي في نهاية المطاف لا تعدو أن تكون عودة إلى المحور الملازم لكل تفكير فلسفي.

بينما تفترض المهمة الثانية تفكيك التراث الفلسفي من خلال الدخول في علاقة حوار مع الفلاسفة والمفكرين من خلال نصوصهم. لا بالشكل  الذي يجعل من هذه النصوص طروسا مضى عليها آلاف السنين.  بل بالشكل الذي يجعلنا نناقشها سطرا سطرا بحيث تصبح إشكالاتها آنية.  راهنة.  حية.  يصل بيننا وبينها عمق الحوار الذي يبعثها من رقادها من جديد[13].

هكذا إذن يقتضي الاجتثاث الفينومينولوجي  للانطولوجيا خطوتين أساسيتين: مجاوزة الميتافيزيقا بما هي نسيان للوجود ومحاورة الفلاسفة بما هم إثمار لما تم بذره في الحقل الفلسفي منذ أفلاطون الذي أخطأ الطريق منذ اليوم الأول.


 -1-
مجاوزة الميتافيزيقا:

تقوم المجاوزة le dépassement عند هيدغر على حوار متباحث يسعى إلى تملك الميتافيزيقا من خلال عصوره.  وهوحوار لا يعدوأن يكون استذكارا  يروم اجتثاث الأسس التي قامت عليها الميتافيزيقا اجتثاثا يجعل من سؤال :ما هي الميتافيزيقا؟[14]سؤالا لا يستهدف إعادة تكرار المحاولات اليائسة التي تدل على أن المطلق الميتافيزيقي لا مفر منه.  بقدر ما يهدف إلى مساءلة الأصول من خلال العود إلى أسس الميتافيزيقا ذاته. لا رغبة في إحيائها  بل رجاء الوقوف على حقيقتها بإبراز التصورات التي أقامتها للوجود بغية اجتثاثه. ومن هنا كان سؤال هيدغر ( ما هي الميتافيزيقا؟) سؤالا استراتيجيا انتهى به إلى الرجوع  إلى منحدر الميتافيزيقا حيث يقبع فعل النسيان (نسيان الوجود). وهيدغر بهذا الرجوع  إنما يكون قد خطى خطوة حاسمة على سبيل مجاوزة الميتافيزيقا بالشكل الذي جعل مسألة المجاوزة ترتبط من جهة أولى بالتساؤل عن هذا الذي تنبغي مجاوزته طالما أنه "لا يمكن أن نتمثل مجاوزة للميتافيزيقا إلا انطلاقا من الميتافيزيقا ذاتها"[15] كما  "لا يمكن أن نتخلص من الميتافيزيقا مثلما نغير رأيا من آرائنا "[16] وترتبط من جهة ثانية (المجاوزة ) بضرورة القيام بخطوة إلى الوراء بغية تملك أسس الميتافيزيقا بالكيفية التي تمكننا من"التفكير في المجاوزة في علاقتها بتاريخ الوجود.  وهي علامة تبشر بإعلان ابتداء فهم نسيان الوجود"[17]

ويوضح هيدغر في مقدمة "ما هي الميتافيزيقا " أن حقيقة الوجود تشكل الأساس الذي تستقر فيه الميتافيزيقا ومنه تتغذى بوصفها شجرة الفلسفة التي تحدث عنها ديكارت.  ولكن الشجرة لا تكاد تكبر وتينع حتى تنصرف الميتافيزيقا كليا إلى الاهتمام بها وحدها مستدلة حجب النسيان على الجذور وعلى الأساس.  وإنها لترسل العصارة كلها إلى الجدع وفروعه ولا تعود مكترثة بالأساس[18]. إن الميتافيزيقا التي هي بمثابة جذور لشجرة الفلسفة تنسى أصلها حين تنسى حقيقة الوجود وتنصرف كليا إلى الاهتمام بالموجود.  إنها لا تجيب عن السؤال المتعلق بحقيقة الوجود ولا تطرحه أبدا بل وتعمل على الحيلولة دون طرحه لأنها لا تفكر في الوجود إلا باعتباره متمثلا في الموجود.  إن تفكيرها في الوجود يتم انطلاقا من الموجود وفي اتجاهه.  وهكذا فإن خطاب الميتافيزيقا –حسب هيدغر – يتحرك من بدايته حتى نهايته في هذا الخلط بين الوجود والموجود[19]. ويبرهن هيدغر على ضرورة مجاوزة الميتافيزيقا بأن السؤال عن الوجود لم يسأ فهمه فحسب.  وإنما غاب في متاهات النسيان على الرغم من كل اهتمام بالموجود.  وتاريخ الانطولوجيا  عند الإغريق أوضح دليل على ذلك.  فقد عمدت إلى إغفال السؤال عن الوجود على الرغم من تعدد مشاربها وأشكاله.  ومن ثم كان السؤال عن الوجود مشكلة قائمة وستظل قائمة. والمهم عند هيدغر هوالتفكير فيها لبناء استراتيجة  تتوخى مجاوزة كل الأطروحات التي كونتها الميتافيزيقا عن الوجود.  ذلك أن الميتافيزيقا لا تنظر إلى الوجود إلا من جهة الموجود.  وهي إذ تطرح مسألة الوجود فإنها تطرحها من دون شك بذات الكيفية  التي تطرح بها بقية المشاكل. إن الميتافيزيقا تتساءل : ما هوالموجود؟ تتساءل عن وجود الموجود انطلاقا من الموجود. تتساءل : ما هذا الذي يكون في الزمان ؟.  ما إن يطرح الفكر الميتافيزيقي هذا السؤال حتى يكون قد عرف ما يعنيه بالموجود وما يقصده بلفظ الوجود. الموجود عنده هوالحاضر. هوالماثل. والموجود يزداد وجودا كلما ازداد حضورا.  كلما امتد قيامه وكلما طالت مدة قيامه[20].

وهكذا يكون المنسي في الفكر الميتافيزيقي هوهذا الاختلاف الانطولوجي بين الوجود والموجود.  ومن ثمة فان استعادة التساؤل الأصلي حول الوجود لا يمكن أن يكون إلا ثمرة لاجتثاث الميتافيزيقا ومجاوزته. والفكر الأساسي عندما يتوجه بالسؤال إلى أسس الميتافيزيقا ذاتها للحفر فيها وتفكيكها يصبح بإمكانه أن يحدث شروخا عميقة في صرحها[21].

وإذ ينتقد هيدغر الميتافيزيقا ومفهومها عن الوجود الذي حولته إلى مجرد موجود متعال( ومن هنا طابعها التيولوجي) فإنه لا يريد استبدال كائن بكائن أسمى  بل يريد قلب الإشكالية وكيفية طرح السؤال  فيسأل عن الوجود لا من جهة وجود هذا الموجود وذاك بل من جهة أن الوجود بما هوكذلك يمثل هما وانشغالا لدى الإنسان المفكر والمتسائل على الدوام.

إن الوجود بما هوكذلك ليس محل إدراك ووعي ذاتي وبرهان منطقي.  لأنه ليس وجودا ثابتا يوضع أمام ذات مفكرة.  إنه مجرد إمكانية تضمر أكثر مما تظهر وهوكما  ذهب أنكسمندريس من ذي قبل أفق ما يفتأ يجيء دون أن يحضر.

2-محاورة الفلاسفةًُ

نصل الآن إلى الخطوة الثانية التي يقتضيها الاجتثاث الفينومينولوجي للانطولوجيا وهي ما أسميناه بمحاورة الفلاسفة التي لا تنفك عن حوار مع تاريخ الميتافيزيقا باعتبار هؤلاء   الفلاسفة أبطالا فاعلين في هذا التاريخ من جهة وباعتبارهم إثمارا لما تم بذره في حقل الفلسفة من قبل أفلاطون من جهة ثانية.

إن محاورة فلاسفة ليست قدحا في علمهم.  وليست أيضا بخسا لحقهم في التفكير. فهؤلاء الفلاسفة ما فتئوا يفكرون.  وتفكيرهم لا يعني قط أنهم يفكرون تفكيرا خاطئا  بل  يعني فقط أنهم لم يبلغوا درجة الفكر بعد. إن فلسفتهم بما هي فكر لم ترق إلى درجة الفكر بعد. لا لأنها تمهد له  بل لأنها لا تفسح له  مجال الظهور.  وهكذا تظهر لنا الفلسفة كتاريخ في الاستمرار الحافل بالموجود بالشكل الذي يسوغ القول بأن فلسفة ديكارت وكانط  وهيجل  ظلت محكومة بميتافيزيقا أفلاطون  وأرسطو.  ذلك لأنهم  ظلوا يتحركون داخل السؤال الميتافيزيقي نفسه: ما هو الموجود؟[22]  

إن الهدف من محاورة الفلاسفة هو تعديهم صوب النفاذ إلى عمق التجربة اليونانية الأصلية التي ارتبطت منذ القدم بالسؤال عن معنى الوجود.  والكشف عن الحدث الذي كانت تنطوي عليه رؤية أوائل الإغريق له.  وهذا هو الملمح الفينومينولوجي الذي اكتشفه هيدغر عند فلاسفة الإغريق في فجرهم الشاعري ودعاهم إلى الاهتمام بمشكلة الوجود قبل أن يستحيل اهتمامهم بهذه المشكلة -على يد أفلاطون ومن جاءوا بعده- إلى مجرد دراسة للمقولات التي تفهم وفقها الأشياء  ،فلم يركز الفلاسفة الإغريق  منذ أفلاطون على الوجود بصفة عامة. بل هم قد انصرفوا إلى تحديد كيفيات الموجود.

أما في العصور ا لوسطى  فقد اقترن عجز الفلاسفة المدرسيين عن إدراك الاختلاف الانطولوجي بين الوجود والموجود بميل مستمر نحو النظر إلى الإنسان بوصفه (شيء) و(جوهر) يتمتع بكيفيات  محددة ومندمجة في الزمان.

ثم جاء الفلاسفة المحدثون فراحوا ينظرون إلى الإنسان نظرة عقلية مجردة وكأنما هو مجرد ذهن لا يحتك بالعالم إلا من خلال عملية المعرفة المنفصلة.  وهكذا اعتبر الفلاسفة المحدثون علاقة الذات بالموضوع علاقة جوهرية وأساسية ولم يهتموا بإثارة مشكلة الوجود.  بل نظروا إلى الوجود على أنه مقولة منطقية ومحمول عادي لعله يكون أكثر المحمولات شكلية وتجريد.  ومن تم كان الخطأ الأساسي  للفلاسفة منذ أفلاطون[23] أنهم ظنوا أن الوجود كيان موضوعي مفارق للذات.  فقاموا بفصل الواحد عن الآخر فظهر موضوع مستقل تماما عن الذات وظهرت ذات متعجرفة متكبرة تحاول أن تفرض صورتها على الكون وأن تحتل مركز الكون.  وهذا هو الموقف الامبريالي الذي يسم الذات الديكارتية المتحصنة بوهم اليقين. أما هيدغر – شأنه شأن  هوسرل ونتشه قبله –  فيحاول أن ينظر إلى الواقع دون المنظار الديكارتي. كما أنه يرفض – شأنه شأنهم – ثنائية الذات والموضوع، وينظر إلى الوجود باعتباره الاثنين مع. حيث تصبح الذات كامنة تماما في الموضوع حالة فيه.  وحيث يطوق الموضوع الذات ويذيبها فيه. ومن هنا اهتمام هيدغر بالفلسفة اليونانية لما قبل سقراط وهي فلسفة لم تعان من انقسام الذات والموضوع وترى أن الواحد هو الكل[24] إن عودة هيدغر القهقرى صوب الفلاسفة الما قبل سقراطيين ليست عودة في سياق التاريخ. إذ ليس هؤلاء الفلاسفة بلحمهم وشحمهم هم ما يهم هيدغر بالذات[25] بقدر ما يهمه هؤلاء كأفق للتفكير وكسؤال يستدعي ذاته.  فراح يلتمس عندهم منبع الاندهاش وأصل التفلسف ونور الوجود.

إن عودة هيدغر إلى فكر أوائل الإغريق لا تعدو أن تكون مثولا أمام محكمة الفكر الصارم ومقتضياته.  طالما أن بداية كل فكر إنما توجد في الفكر الإغريقي  وطالما أن التفكير في الوجود يقتضي العودة إلى ما يدعوه "jean beaufret"   بالمحور الملازم  لكل تفكير فلسفي[26]. فإذا كان هوسرل قد تحدث عن الرد الفينومينولوجي epochè فإن هيدغر يتحدث عن عملية اجتثاث للفلسفات السابقة.  بل ولكل الانطولوجيا الغربية.  انطولوجيا نسيان الوجود.

والواقع أن السمة البارزة للاجتثاث الفينومينولوجي للانطولوجيا هوما يطلق عليه هيدغر "المجازفة بخطوة إلى الوراء" وهذا ضرب من التفكير استوحاه هيدغر من نتشه[27].  أما الهدف من هذه الخطوة إلى الوراء فهو إعادة الحبك الفلسفي من جديد والمباشرة ببدء يصبح فيه التفلسف قادرا على تجربة الوجود كاختفاء.  ومن ثمة الوقوف عند الأصل الذي انبثق منه هذا الذي تحاول فينومينولوجيا هوسرل القبض عليه في الفكر المعاصر من خلال قصديه أفعال الوعي والشعور.

أما سبيل هيدغر إلى هذا البدء –الأصل فهو المنهج الفينومينولوجي[28] وإن كان هيدغر يحمل على هوسرل ومنهجه أنهما ما برحا عتبة الميتافيزيق[29] السببين اثنين في نظر  " jan patocka "  أولا،  لأن فينومينولوجيا هوسرل لم تتخلص ول وعلى مستوى المنهج من سؤال الميتافيزيقا "ما هو الموجود؟".   والثاني، لأن هيدغر يريد تخليص الانطولوجيا من السيكولوجيا التي ظلت دائمة الحضور عند هوسرل[30]

 بناء على ما سبق.  يمكن أن ننسب للفينومينولوجيا عند هيدغر وظيفتين اثنتين اقتضاهما فعل اجتثاث الانطولوجيا: وظيفة تأسيسية ووظيفة تبئيرية. فأما الوظيفة التأسيسية  فقد اتضحت معالمها في التحليل الانطولوجي للدازين.  فمن خلال هذا التحليل سعى هيدغر إلى تأسيس نظرية أنطولوجية في الوجود الإنساني  تقوم على الدراسة الفينومينولوجية  لأنماط  وجودن.  أما الوظيفة التبئيرية  فقد  تجلت بوضوح في الاجتثاث الفينومينولوجي للانطولوجيا الذي وقفنا عند أهم معالمه في هذه المحاولة. علما أن للفينومينولوجيا أيضا بعدا تأويليا يبدو بوضوح في تحليل هيدغر للكلام والفهم في "الوجود والزمان" وهو تحليل خلص فيه إلى أن انعدام وظيفة المشاركة التي يؤديها الفهم يجعل الكلام يتعثر في طريقه إلى الأوهام والأذهان.

وجملة القول أنه بفضل تجديد فينومينولوجيا هوسرل  واستلهام نتشه  وتحرير انطولوجيا أوائل الإغريق من شوائب الميتافيزيقا  تمكن مارتن هيدغر من تحويل اتجاه الفكر الفلسفي من التساؤل حول إمكان الميتافيزيقا (كانط. هيجل) إلى البحث عن إمكانية اجتراح أفق للممارسة الفلسفية خارج قوارير الميتافيزيقا( دريد. فوكو. غادامير...)[31] لعمري إن هيدغر بعمله هذا إنما يكون قد حقق بشارة نتشه حين قال: "إن على الفلسفة أن تحافظ على سمتها لتحافظ بذلك على خصوبتها الأبدية لكل ما هو الاجتثاث الفينومينولوجي للانطولوجياعظيم " [32]



[1]-M.Heidegger : être et temps. tr f.vizin ; éd Gallimard,  Paris , 1986 p :21.

[2] - كلمة ألمانية تعني الوجود (sein) هنا da)) ولكن هيدغر يقصد بها ذلك الكائن القادر على طرح السؤال عن الوجود والذي يكون دائما على علاقة بالوجود. و"الآنية" هي الترجمة التي اقترحها د.ع الرحمان بدوي للكلمة الأصلية. وهي من اصطلاحات الفلاسفة الإسلاميين ومعناها كما جاء في اصطلاحات  الصوفية  لكمال الدين عبد الرازق الكاشي: "تحقيق الوجود العيني من حيث رتبته الذاتية " وهي تستعمل عادة في مقابل "الماهية " كما في قول أبي البركات البغدادي  "وكذلك الوجود يشعرون بآنيته وإن لم يشعروا بماهيته"(الزمان الوجودي.ص:  4.5) أما المفكر الفرنسي beaufret  J.  فيترجم كلمة (da-sein) بالواقع الإنساني.  وقد أثنى هيدغر في رسالته إليه على هذه الترجمة حين كتب يقول : "إن ما تقولونه عن ترجمة كلمة (da-sein)بالواقع الإنساني صحيح كل الصحة. وممتازة هي كذلك  ملاحظتكم : إذا كان للغة الألمانية منابعها فإن اللغة الفرنسية حدودها"1.علما أن كلمة (da-sein ) هي المفتاح الأساسي  للبحث الفلسفي عند هيدغر وعن ذلك يقول:"إن مصطلح ((da-seinهوالكلمة المفتاح لتفكري...إن da-sein  لا  يعني لي ها أندا بل يعني إذا جاز لي التعبير عن ذلك بفرنسية شبه مستحيلة (être –le-la ( 2
(1), (2) : M. Heidegger : Lettre sur  l’humanisme, in questions III.tr munier

éd : Gallimard.Paris  1966.pp :73.157

éd : Gallimard.Paris  1966.pp :73.157

 

[3] - انظر حوار لفيناس مع ريتشارد كيرني ضمن كتاب "مدخل إلى فلسفة إيمانويل لفيناس " ترجمة:إدريس كثير. ع الدين الخطابي.منشورات اختلاف (18) ط.2003.ص.8.  علما أن لفيناس كان قد وضع فلسفة أنطولوجية تستبدل سؤال الوجود بسؤال 1-M.Heidegger : être et temps. tr f.vizin ; éd Gallimard,  Paris , 1986 p :21.

1-M.Heidegger : être et temps. tr f.vizin ; éd Gallimard,  Paris , 1986 p :21.

الإنسان. فكان أن وجه فلسفته كلها من الوجود إلى الموجود بالشكل الذي قلب البناء الهيدغري كله رأسا على عقب. يقول لفيناس بهذا الصدد:"إذا ما كانت تأملاتنا في البداية تستلهم في جانب كبير منها فلسفة هيدغر. خصوصا بالنسبة لمفاهيم الانطولوجيا وعلاقة الإنسان بالوجود. فإنها كانت خاضعة لرغبة عميقة في ترك أجواء هذه الفلسفة ولقناعة لدينا بأنه لا يمكن الخروج منها باتجاه فلسفة يمكن أن ننعتها بما قبل الهيدغرية " (E.Levinas : De l’existence à l’existant, éd de la revue Fontaine. Paris ,1974 p : 19

 

[4] - زكريا ابراهيم: دراسات في الفلسفة المعاصرة.  الجزء الأول.  مكتبة مصر.  1968.  ص :138.

[5] - être et temps. p : 25

[6] - مصطلح من أصل إغريقي يعني "الانقطاع والتعليق" ووضع العالم بين   قوسين. وقد كان يدل عند الشكاك الإغريق الأوائل على تعليق وإلغاء الحكم " إن Epoché هوتعليق الحكم "1  قيل في هذا الصدد  "إننا لا ننفي أي شيء كما أننا لا نثبت أي شيء "  بيد أن هذا المفهوم يتخذ عند هوسرل معنى خاص.  فهووضع المشكلة الديكارتية المتعلقة بوجود العالم الخارجي بين قوسين. ذلك أن ديكارت  عندما وظف شكه المنهجي للوصول إلى اليقين. مارس في نظر هوسرل اقتطاعا وتوقفا غير مقبول من الناحية المنهجية.  لأنه كان مثل السفسطائي في تفكيره. خصوصا عندما شك في وجود العالم الخارجي ولم يشك في ذاته. وبهذا الصدد يقول هوسرل: "إنني لا أستطيع أن أتقدم بأحكام مطلقة تتعلق بالوجود الخارجي"3. علما أن هوسرل يميز بين نوعين من التوقف والانقطاع  هما: التوقف التاريخي (الذي يغض الطرف عن سائر المذاهب الفلسفية لأن الفينومينولوجيا لا تهتم بآراء الآخرين بل تتجه إلى الأشياء ذاتها) والتوقف الماهوي (الذي يضع الوجود الفردي للموضوع  بين قوسين. لأن الفينومينولوجيا لاتهدف إلا إلى الماهية). وقد أضاف هوسرل في كتاباته الأخيرة نوعا آخر من التوقف الترنسندنتالي  ويقوم هذا التوقف على وضع كل مالا يمت للوعي الخالص بصلة بين أقواس.

1, 2,3 :E.Husserl : introduction à la phénoménologie, éd.vrin.Paris  1968..pp :26-28.

[7] -" مدخل إلى فلسفة ايمانويل لفيناس ".مرجع مذكور.ص:9.

[8] - être et temps.p :66

9-être et  temps.p :45

[10] -   نشير إلى أن فكرة القطيعة مع الماضي شكلت موضوعا للخطاب الفلسفي  الهيدغري خلال العشرينات من القرن الماضي.يقولKarl lowith  في هذا الصدد:"كان هيدغر يلح على ضرورة الاقتلاع من الجذور والتقويض من الأساس من اجل الوصول إلى ذلك الشيء الذي يكون وحده ضروريا"1.

    (1)- أنظر : ع الرزاق الدواي :" موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر".  دار الطليعة للطباعة والنشر.  بيروت.   دجنبر 1992. ص:43.

[11] - - 11لا يتعلق الأمر هنا بفعل سيكولوجي / مرضي اعترى انتباه الفلاسفة إذ " لا يتعلق الأمر هنا بمسألة سيكولوجية الفلاسفة وإنما يتعلق بتاريخ الوجود "1
إن النسيان يعود إلى خاصية التواري والانحجاب التي تميز الوجود نفسه بما هوأفق ما يفتىء يجيء دون أن يحضر.


(1)-M.Heidegger: Nietzsche II, tr : p.klossowski, éd : Gallimard, Paris 1971.p :394

[12] -   وبل تأويل هيدغر للفلاسفة الذين اهتم بهم بتحفظات كثيرة من قبل بعض المختصين في تاريخ الفكر والفلسفة.أنظر بهذا الصدد

Reuben Guilead : être et  liberté : une Etude sur le Dernier Heidegger, éd Nauwelearts, Paris 1965.pp :68-70

[13] - يقول الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي بالموازاة مع المعنى الذي أثبتناه :"ليست النصوص ذهنية سيكولوجية ولا حياة نفسية. وهي لا تنطوي على نيات ومقاصد يكون علينا بلوغها لإدراك معانيه. إنها ليست إبداعات وإنما هي إنتاجات يعاد إنتاجها "  (عبد السلام بنعبد العالي :" ثقافة الأذن وثقافة العين".دار توبقال  للنشر.ط1.  1994 ص:43.  

[14] -  يعطي هيدغر لكلمة ميتافيزيقا معنا عاما وعائما يتجاوز كل التحديدات المتعارف عليها في تاريخ الفلسفة. فالكلمة تحيل في سياق حديث هيدغر على مجموعة متنافرة من المذاهب الفلسفية والتيارات السياسية والحركات العلمية التي يمتد ظهورها من أنكسمندريس حتى نتشه والتي تشترك جميعها في خطيئة نسيان الوجود. وقد تبلورت تلك المذاهب الفكرية فيما يدعوه هيدغر بميتافيزيقا الذاتية.

ومعلوم أيضا أن كلمة ميتافيزيقا كانت تؤخذ في معنى انتقاصي قدحي منذ أواسط القرن 17 م وقد تجلى ذلك على وجه الخصوص عند مختلف التيارات الفكرية التي اتسمت بالصبغة العلمية كالاتجاه الوضعي والفلسفة التحليلية والمادية الجدلية.  كما تجلى عند مفكرين عاشوا في ذلك المناخ مثل نتشه. ويذهب الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي في هذا الصدد إلى القول إن مختلف هاته الهجمات التي تعرضت لها الميتافيزيقا لم تكن لتقضي على الوهم الميتافيزيقي.إذ سرعان ما عادت  تيارات ميتافيزيقية إلى الوجود وسرعان ما وقعت تلك الاتجاهات ذاتها في حبال الميتافيزيقا سواء وعت ذلك ولم تعه. -انظر مقالا بعنوان: علم الإيديولوجيات وموت الميتافيزيقا . مجلة أقلام. عدد 6. يناير 1979

[15] - M.Heidegger : dépassement de la métaphysique, in Essai et conférences, tr..A.Préan, éd : Gallimard, Paris 1958.p :90.

[16] -Ibid.p : 81

[17] -Ibid.p :92

[18]- عبد الرزاق الدواي: "موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر". دار الطليعة للطباعة والنشر.  بيروت. 1992. ط1. ص: 47

[19] - 9 نفس المرجع. ص: 48

[20] - M.Heidegger : qu’appelle –t-on penser, tr, g.granet et a.beker, éd, p.u.f, paris, 1967, 2eme éd, p : 74

[21] - M.Heidegger : chemins qui ne mènent nulle part, tr : w.brokmeir, éd : Gallimard, paris, 1967.p :296

[22] -ibid, p : 129

[23] -  للاطلاع على أشكال الحوار التي عقدها هيدغر مع الفلاسفة وبالأحرى مع تاريخ الفلسفة من أجل مجاوزته.  يمكن الرجوع إلى نصوصه العديدة في هذا الباب ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

-Kant et le problème de la métaphysique

-la phénoménologie de l esprit de Hegel

-Nietzsche, tome 1 et 2

-La doctrine de Platon sur la vérité. In question 2

-Schelling, la traite de 1809 sur l essence de la liberté humaine

[24] -  يقول هيراقليطس في الشذرة الخمسون:" إذا رغبتم في الإصغاء لا إلى نفسي بل إلى -

اللوغوس فإنه لمن الحكمة الإقرار بأن الواحد هوالكل"1
     1:
فريدريك نتشه: الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي. تقديم ميشيل فوكو.. تعريب: د. سهيل القش. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.  ط2.  بيروت 1983 ص: 105

[25] - يقول هيدغر بهذا الصدد: "إننا لا نبحث في الفكر الإغريقي حبا في الإغريق وطلبا للمعرفة وسعيا  وراءها  فليس الإغريق  في استعمالاتنا اللغوية خاصية عرقية ولا موطنا ولا ثقافة وحضارة.  الإغريق فجر قدر انكشف على ضوئه  الوجود كموجود".

1 :M.Heidegger : chemins……..p : 274

[26] - 26-jean beaufret:de l existentialisme a heidegger. Ed ; vrin. Paris, 1968, p : 102.

[27]  عبر هيدغر عن هذا النمط  من التفكير في نص نشر له سنة 1958 تحت عنوان :( الهوية والاختلاف) مستلهما إحدى شذرات نتشه "إننا نجازف بخطوة إلى الوراء

[28] - هذا ما يوضحه هيدغر في الفقرة السابعة من كتاب" الوجود والزمان" التي تحمل لها عنوان "المنهج الفينومينولوجي للبحث".

[29] -  يشير هيدغر في هذا الصدد إلى أن مفكري الأزمنة الحديثة  كلهم وبدون استثناء  من ديكارت إلى نتشه وحتى  مفكري  عصر التقنية بمن فيهم هوسرل  قد أولوا الوجود كتجل في صورة الذاتية وصاغوا تأسيسا على ذلك   تصورات ذاتية عن الحقيقة والإنسان. وهكذا يكون جميع أولئك الفلاسفة  مهما تعددت مشاربهم ومقاصدهم  مواصلين لنفس الإشكالية التي طرحها ديكارت الذي ظل بنفسه محكوما بميتافيزيقا أفلاطون وأرسطو.وفي هذا الإطار يتحدث هيدغر في كتاب"طرق موصدة" عن أفلاطونية ديكارت وعن القلب النتشوي للأفلاطونية.  فقد ظل هؤلاء الفلاسفة جميعا يتحركون داخل السؤال الميتافيزيقي : ما هوالموجود؟ومن غرائب الصدف أن تلميذ هيدغر jan patocka يذهب في محاضرته:

La fin de la philosophie est elle possible ? إلى القول أن محاولة هيدغر لمجاوزة الميتافيزيقا ما هي إلا تصحيح للسؤال التقليدي ما هوالموجود؟

[30] - - jan patocka : La fin de la philosophie est elle possible ? In Platon et Europe, éd : verder-philo.Paris 1983 p 261

[31] - يقول جاك دريدا بهذا الصدد:"إن ديني لهيدغر هومن الكبر بحيث أنه سيصعب أن أقوم بجرده والتحدث عنه بمفردات تقييمية وكمية.أوجز المسألة بالقول أنه هومن قرع نواقيس نهاية الميتافيزيقا وعلمنا أن نسلك معها سلوكا استراتيجيا يقوم على التموضع داخل الظاهرة وتوجيه ضربات  متوالية لها من الداخل (....) تفصح عن تناقضها الجواني" (جاك دريدا : الكتابة والاختلاف. ترجمة : كاظم جهاد تقديم : محمد علال سيناصر. دار توبقال للنشر 1989 الدار البيضاء ص: 47

[32] - jean beaufret : de l existentialisme a Heidegger.p.106.