ص1       الفهرس 91-100 

التيارات النقدية الجديدة

الأصول النظرية وشروط الاستنبات

سعيد بنگراد

I

 اجتاحت الساحة النقدية العربية في السبعينيات من القرن الماضي موجة من التصورات الجديدة كانت جميعها تطمح إلى إعادة النظر في كل قطاعات المنتوج الأدبي. وتلك كانت هي البدايات الأولى التي أعلنت عن ميلاد مرحلة جديدة ستعرف ظهور ما سمي"النقد الجديد". وكان الأمر يتعلق بتصور نقدي يستند في ممارساته تارة إلى البنيوية وتارة إلى السميائيات، بتوجهاتها المختلفة، وتارة إلى جماليات التلقي، ومرات قليلة إلى التيار التفكيكي الذي لم ير النور أبدا في البيئة الثقافية العربية إلا على شكل إحالات جزئية لم تشكل في يوم من الأيام تيارا مستقلا بذاته. والحاصل في كل هذا ظهور إبدال نقدي جديد يسلم بـ"وحدة الظاهرة الدلالية" ويُشرط الوجود الإنساني بقدرته على إنتاج المعاني وتداولها. استنادا إلى هذا الإبدال ستعرف الممارسة النقدية، اتجاها جديدا سيعيد النظر في أدوات التعاطي مع كل الوقائع، كما سيعيد النظر في مفهوم النص وفي مكوناته وبناه الداخلية وطريقته في إنتاج معانيه.

وبغض النظر عن المردودية الحقيقية لهذه القراءات، وبغض النظر عن درجة استيعابها للمتاح المعرفي الذي وفرته الحضارة الإنسانية المعاصرة، فإن النقد الجديد ساهم، بهذا الشكل أو ذاك، في زعزعة الكثير من القناعات الراسخة التي كانت تنظر إلى النص باعتباره مستودعا لمعاني جاهزة بالإمكان التعرف عليها كليا أو جزئيا استنادا فقط إلى قدرة المحلل على الكشف عن "الظاهر" و"المستتر" من العوالم الدلالية التي يبنيها النص، سواء تم ذلك من خلال البحث عن العلل الدفينة للدلالات في ذات المؤلف أو في محيطاته البعيدة والقريبة، أو تم ذلك من خلال ربط الأعلى بالأسفل في أفق الكشف عن الرابط الخفي بين وعي للحياة -حقيقي أو مزيف- وبين بنيات اقتصادية هي العنصر الحاسم في تمثل مظاهر الحياة، وفي ظهور كل الأشكال الخاصة بتنظيم المضامين وتوزيعها على جزئيات السلوك اليومي.

ومن أجل تأسيس هذا التصور كانت العودة من جديد إلى ما يُعد المادة الرئيسة التي يتشكل منها الأدب ويمثل أمام القارئ باعتباره وقائع "مصنوعة" تتخذ شكل نصوص مستقلة بذاتها. إن الأمر يتعلق باللغة وبكل ما تختزنه من تصورات عن موجودات هذا الكون : الإنسان والأشياء وباقي الكائنات الحية، وكذا ما أنتجه المخيال الإنساني في رحلته الممتدة طويلا في عمق زمنية لا نعرف عنها إلا الشيء القليل. فالأدب ليس شيئا آخر سوى العوالم التي تبنيها اللغة وتكشف عنها. لذلك، "فالحديث عنه يقود بالضرورة إلى الحديث عن اللغة، ولا يمكن الحديث عن اللغة دون الاطلاع على  الإنجازات التي حققتها اللسانيات والتحليل النفسي. ومن المستحيل أيضا الوقوف عند هذه الأعمال دون التساؤل عن فلسفة خاصة بالوجود الإنساني كله. وفي نهاية المطاف، علينا بالضرورة استحضار التصور الخاص بالإنسان باعتباره كيانا مودعا داخل اللغة وأحد منتجاتها. حينها سيسقط كل شيء : الحس السليم والبديهيات الطبيعية والسيكولوجيا"[1].

وهناك في تصوراتنا للوجود ما يبرر ذلك، فالعالم الخارجي ليس سوى مجموعة من الموضوعات المتناثرة في فضاءات ممتدة في كل الاتجاهات : الأشياء والوقائع والأفعال والممارسات المتنوعة. واستنادا إلى هذه الموضوعات يمكن الحديث عن سلمية تقويمية مستحدثة تمنحنا القدرة على التمييز والتصنيف وعزل الظواهر عن بعضها البعض، وهي بذلك نسبية ولا يمكن إدراكها إلا ضمن السياقات الثقافية المخصوصة. لذلك، فإن هذا العالم الطبيعي الخالي من أي استثمار دلالي، لا يمكن أن يتأنسن إلا من خلال تحويل الأشياء إلى علامات. حينها، وحينها فقط، تتخلص الأشياء من بعدها الوظيفي لكي تصبح خزانا لكمية هائلة من المعاني تشير، خارج وظيفة التعيين أو ضدا عليها، إلى مواقع متنوعة داخل الامتدادات الرمزية اللامتناهية للكائن البشري في كل ما يحيط به.

وذاك هو الحد الفاصل بين "الوظيفة" و"المعنى"، بين النفعي المباشر وبين التحديد الرمزي. فالوظيفة تشير، ضمن هذه الثنائية، إلى نشاط بعينه، أما "المعنى فثابت لا يتزعزع، إنه سلسلة من الروابط. وضمن هذه الثنائية يعيش الشيء حالة صراع قوي بين حركية وظيفته وسكونية دلالته. يقوم المعنى بتثبيت الشيء ويحوله إلى كيان مكتف بذاته ليمنحه موقعا داخل ما يمكن أن نسميه مشهدا حيا داخل المخيال الإنساني"[2] في حين تقوم الوظيفة بإدراج الشيء ضمن مردوديته داخل المناطق النفعية للحياة. إن الأمر يتعلق بالفاصل الذي يقود إلى بناء عوالم الممكن والمحتمل من خلال الفصل بين الشيء وماديته، بين حضوره الفعلي، وبين دلالاته التي لا يمكن إدراكها إلا من خلال استقرارها في سياقات قابلة للتحيين الرمزي."فالشيء يمتلك معنى عندما يتحول إلى حامل لواقع يتجاوزه" على حد تعبير سارتر[3].

ومن هنا كانت فكرة التوسط الإلزامي التي تحكم وعي الإنسان لعالمه، فالتوسط هو ما يبرر ويعلل ويضمن استقبالا سلامة الإحالة من الدال إلى المدلول، من الأول إلى الثاني، من هشاشة التعيين المباشر، إلى الإمساك بالجوهر المجرد القابل للتعميم. وهو ما يعني، بعبارة أخرى، أن "الذات لا يمكن أن تعي نفسها بشكل مباشر خارج كل الوسائط، فالعلامات التي أودعتها الثقافة في الذاكرة والمخيال[4]، هي الشرط الضروري لإنتاج معرفة "قابلة للتجريد والاستهلاك والتداول. وخارج التجريد والتعميم ليس هناك سوى "التجربة الصافية" على حد تعبير بورس، إحالة بلا أفق أو ضابط أو قانون، كائنات وأشياء لا تستقر في الذاكرة إلا على شكل أحداث عرضية، وستتلاشى من تلقاء ذاتها بمجرد ما تنتفي الشروط المباشرة التي أنتجتها. وتلك هي الخاصية الرئيسة في الوجود الإنساني، وهي الخاصية ذاتها التي أباحت لنا التعامل مع الإنسان باعتباره كائنا منتجا للرموز ومستهلكا لها وأول ضحاياها.

فما يمثل أمامنا بشكل مباشر لا علاقة له، بحكم حالات التناظر الظاهري، بما يمكن أن تحيل عليه العلامات بداهة. فالعرف وحده هو الذي خلق روابط ألفها الناس بين كيان صوتي وبين مفهوم يصدق، ضمن تقطيع لغوي بعينه، على قسم من الأشياء. فالمعنى المنشود لا يوجد بشكل قبلي لا في الأشياء ولا في المواد الصوتية الدالة عليها، إنه موجود في "الانزياحات الخالقة للفوارق الخلافية، وهي انزياحات غير معطاة بشكل مباشر من خلال المادة، إنها على العكس من ذلك، نتاج المحاولات التي نقوم بها من أجل الإمساك بالشروخ الموجودة في عالم لا نعرف عنه أي شيء، فما يشكل هذه الانزياحات حقا هو العلاقة بين الظواهر والاختلافات الموجودة بينها"[5].

وبطبيعة الحال سنترك جانبا مجموعة كبيرة من القضايا الخاصة– داخل نظرية عامة للمعنى- بالعلاقات الممكنة بين العلامة وما يمكن أن تحيل عليه خارجها. فالروابط الممكنة بين كيان رمزي وامتداداته فيما يوجد خارجه يمكن أن تتحدد من خلال السياق الاستعمالي من جهة، ومن خلال النظر إلى المرجع ذاته باعتباره وحدة ثقافية[6] لا يمكن أن تكون معادلا لشيء ما إلا من خلال تجريده وتحويله إلى نماذج تشتمل على كل النسخ الممكنة للشيء. وهذا ما يصدق على حالات الإدراك المباشر ذاتها. فحتى في الحالة التي نشير فيها بشكل مباشر إلى القط الفعلي مثلا، فإن ما يتسرب إلى الذهن هو صورة عن هذا القط، أي الخطاطة المختصرة التي تحدد هوية قسم، لا الإحالة على نسخة لا يمكن أن يكون لها معادل مجرد في الذهن. "فما تتم الإحالة عليه يشكل في ارتباطه بالعلامات عالما ثقافيا لا يمكن اعتباره واقعيا ولا ممكنا بالمعنى الأنطولوجي للكلمة"[7]، إنه كيان يعيش في الذهن من خلال التمثيل الرمزي.

وضمن هذه الخطاطة الرمزية يندرج النص. فالنص الأدبي، ككل الأنساق الفنية الأخرى، بل ككل الظواهر الإنسانية الدالة، نسق من طبيعة ثانية، ذلك أن الاستعمال الأدبي يحول اللسان إلى حامل لدلالات رمزية تدفعه إلى تجاوز بعده النفعي التعييني. إن هذا التحول هو المفصل الرئيس الذي يجب الإمساك به من أجل إجلاء دلالات أخرى للنص غير ما تقوله الكلمات بشكل مباشر، فهو المبرر الرئيس للبحث عن معان أخرى غير ما تحيل عليه الكلمات بشكل مباشر."فكل دلالات العناصر المكونة للعمل الفني يجب أن تؤول وفق السنن الأدبي"[8] لا وفق موقعها داخل اللسان.

 لذلك، فإن ما نقرؤه في هذه الظواهر ليس معنى جاهزا مستقلا بذاته، فالحقيقة لا توجد بشكل مطلق في النص الغفل، إن النص فرضية للقراءة فحسب، بل مثواها السياقات التي يمكن بناؤها مع توالي القراءات وتنوعها، وهذه السياقات ذاتها هي فرضيات للقراءة تعد معطيات النص الأولية قاعدتها الأساس. إن ما نقرؤه حقا هو تحققات ممكنة للظواهر من خلال فعل التأويل، إنها عوالم خاصة يولدها استقبال النصوص المتغير باستمرار.

استنادا إلى هذا التصور العام، فإن النصوص المكتوبة والبصرية وغيرها، باعتبارها منتوجا إنسانيا، أي شكلا من "الأشكال الرمزية" التوسطية بتعبير كاسيرير[9]، ليست شيئا آخر سوى استعادة رمزية لمجموع العوالم التي تشكل ما يطلق عليه في الأدبيات السردية العوالم الممكنة. فهذه العوالم لا يمكن النظر إليها باعتبارها استعادة حرفية لوقائع "واقعية" مباشرة، بل يجب التعامل معها باعتبارها بناء ثقافيا[10]يتم في انفصال عن الواقع واستنادا إليه في الوقت ذاته، إنه العناصر التي تُبنى داخل الأشكال الرمزية ومن خلالها (بما فيها اللغة بطبيعة الحال).

إن الأمر لا يتعلق هنا سوى بمبادئ عامة هي الأساس الذي سترتكز عليه الكثير من النظريات الأدبية الحديثة من أجل بلورة تصورات خاصة بالمعنى وسبل الوصول إليه، وكذا تحديد حجمه وامتداداته فيما يحيط به، والتعرف على أنماط تجليه من خلال أشكال تعبيرية متنوعة، فالدلالة لا تكترث للمادة الحاملة لها، كما كانت تلح على ذلك كل الأدبيات البنيوية وتدعو إليه، فكل شيء يمكن أن يصبح وعاء للدلالة ومنبعا لها، يكفي في ذلك تحديد الروابط الصريحة والضمنية بينه وبين ما يمكن أن يحيل عليه.

وعلى الرغم من وجود هذا الأساس الموحد الذي انطلقت منه جل التصورات التي شكلت دعامة أساسية للنقد الجديد، فإن التطورات اللاحقة لم تكن موحدة، ولم تنظر إلى المعنى من الزاوية ذاتها، فكان أن تعددت التصورات وتنوعت إلى حد التناقض في الكثير من الأحيان.

فالمعنى قد يكون في تصور البعض محايثا للنص[11]، أي طاقة دلالية مكتفية بذاتها ومستقلة عن كل بؤر التلفظ ومودعة في النص-صراحة أو ضمنا- خارج إرادة القارئ وبعيدا عن تدخلاته، وعلى المحلل تقع مهمة العثور على ما يود النص قوله استنادا إلى هذه الوسيلة أو تلك :

- قد يكون ذلك على شكل أطروحة مسبقة. حينها لن يكون النص سوى "إخراج" سردي أو شعري، أو ما تشاؤون من الأشكال التعبيرية، لمقولة نظرية أو قيمة ما أو تصور عقائدي (شرح لإيديولوجيا دينية أو سياسية أو عرقية). وسيصبح النوع الذي ينتمي إليه النص ذاته محددا من خلال هذه الأطروحة. وسيبنى على إثر ذلك استنادا إلى جمالية قائمة على المحتمل والتمثيل[12]. فالغاية من النص هي، في المقام الأول، "الإقناع" و"البرهنة" و"التعلم". وهذا ما ميز كل الآداب التي تنتمي إلى "الواقعية الاشتراكية"، أو على الأقل في نسبة كبيرة من النصوص التي تصنف عادة ضمنها. فـ"الأطروحة النظرية" في هذه الحالة سابقة في الوجود على البناء النصي، والكم الدلالي معروف منذ الكلمة الأولى، فالنص لا يقوم سوى بتقديم معادل مشخص لفكرة مجردة. وعلى هذا الأساس، لا يبنى المعنى من خلال الوقائع، إذ ليست الوقائع سوى غطاء لمعطى مفصول عنها، إنه موجود بشكل سابق في ذهن المؤلف على شكل أحكام تامة.

- أو قد يتعلق الأمر بقصدية خاصة بالمؤلف(وفي أحسن الحالات بقصدية للنص) يمكن اختصارها في ثنائية مولدة للمضامين كما دعت إلى ذلك السميائيات السردية. فهذا التوجه ولد في أحضان علم بنيوي للدلالة هاجسه الأساس وضع اليد، من خلال سلسلة من عمليات التبسيط المتتالية،  على السنن الذي تنتهي عنده كل الأسنن[13]. حينها لن يكون النص سوى معادل مشخص، أو وجه تصويري لمحور دلالي يمكن الإمساك به من خلال رد المتنافر إلى ما يشكل وحدة تامة هي معنى النص، أو على الأقل الدلالة الكلية للنص. وهي العمليات التي يختصرها مفهوم مركزي في نظرية كريماص ، ويتعلق الأمر بمفهوم التناظر الذي يعد ضمانة على انسجام النص. فهو الأداة التي تمكننا من بلورة قراءة واحدة وموحدة للنص".

ولقد قاد هذا التصور  إلى بلورة ما يسميه كريماص "المسار التوليدي" الذي يتحكم في كل حالات المادة المضمونية. والأمر يتعلق بآلية يرتكز عليها النص من أجل التحول من مستوى سميائي سابق في الوجود على أي تجلي، إلى ما يشكل الواقعة المدرجة ضمن "مسار تصويري أو مسارات تصويرية" مخصوصة. إن عمليات التوليد تقود من محور دلالي عام يربط بين قيمتين دلاليتين مكتفيتين بذاتهما، أي غير موجهتين، إلى ما يشتغل كمعادل مشخص لكل العوالم الممكنة التي تشتمل عليها هذه الثنائية البسيطة (لقد اختصر كريماص الكون الدلالي عند جورج بيرنانوس–كاتب فرنسي توفي سنة 1948 –إلى ثنائية بسيطة هي : حياة (م) موت، موجهة حسب تحققاتها في سياقات نصية بعينها)[14].

وقد يكون النص طاقة دلالية لامتناهية لا يمكن أن ترى النور إلا من خلال القراءات المتتالية. فكل القراءات"خاطئة"، حينها تصبح كل المعاني ممكنة، ذلك أن كل الإحالات جائزة. فما هو أساسي في سيرورة القراءة ليس الوصول إلى معنى ما، أو الوقوف عند حد بعينه، فلا غاية هناك سوى الانتقال من معنى إلى آخر ضمن توالد سرطاني لا متناهي، بتعبير إيكو. فمصدر اللذة هو السيرورة التي  تقود من محطة إلى أخرى ضمن رحلة لا نعرف عنها سوى بدايتها ضمن لعبة "تأجيل" دائم، بتعبير دريدا،  يمنع الدال باستمرار من الاستقرار على مدلول ما. وعلى عكس ما تقدمه الحالة الأولى في مظهريها الأطروحي والثنائي، فإن ما نبحث عنه في هذه الحالة لا نعرف عنه في واقع الأمر أي شيء، بل لا قيمة لما يمكن أن يصل إليه المؤول، ما دامت كل النهايات هنا هي نهايات مؤقتة سرعان ما تتحول إلى بداية جديدة.

وقد يكون المعنى متعددا ومتنوعا، ولكنه محدود في الحجم والعدد محدودية سياقات النص ذاتها. فالسياقات المحتملة ضابط وتحديد مسبق، وليست تسيبا وتيهانا في بحر دلالي بلا ضفاف ولا تخوم. فالنص كما، يشير إلى ذلك إيكو، يحتوي، بحكم التكون والتحقق، على عناصر ثابتة لا يمكن أبدا تجاهلها في عمليات استقبال النص وتحديد دلالاته[15]. وتعد هذه العناصر في نهاية الأمر "مجموعة من التوجيهات التأويلية التي يجب أخذها بعين الاعتبار في كل فعل تأويلي، وإلا تحول التأويل إلى كتابة جديدة لا ضابط لها سوى هوى القارئ. فهذه العناصر تقلص من عدد المسارات الممكنة، بل قد تحد من عمليات التخيل عند القارئ ذاته"[16].

إن الأمر يتعلق بالحالة التي تمثلها السميوز (سيرورة إنتاج المعنى في تصور بورس). فالسميوز مفتوحة نظريا وقابلة للانتشار في كل الاتجاهات، إلا أنها من الناحية العملية محدودة في الحجم والتحقق. فبناء الخطاب المخصوص يقلص من حجمها ويحد من امتداداتها، فهو يحين بعضا من الدلالات ويدفع بأخرى إلى التراجع[17]. إنه يفرض عليها سلسلة من الانتقاءات تعد وحدها الضمانة على انسجام الكون أو الأكوان الدلالية.

فللتوالد الدلالي منطق وضوابط، وضماناته هي الروابط الممكنة بين ما يشكل بؤرة الانطلاق، وما يمكن تحديده كمدلولات نهائية محتملة ضمن هذه السيرورة أو تلك. ولذلك، فكل قراءة إنما هي سيرورة انتقائية تبني قصديات وتحينها من خلال خلق آثار معنوية محددة، وتلغي من حسابها ما يمكن أن يتحقق ضمن مسارات أخرى. إنها تقوم بتخدير-بتعبير إيكو- ما يحتاج إلى عملية تنشيط لاحقة ليصبح قصدية جديدة ضمن فرضية جديدة للقراءة.

وهذا ما دفع القائلين بهذا التصور إلى الاستبعاد الكلي لتلك الفكرة العزيزة على قلوب الهرموسيين*– الأوائل منهم على الخصوص- والقائلة بوجود "مركز دلالي" أصلي يمكن التعرف عليه واستعادته على شكل كم دلالي مستقل. فهؤلاء كانوا يبحثون، من خلال التأويل، عن معنى ثاني يختفي وراء المعنى الأول[18]. الثاني ثابت مستتر هو جوهر النص وغايته الأصلية، أما الأول فلا يشكل سوى التجلي المباشر لكل عمليات التوليد الدلالي. وتلك حالة النصوص المقدسة، وحالة الأعمال الفنية الكبرى التي تخفي "أسرارا" يجب الكشف عنها.

لقد كان الهرموسيون يبحثون عن معنى يعرفون عنه كل شيء، فهو سر، وككل  الأسرار يفترض عمليات كشف تقود إلى إجلاء مكنونه. ولم تكن تلك هي غاية النقد الجديد، في بعض توجهاته على الأقل. فالنشاط التأويلي في تصوره، على العكس من ذلك، لا يعرف عن المعنى سوى الفرضيات التي قد تقود إليه. فالتعرف على المعنى جزء من سيرورة تشكله، لذلك فالنقد لا يعين معنى، بتعبير بارث، بل يقتفي آثاره. 

والتصور الأخير جدير بالتأمل. فإذا لم يكن هناك قارئ "أعلى" قادر  على الإحاطة بدلالات النص من خلال قراءة شاملة وكلية[19]، فذاك افتراض لا يقبل به أشد المنظرين أصولية، فمعنى العلامات ليس مفصولا عن استعمالاتها، وإذا لم يكن المؤلف ذاته ضمانة على تأويل "صحيح"[20] لما يقدمه للقارئ، فالعالم الذي تبنيه الذات المبدعة أرحب من إرادتها، فإن النص لا يشتمل على معنى "حقيقي"[21]. وهو ما يعني، تبعا لما سبق، أن موضوعية المعنى ذاتها ليست ثابتة، ولا يمكن أن تشكل معطى مفصولا عن كل القصديات، إنها على العكس من ذلك، قابلة للتكيف مع الشروط التاريخية التي يستقبل النص ضمنها[22].

استنادا إلى هذه التصورات النظرية العامة الخاصة بالدلالة وأنماط إنتاجها، تناسلت الخطاطات التحليلية المتنوعة باعتبارها أدوات محددة للمداخل الممكنة للنصوص. بعضها يستمد شرعيته من التاريخ ذاته، كما هو الشأن مع الخطاطات السردية. فالسرد احتفاء بالزمن ونمط في استيعاب "دفقه اللامتناهي"، ذلك أن "الزمن لا وجود له إلا من خلال التمثيل السردي"[23]، لذلك فهو موجود في كل الأنشطة الإنسانية[24]نشطة الإنسانيةإ.... .فمنذ أن بدأ الإنسان يتلمس طريقه بعيدا عن إكراهات الطبيعة ومحدوديتها وإيقاعها المكرور، كانت الحكايات هي مستودع تجاربه من أشدها بساطة (ما يتعلق بتنظيم حياته الخاصة) إلى أكثرها تعقيدا، تلك التي حاول من خلالها إيجاد أجوبة عن أسرار الكون.

وليس غريبا أن تهاجر بعض هذه الخطاطات أو المفاهيم المرتبطة بها إلى ميادين معرفية أخرى خالقة سلسلة من التقاربات بين الفعالية السردية وبين الأنتروبولوجيا (كلود ليفي شتراوس ووحدات الأسطورة)وبينها وبين الإتنولوجيا (دوميزل Dumesil  الآلهة ووظائفها الثلاث)[25] وبين السيكولوجيا (أعمال بارتليه حول اشتغال الذاكرة ومقولته الشهيرة الخطاطة)[26]، وكذا خطاطات ماندلير Mandler وستين وغلين Stein et Glenn  [27]. وهي خطاطات تعتمد الحكايات في قياس درجة وكيفية تمثل العوالم التي تتسرب إلى الذهن من خلال فعل السرد، وهو فعل قائم أساسا على مبدأ التسلسل في الزمان.

وبعضها الآخر يستمد مشروعيته من النوع ذاته كما هو الحال مع الخطاب الشعري ومشتقاته. فاشتغال هذا الخطاب مرتبط في كليته بالاستعمالات الخاصة باللغة (ما كان يسميه الشكلانيون الروس الخطاب الذاتي الغاية). وقد جربت الشكلانية الروسية أولى تصوراتها في هذا المجال بالذات. فقد استبعدت – في مراحلها الأولى على الأقل- الاستعانة بالأفكار من أجل تحديد جوهر الشعر. فالشعر كلمات، إنه لغة في اللغة بتعبير فاليري.

وهناك مجالات أخرى بدأت تستقل بذاتها شيئا فشيئا، وتمتلك خصوصيتها في إنتاج معانيها في استقلال عن النموذج اللساني. ومنها الأنساق البصرية على الخصوص. بل يمكن القول إن المجال البصري لم يعرف تقعيداته الحقيقية، وظهور لغة واصفة خاصة به إلا مع مجيء السميولوجيا التي وضعته، في أحيان كثيرة، في المرتبة الثانية بعد اللسان. فقد قيل إن عصرنا هو عصر الصورة بامتياز. فالتواصل الجماهيري المعاصر يستند إلى الصورة في المقام الأول من أجل تنظيم وبث إرسالياته.

بالتأكيد هناك قضايا أخرى خاصة بالنص تعد أمورا أساسية في بنيته العامة وطريقته في بناء دلالاته. فمكوناته، واجهاته وأطرافه وحشاياه والفاعلون داخله أمور لا يمكن قطعا فصلها عن سيرورات إنتاج المعاني. إن النوع الأدبي لا يتميز بدلالاته، بل هو كذلك من خلال شكل وجوده ومكوناته. وتلك هي المعطيات النصية الجديدة التي تم الكشف عنها من خلال تأمل النصوص والبحث في بنياتها الأصلية.

وبغض النظر عن السبيل الذي سلكه العمل التقعيدي والبحث عن عناصر الانسجام فيما يبدو متنافرا بلا روابط أو حدود، فإن هذا التأمل قدم لنا معرفة تكاد تكون كونية تبتعد عن الخصوصية وتلتقط العام والمجرد في النص. لذلك فهي معرفة مستقلة عن الناقد ومستقلة عن التصورات الخاصة بالمعنى، بل مستقلة عن الذات المنتجة للنص أيضا. فالسجل الجمالي بكل مكوناته سابق في الوجود على المبدع، تماما كما هي قوانين النوع، إنها أشكال كونية تستمد منها الوقائع المخصوصة هويتها. وفي هذا المجال، لا وجود لخصوصية مسبقة، والخصوصية الوحيدة الممكنة هي النسخ التي يمكن التعرف عليها من خلال هذه اللغة أو تلك.

تلكم هي بعض الأسس النظرية الأولية التي استند إليها النقد الجديد، في مفهومه العام، من أجل بلورة مجمل أدواته وتصوراته الخاصة بالنصوص والكشف عن دلالاتها المحتملة (وسنعود إلى تفصيل ذلك). فالنصوص لا تبني معانيها من خلال استنساخ حرفي لواقع يحمل دلالاته في ذاته، إنها تقوم بذلك بواسطة أشكال رمزية هي العوالم التي تبنيها اللغة. لذلك "فالعوالم الممكنة" هي في واقع الأمر تحرير للعلامة من ربقة التعيين وتحميلها ما لا طاقة لها به أو أكثر. ومن البديهي، استنادا إلى ذلك، أن يكون العالم الذي تبنيه اللغة داخل عوالم الرمز وآليته في التمثيل أوسع بكثير من ذاك الذي يصف ويعدد ما هو موجود في العالم الخارجي.

 وعلى هذا الأساس، فإن النص ليس انفصالا عن الواقع ونكرانا لوجوده كما توحي به المظاهر الخارجية. فما يتم داخل اللغة لا يلغي الروابط الممكنة والضرورية بين ما ينتمي إلى الحياة وبين التصورات التي نملكها عنها. إن كل الروابط رمزية، وما يأتي إلى الذهن هو العناصر التي يسمح به اللسان. إن التخلص من التجارب المحدودة هو الشرط الضروري لمعانقة كل التجارب الممكنة. فالمبدع هو الذي يمتلك القدرة على التخلص من الانفعالات الشخصية، عليه أن يحيط نفسه بسلسلة من القيود لكل يبدع بحرية على حد تعبير إيكو.

 

II

وهذا ما يشكل المستوى الثاني داخل التجربة النقدية الجديدة: الفصل بين مكونات النص، وبين النظرية باعتبارها تصورا خاصا بالمعنى. فما يعود إلى المعطيات الأولى يشكل مبادئ كونية عامة نكاد نعثر عليها في كل الآداب الإنسانية (مكونات النص السردي أو النص الشعري أو أشكال تعبيرية أخرى). أما المعطيات الثانية فلا تشكل سوى فرضيات للقراءة يمكن من خلالها التسلل إلى النصوص والتعرف على دلالاتها.

إن الانتقال من الكوني إلى الخاص لا يتم إلا ضمن هذه الثنائية ووفق قوانينها. إنه انتقال من خطاطات عامة تعد تسنينا لخصائص خطابية بعينها (تودوروف) إلى ما يشكل التلوين الثقافي الخاص بكل فعل إبداعي يتم بالضرورة ضمن غطاء ثقافي بعينه. فالنص وفق هذا التوزيع الثنائي ليس سوى تحقق مخصوص لشكل كوني مجرد. وهو ما يشكل الأساس الذي يقوم عليه "ميثاق القراءة"، فكلمة واحدة توضع على الغلاف كافية لأن تستثير عند القارئ عوالم جمالية خاصة بالنوع الذي ينتمي إليه النص (رواية – شعر – مسرحية - قصة قصيرة).

 إن المعنى، استنادا إلى هذا الفصل، لا يوجد في النموذج النظري، فالنموذج تصنيف يعتمد التجريد ولا يستوقفه سوى العام، في حين يشكل النص واقعة مخصوصة مختلفة بالضرورة عن كل الوقائع الأخرى، تماما كما هي التجربة الفردية، إنها فريدة ولا يمكن أبدا استنساخها في تجربة أخرى (سابير). إن المعنى واقعة ثقافية، إنه أثر إيديولوجي لا يمكن أن يوجد إلا من خلال تجسده في مادة بعينها وضمن نسق مولد (إليزيو فيرون)، لذلك لا يمكن البحث عنه إلا في "البنيات المحلية" التي يفرزها كل نص على حدة.

وعلى هذا الأساس، لن يقود التعرف على المكونات وتحديدها إلى إنتاج معرفة خاصة بالنص وبالعوالم التي يمثلها، تماما كما لا يمكن للنظرية أن تحل محل ثقافة المحلل. فكل الأسئلة التي توضع على النص باعتبارها مداخله الخاصة، لا يمكن أن تستمد إلا من الرصيد الثقافي الذي يتوفر عليه الناقد، فكل نظريات الدنيا لا يمكن أن تكون بديلا لثقافة الناقد وقدرته على الغوص عميقا في التجربة الإنسانية.

فما يحدد عمق الممارسة النقدية وغناها، أو، على العكس من ذلك، ما يكشف عن ضحالتها ليس تبني هذه النظرية أو تلك، فالنظريات لا تحلل ولا تقول أي شيء خارج مسلماتها العامة، إن ما يحددها هو نوعية الأسئلة التي يضعها المحلل على النص.

وهذا ما يؤكده واقع الحال في الدراسات الأدبية المعاصرة. فالمعرفة النقدية بكل توجهاتها تثبت أن الاختلافات القائمة مثلا بين رواد الشعرية والسميائيات و الهرموسية لم ترتبط أبدا بالطاقات الانفعالية التي يطلقها الباحث من عقالها وهو يطارد معنى أو معاني تختفي في جزئيات النص وتفاصيله، كما لم تستند إلى مكونات تشكل هوية النص وتوجه شكل تلقيه، فهذه المكونات عامة ومن السهل التعرف عليها، لأنها عناصر موجودة في النوع وليست مميزة على مستوى النسخة. لقد كان مصدر الاختلافات، في الأصل والامتداد، هو التصور النظري الذي يملكه الباحث عن المعنى وعن طرق الكشف عنه وطريقة التعامل معه، وعن موقع الذات القارئة منه.

لقد كان جيرار جونيت، وهو يكشف عن مكونات النص السردي، يتحرك ضمن غطاء إبستمولوجي واسع قادر على استيعاب "تقنياته" التي كانت تبدو دون فائدة خارج هذا الغطاء. لقد قدم لنا معرفة ثمينة خاصة بالنص ومكوناته، وجزئياته وتفاصيله، دون أن يهتم لحظة واحدة بقضية المعنى. ومع ذلك، لا يمكن لأي باحث، حاليا أو مستقبلا، أن ينكر الدور الذي لعبه هذا الباحث في الكشف عن الكثير من خبايا النص.

وكما سنرى ذلك لاحقا، فإن هذا المبدأ المركزي في تصور اشتغال النصوص هو الذي لم يتم تحديده بدقة كافية في رحلة المعرفة النقدية الجديدة من تربتها الأصلية نحو بيئة ثقافية لها خصوصيتها، اللسانية منها على الخصوص. إن غياب هذا التحديد وحده كاف لأن يفسر لنا "الارتباك" لذي صاحب ميلاد النقد الجديد وعاق تجذره في البيئة الثقافية العربية، ويفسر أيضا قصوره، في أحيان كثيرة، عن تقديم إضافات نوعية إلى التراث النقدي العربي. لقد اكتفت الكثير من التجارب، كما سنرى ذلك، بتقديم مفاهيم وخطاطات مفصولة عن أسسها النظرية.

ولواقع الحال هذا دلالة هامة. فعلى عكس ما يتصوره الكثيرون، فإن الخطورة لا تكمن في استيعاب وتمثل الأسس الفلسفية البعيدة للنموذج المعرفي الذي يؤسس للممارسة النقدية أو غيرها من الحقول المعرفية، فقدرة اللغة على إعادة صياغة النظرية وفق قوانينها الخاصة مدخل رئيس نحو "تعريب" هذه النظرية أو تلك. إن الخطر يأتي من الوقوف عند الموجه الخارجي للنظريات، أي الاكتفاء بنقل عناصرها المرئية، ونعني به المصطلحات والمفاهيم المعزولة.حينها سنمارس النقد كما يمارس الميكانيكا كل الميكانيكيين العرب، فهؤلاء لهم قدرة فائقة على إصلاح المحركات، دون أن تكون لهم دراية كافية بالمبادئ النظرية العامة للميكانيكا.

وهو ما يحتم علينا ضرورة امتلاك القدرة على استعادة النموذج النظري من خلال أصوله الفلسفية، ووفق ما توفره اللغة العربية وتقتضيه وتبيحه. فالنظرية ليست مفصولة عن اللغة التي تتم من خلالها صياغة حدودها. وهنا تكمن الخصوصية الحقيقية. فيكفي أن استعمل كلمات من قبيل "الدال" و"المدلول" و"الدلالة" ومشتقاتها ضمن تصورات نظرية عامة (غربية أو عربية لا يهم) ، لكي أكون قد ضمنت اللغة العربية معرفة جديدة هي من صلبها لأنها تدرك من خلال حدودها، ويمكن بالتالي إدراجها ضمن موروثها الثقافي الضخم (مقارنة بين العبارة لابن رشد والعبارة لابن سينا : لا نكاد نميز بين لغتي الكتابين مع العلم أن الأول تقديم لآراء أرسطو والثاني تأليف).

إن قانون الاعتباطية الذي انتبه إليه ابن جني في القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري)، هو ذاته الذي تحدث عنه سوسير قرونا بعد ذلك، دون أن يجعل الفارق الزمني من ابن جني أفضل من سوسير، ولا أن يكون سوسير أوسع معرفة من ابن جني، فكلاهما كان يتحرك ضمن متاح معرفي إنساني، ميزته أنه لا يتوقف عند الظاهرة المحلية إلا من أجل الكشف عن قوانين كل الظواهر المشابهة في كل الثقافات. إن التمسك بالخصوصية باعتبارها المعيار الوحيد لقياس الظواهر والحكم عليها هو خروج عن الزمنية الإنسانية وقوانينها، وإذا فعلنا ذلك سنكون كمن يحاول قياس عبقريته استنادا إلى ما تنتجه ثقافته هو، لا استنادا إلى معايير كونية تقاس عليها كل العبقريات.

ولهذا السبب، فإن الفصل بين المعطى النصي الموضوعي (المكونات التي تشكل هوية النص من خلال إحالتها على نوع بعينه) وبين التصورات النظرية الخاصة بالمعنى، سيمكننا من جهة من التخلص من دعاوى الخصوصية العربية المفترى عليها. فالتجريد تعميم وبحث عن قوانين كونية، فكلما توغلنا في التجريد تقلصت المسافات بين التجارب الإنسانية، وحلت الأسئلة الوجودية العامة محل ما يخصص ويميز. فالتجريد هو أداتنا في الإمساك بالعلاقات التي تتحقق من خلال مفاهيم بسيطة ومرتبطة فيما بينها وفق روابط من مستويات متنوعة، وهو وحده السبيل إلى التعرف على القواعد الخفية التي تنتظم وفقها كل الوقائع الدالة، بغض النظر عن الثقافات المتنوعة والمخصوصة التي تحتضن هذه الوقائع.

وبعبارة أخرى، يتعلق الأمر بالكشف عن الطريقة التي تنتظم وفقها المضامين المتجسدة في سياقات بعينها. وهو ما يعني أن هذه المضامين ليست مميزة في ذاتها ولا يمكن أن تشكل مدخلا صلبا لتبين اشتغال كل واقعة على حدة. ولو لم يكن الأمر كذلك لما فهمنا كلمة واحدة مما يقوله الغربيون ولما فهموا شيئا مما نقول. فالثقافة ليست مضمونا، إنها الطريقة التي يوزع وفقها كل مجتمع مضامينه (إيكو).

كما سيمكننا، من جهة ثانية، من تحديد الفوارق بين ما ينتمي إلى النظرية باعتبارها تهتم بالظاهرة الدلالية في عموميتها وبين الممارسة النقدية التي تهتدي بهذه النظرية وتصوغ أسئلة استنادا إلى فرضياتها العامة. والفرق، كما يبدو ذلك في التراث المعرفي الغربي على الأقل، واضح بين المستويين، الأول يجرد ويعمم ويبحث عن القوانين العامة، أما الثاني فيبحث في النصوص عن الخاص والملموس. وعلى هذا الأساس، فإن أي تصور نظري عن المعنى"سيبنى من خلال بلورة فرضية بالغة التجريد تتم مواجهتها بعد ذلك بالنتائج المحصل عليها من خلال البحث في ظواهر دلالية مخصوصة، وهذا هو السبيل الوحيد نحو استنباط نظرية منسجمة حول المعنى "[28].

 فالناقد قد لا يكون منظرا، ولا علاقة له بالنظريات إلا من حيث هي أداة تعينه في قراءة النصوص وتحديد بعض مداخله،كما هو حال جمهور عريض من النقاد في الغرب والشرق على حد سواء. وقد لا يهتم المنظر سوى بالكشف عن القوانين العامة، وصياغتها ضمن خطاطات نظرية تعكس في واقع الأمر تصوره للطريقة التي ينتج من خلالها الإنسان معانيه بدءا من النصوص المكتوبة وانتهاء بكل طقوسه الاجتماعية. وهي حالة جل المنظرين الكبار الذين يتزعمون المدارس المشهورة كالسميائيات والتفكيكية والهرموسية والبنيوية قبلهما.

ومرد ذلك اختلاف الغايات من الممارستين، "فالنظرية تثير أسئلة، وهي الأسئلة التي يصادفها النقاد والمؤرخون باستمرار وهم يتعاملون مع النصوص المخصوصة، إلا أنهم لا يعيرونها اهتماما، فهم يعتبرون الأجوبة عنها أجوبة بديهية لا تحتاج إلى تفسير. أما النظرية فلها رأي آخر، إنها لا تكف عن التذكير أن هذه الأسئلة هي ذات طابع إشكالي، ويمكن الإجابة عنها بطرق متعددة، إنها بهذا تنسب الأحكام"[29]، في حين تنتمي الممارسة النقدية إلى طبيعة أخرى، "فالنقد الأدبي خطاب حول الأعمال الأدبية، خطاب يهتم بتجربة القراءة ويصف ويؤول ويقوم بتقدير حجم المعنى وأثره على القراء الجيدين، قراء ليسوا بالضرورة علماء أو محترفي نقد : إن النقد يستحسن ويتلذذ ويقوم"[30].

وهذا التمايز بين النشاطين هو الذي دفع البعض في الحالة التي يمثلها رولان بارث مثلا إلى التمييز بين "بارثين" : بارث الطيب، الكاتب الباحث عن المتعة، الناقد الذي يتلذذ بالكشف عن خبايا المعاني ويراودها عن نفسها، بارث الذي تستهويه الدلالات المتجددة باستمرار، وبين بارث الصلب، المنظر، المتقيد بصرامة المنهج وإكراهاته، بارث الذي لا يلتفت إلا إلى القوانين العامة التي ستمكنه من بناء النماذج ومراقبة مردوديتها من خلال نصوص بعينها[31].

وهنا أيضا نكون أمام مفارقة من المفارقات العجيبة في الوطن العربي. ويتعلق الأمر بغياب أي تواصل بين الحقول المعرفية المختلفة. فما يجري في التاريخ لا علاقة له بما يحدث في الأدب، والأديب لا علم له بما يمارسه المحلل النفسي، والمهتم بعلم الاجتماع لا يربطه أي رابط بالأدب أو غيره من الحقول المعرفية. إنها قارات مفصولة عن بعضها البعض، ولا أثر لنتائج هذا الحقل في ذاك. وعلى العكس من ذلك ما وقع ويقع في الغرب، فقد حدثت هزات عنيفة متتالية عمت كل الحقول المعرفية، فقد كانت كل مرحلة تاريخية تفرز أسئلتها التي تخترق المجتمع كله، وتجد صداها في كل الحقوق المعرفية، دون أن يؤدي ذلك إلى ذوبان هذه الحقول في بعضها البعض.

إذا كان لكل لقطاع معرفي أسئلته الخاصة التي لا تجد صداها في القطاعات المعرفية الأخرى، فهذا دليل على وجود خلل واضطراب في نمو المجتمع وتطوره. وإذا ظل الأمر على هذه الحالة، فلن تكون هناك بالقطع نهضة فكرية، ولن يعيد المجتمع سوى إنتاج حالات ارتكاس مرضي.

وإلى الوعي الشمولي الذي تحدثنا عنه في الحالة التي يمثلها الغرب، استند الفصل بين النظرية باعتبارها فرضيات معرفية لها علاقة بالظاهرة الدلالية في عموميتها في استقلال عن مواد التجلي، فالدلالة هي ما يمنح الوجود الإنساني معنى في كل أبعاده، فهي قابلة للتجسد في كل شيء، وبين الخطاطات التحليلية "المحلية" المتنوعة، أي تلك الخطوات المنهجية الخاصة بقطاعات أدبية مخصوصة : ما يعود إلى النصوص السردية (خطاطات بروب وكريماص وبريمون وجونيت) ما يعود إلى الأنساق البصرية (الصورة الفوتوغرافية، الصورة الإشهارية، السينما ). فهذه الخطاطات تشكل، في واقع الأمر، الشكل المرئي للتصورات الخاصة بالمعنى. لذلك لا يمكن استعارتها في انفصال عن أساسها النظري.

إن الاعتراف بوحدة الظاهرة الدلالية هو الشرط الضروري الذي سيمكننا لاحقا من التعامل مع المعنى باعتبار توليده وتجسده وشكل وجوده لا باعتبار مادته الأصلية، أو ما يمكن أن نطلق عليه الجوهر الدلالي الموجود خارج أي سياق. فهذا الجوهر، كما أكدت ذلك كل المدارس، هو فرضية للعمل، ولا يمكن أن يكون حقيقة موضوعية قابلة للتحديد والمعاينة."وكما يشير إلى ذلك بول دومان، فإن النظرية تولد عندما يُنظر إلى النص من خلال جوهره اللساني ويُستبعد كل ما له علاقة بالتاريخ والاجتماع والنفس. وهذا معناه أن النظرية تولد عندما لا يكون موضوع الدراسة هو المعنى أو القيمة، بل أنماط إنتاج المعنى أو القيمة"[32]. وشتان بين الرؤيتين. فالمضامين التي تتحدث عنها السميائيات مثلا لا علاقة لها بالتقابل الشهير بين الشكل والمضمون، فتلك ثنائية لا مكان لها في التصورات الجديدة الخاصة بالمعنى، فالمعنى شكل، إنه نتاج السيرورة التي تنتظم وفقها الوحدات في سيرورة تمنح المعنى شكلا. لذلك فالتعرف على المعنى لا يمكن فصله عما يكونه ويسهم في بنائه. 

لقد كانت ضرورة التخلص من "المضامين" المسبقة هي الخطوة الأساسية التي قادت إلى بناء نظريات تتحدث عن المعنى من خلال "حدود بلا معنى"، أي تتحدث عن ا لمعنى[33] خارج الامتلاء الدلالي الذي يميز كل الحدود المشكلة للغة واصفة مختصة بحقل معرفي بعينه. فالمعنى، سواء تحقق على شكل انفعال مبهم (ما كان بورس يسميه ضمن توزيعه الثلاثي العلامات النوعية)، أو تحقق على شكل قيم مسننة اجتماعيا أو فرديا، أو تحقق على شكل قاعدة أو قواعد للفعل، ليس معطى جاهزا، بل هو بناء يتم من خلال إسقاط فرضيات للقراءة، وهي فرضيات مستعارة، في عدد كبير منها من النموذج اللساني، السوسيري منه بالخصوص.

 إن جهة النظر هي الخالقة للموضوع كما أكد ذلك سوسير، وليس العكس كما هو سائد عند قطاع واسع من باحثينا. واستنادا إلى ذلك، لا يمكن للنص أن يقول إلا ما تسمح به قواعد جهة النظر التي يتبناها الباحث (يجب التمييز بين هذه الحالة وبين حالة الخطاطات التحليلية الجاهزة، وسنشير إلى ما يميزهما في الصفحات الآتية). وهذا ما يفتح الظاهرة الدلالية على كل التخصصات الممكنة المهتمة بالمنتوج الإنساني.

إن الإقرار بوحدة الظاهرة الدلالية معناه أيضا تجاوز الحدود الفاصلة بين الأشكال التعبيرية، بل تجاوز ما يمكن أن يفصل بين كل الوقائع الإنسانية الدالة ذاتها، في أفق خلق "جذع نظري مشترك" تمكن الإفادة منه في مقاربة كل الظواهر الإنسانية. صحيح أن كل شكل تعبيري له هويته وله طريقته في إنتاج معانيه وتفجير الانفعالات وأسرها وترويضها من خلال بناء النص ضمن عوالم دلالية بذاتها، وصحيح أيضا أن ما يكون هو ما ينظم وهو ما يسهم في إنتاج المعنى، إلا أن المعطى الدلالي سيظل في نهاية المطاف واحدا. فالدلالة لا وطن لها، والتحققات المخصوصة وحدها هي التي تحمل في ثناياها ما يميز ويفصل ويعزل الأسقف الثقافية عن بعضها البعض. لقد صرح أحد الرحالة الروس، بعد عودته من رحلة قادته إلى بلدان عديدة، أن ما أثاره في هذه الرحلة هو الأشكال أما المضامين فكانت تبدو له واحدة.

وهذا ما يفسر التداخلات المتعددة بين القطاعات الأدبية والفنية في الممارسة المعرفية في الغرب. بل هناك تداخلات وتقاطعات بين حقول يبدو، ظاهريا على الأقل، ألا صلة بين بعضها البعض (انظر مثلا الترابطات التي حدثت بين نظرية الكوارث في الرياضيات التي يمثلها روني توم، وبين السميائيات السردية كما فهمها جان بوتيتو كوكوردا). فموضوع البحث لا يمكن أن يكون، في جميع هذه الحقول، سوى المعنى، أي الطريقة التي ينتج من خلالها الكائن البشري –في كل بقاع الأرض- معانيه، وكيفية تصريفه لتجاربه وإيداعه لجزء من نفسه في كل ما يحيط به، بدءا من اللسان الطبيعي مرورا بأشياء الكون وانتهاء بالطقوس الاجتماعية.

لذلك وجب التعامل مع النظرية باعتبارها تعبيرا عن حالة وعي شامل يمكن أن ينتشر في كل القطاعات. إن النظرية تُبنى ضمن الإبستيمي الذي يتحكم ويوجه إنتاج المعرفة وتداولها في مرحلة تاريخية بعينها : عندما ظهرت البنيوية في فرنسا، تبنت كل القطاعات المعرفية المجاورة نتائجها واستثمرتها في دراسة كل الظواهر. وعندما ظهرت السميائيات (السميولوجيا) ، تبنى مفاهيمها المؤرخون وعلماء الاجتماع والمعماريون وغيرهم. وفي كل هذه الحالات لم تكن هذه النظريات تهاجر خارج تربتها دون حماية، بل كانت تأتي إلى القطاعات المخصوصة محملة بكل ما يمكن أن يقود إلى إفراز مفاهيم جديدة تضاف إلى الأساس الفلسفي الأصلي لهذه النظرية.

والحاصل أن النظريات، أي التصورات الخاصة بالمعنى تعد، في أصولها الفلسفية، تجسيدا أسمى لوعي حضاري يجد تعبيره الأمثل في الطرق الجديدة التي تفرزها السيرورة التاريخية في التعاطي مع المنتوج الإنساني بكل أشكاله، وخارج هذه الأصول لا يمكن الحديث عن نظريات أو ممارسات مهما كان شكلها. فما هو حاضر على مستوى المفاهيم المجردة لا يمكن أن يغيب النظرة التي نملكها عن الكون، وهي النظرة ذاتها التي تحكم تقويمنا للأشياء والظواهر. فلا يمكن مثلا أن نفصل تصور التفكيكية للتأويل عن رؤى فلسفية لا تؤمن بوجود حقيقة أو مركز لأي شيء. بل قام إيكو بأكثر من ذلك، فقد سافر في رحلة في عمق التاريخ الإنساني بأساطيره وتراثه الفلسفي والديني والسياسي بحثا عن الجذور التي تفسر التيارات التأويلية السائدة حاليا وطريقة تعاملها مع النصوص[34].

ولهذا السبب، فإن عمليات "النقل" و"التفاعل" لا يمكن أن تتم من خلال مفاهيم معزولة أو مصطلحات تعين قضايا نصية فقط، كما لا يمكن أن تقف عند حدود تعيين مكونات الوقائع النصية فقط، إن هذا لن يقود إلا إلى استنساخ أحكام لا نعرف عن أساسها أي شيء. إن التفاعل مع هذه النظريات يجب أن يتم من خلال استيعاب أسسها الفلسفية في المقام الأول، فما ينتمي إلى البعد الفلسفي التجريدي هو وحده الذي يمكننا من إقامة جسور بين الثقافات المتنوعة، وهو الذي يمكننا من استيعاب الحالات العامة، أما الممارسة فتعد التطبيق المخصوص الذي يقود إلى إغناء النظرية من خلال مدها بعناصر محلية تمنحها تلوينا فكريا خاصا هو المضاف الثقافي الذي تنتجه الأمة، وهو ما يشكل انتماءها إلى التراث الإنساني ومساهمتها في إغنائه. وفي هذه الحالة لن نكون مضطرين للتقوقع ضمن ما تقترحه وما تحدده  هذه النظرية أو تلك بشكل سابق، إن التمثل في ذاته إبداع، فهو يلتقط الكوني ليعيد صياغة المنتوج الثقافي المحلي وفق غايات جديدة.

وتلك خاصية من خاصيات التجريد، وكما سبق أن أشرنا إلى ذلك في الفقرات السابقة، كلما تخلصنا مما يشد إلى الخاص والمحدود في الزمان وفي المكان، تقلصت المسافة الفاصلة بين الثقافات، واقتربنا أكثر فأكثر مما يوحد الإنسان ويعود به إلى أصله الأول كائنِ يعيش وقائعه الموضوعية على شكل سلاسل رمزية لا تنتهي.وهذا هو المدخل الأساس نحو تحيين الإرث المعرفي العربي من خلال استيعابه ضمن رؤى جديدة تمنحه أبعادا أخرى من خلال إدراجه ضمن زمنية جديدة، و هو ما يعني بعبارة أخرى، استيعاب كل الاجتهادات العربية في ميدان المعرفة الشعرية واللسانية ضمن نظرية تصبح هذه الاجتهادات داخلها أكثر قدرة على تجديد روحها، وأكثر قدرة على إنتاج قيم تجيب عن أسئلة غريبة عن الرؤى القديمة: لا يمكن بالقطع أن نجيب عن سؤال اليوم بجواب ينتمي إلى الأمس.

حينها لن أكون مضطرا كلما كتبت كلمة "دال" القول إن الأمر لا يتعلق بترجمة لكلمة signifiant كما وردت عند سوسير، بل هي تسمية خاصة بحامل صوتي يشير إلى معنى وفق ما يبيحه التقطيع الصوتي للغة العربية، وهو ما يشكل الوجه الصوتي للمعنى الذي يطلق عليه المدلول كما ورد ذلك في العديد من كتب اللغويين والأصوليين العرب. إن هذا الإقرار لن يحل محل البناء النظري القادر على استيعاب هذا المفهوم وغيره من المفاهيم، إننا لا نقوم في هذه الحالة سوى بتضليل أنفسنا من خلال مدها بما يطمئنها ويصدها عن الاجتهاد.

فما هو مطلوب إذن هو صياغة خطاب معرفي قادر على استيعاب المعرفتين معا ضمن تصور نظري جديد هو حصيلة لمثاقفة منتجة من حيث هي إحالة على خصوصية لا توجد بشكل مسبق في الذهن بل مثواها اللسان الذي تُعاد من خلاله صياغة ما يضاف إلى ثقافة الأمة وتراثها. فالرؤية التي يفرزها اللسان هي الأساس في تحديد أية رؤية، أما الكلمة المعزولة فلا قيمة لها. فكل الكلمات هي في الأصل نتاج حاجة نفعية، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، أما المصطلحات فهي بناء بعدي، إنها إضافة جديدة تفتح اللسان على التجريد والتخصيص وخلق مستويات داخله.

إن استيعاب النقد الغربي المعاصر (بتياراته المتنوعة) وتمثل مقترحاته سيجنباننا السقوط في "الرؤية التقنوية" المنتشرة كثيرا في التطبيقات النقدية العربية المعاصرة. وهي رؤية حولت النقاد إلى تقنوقراطيين ساووا في ممارساتهم بين كل النصوص الإبداعية وحولوها إلى تقنيات في القول وفي تنظيم الحدث. كما ستمكننا من التخلص من الخطاطات المسبقة التي ترسم للمحلل حدود حركته، وتدفع النص إلى الكشف عما تود الخطاطة قوله، لا ما يمكن أن تكشف عنه القراءة  التي تكتفي بإثارة الأسئلة، أما الأجوبة فلا يتحكم فيها سوى نفس المحلل ودرجة قناعاته.

إن النص الخاضع للخطاطات المسبقة لا يمكن أن يقول إلا ما تسمح به هذه الخطاطة، فالمعنى ليس في النص، بل في الحقائق الثابتة داخل الخطاطة : هناك نقاد كثيرون يقولون الشيء ذاته عن كل النصوص. والحال أن التقنيات والخطاطات ليست سوى الوسيط الذي يساعد على الإمساك بسيرورات التدليل، وخارج هذه السيرورات، ستظل هذه التقنيات جوفاء بدون أية مردودية تحليلية. إنها ما يمكن من التعرف على ما نود معرفته بشكل سابق. فالغاية مدرجة في النموذج، وكل ما لا يمكن أن يستقيم داخل النموذج لا يمكن أن يؤخذ به.

 إن القراءة هي الكشف عن معنى لا نعرف عنه سوى الفرضيات التي تقود إليه. وهذا ما تنبه إليه الكثير من النقاد الغربيين أنفسهم، فعلى الرغم من القيمة المعرفية التي استندت إليها هذه الخطاطات، وعلى الرغم من قيمتها التاريخية، فإنها لم تعد مقنعة في قول شيء ذي قيمة عن النص. فلم تعد خطاطات كريماص في التحليل السردي بكل قوتها وشموليتها تغري أحدا، وابتلع النسيان ما ردده كلود بريمون لسنوات طويلة عن النصوص السردية والاحتمالات التي تتحكم في نموها وتوجهها، ونسي الناس أو كادوا نموذج بروب وتصوراته للحكاية. وهذا أمر طبيعي، فوحدة التصور النظري لا يمكن أن تؤدي إلى وحدة في دلالات النصوص، لأن النظرية لا يمكن أن تحل محل المحلل.

لذلك، فإن محاولات "استنبات" هذه الرؤى النقدية الجديدة في البيئة الثقافية العربية لم يحالفها النجاح دائما. فتراث هذا النقد حافل بكثير من الممارسات التي لم تتجاوز حدود نقل مصطلحات ومفاهيم، وأحيانا صياغات كانت تبدو غريبة وشاذة داخل الجسم الثقافي العربي بكل تنوعاته. بل إن محاولات الخروج عن طوق التقليد النقدي السائد كانت لا تتجاوز في كثير من الأحيان حدود صياغة كلام يستعصي على الفهم، ولا يضيف أي شيء للنص. فقد تحولت الحداثة أحيانا إلى هلوسة لغوية خالية من أي معنى. والحال أن من شروط انتشار الفكر الجديد قدرته على استيطان اللغة التي تحتضنه، وخارج ذلك سيظل غريبا سرعان ما يبتلعه النسيان.

 

الهوامش :



[1]-serge Doubrovsky : Pourquoi la nouvelle critique, éd Médiation, 1966, p.13

2 -Roland Barthes : L’aventure sémiologique, éd seuil, 1985, p.259

-3Pourquoi la nouvelle critique, éd Médiation سارتر إحالة وردت في ص 83 -

: Réflexions faite, autobiographie intellectuelle, éd esprit, Paris, 1995, p30  Paul Ricœur - Paul Ricœur: Réflexions faite, autobiographie intellectuelle, éd esprit, Paris, 1995, p30  -[4]

[5] - Greimas : du sens, éd Seuil , 1970 , p9

6- Umberto Eco : La structure absente, éd Mercure de France , 1972, p63-

7- Jean-Michel Roy : Sémiotique, p[7]

8- Tzvetan Todorov : Poétique de la prose, éd Seuil,1971, p12-

 9 Ernest Cassirer : Essai sur l’homme, éd Minuit, 1975 -[9]

10- Umberto Eco : Lector  in Fabula, éd Grasset, 1985 ,p 170 -

[11]-, éd Hachette Université, 1989, p.14  François Rastier : Sens et textualité

12- Suzan Rubin Suleiman : Le roman à thèse, éd P U F, 1983, p14-

[13]- Le Signe, ed Labor, 1988, p96 Umberto Eco :

A G Greimas : Sémantique structurale, éd Larousse, 1966, p.222 et suiv.-[14]

15- Umberto Eco : Lector  in Fabula, 67 et suiv -[15]

[16] -, éd Hachette Université, 1989, p.15  François Rastier : Sens et textualité

17- المرجع السابق ص 113

* الهرموسيون ، من الهرموسية وهي المعادل المعرب لكلمة  herméneutique الفرنسية

18- Paul Ricœur :Le conflit des interprétations, éd Seuil , 1969 ,p64  [18]

-19François Rastier : Sens et textualité, éd Hachette Université, 1989, p.19  

220- نفسه ص 19

21- نفسه ص 19

22- نفسه ص 19

24- Paul Ricœur : Temps et récit, 3 le temps raconté, éd Seuil, 1985, p 435-[23]

Roland Barthes : Introduction à l’analyse structurale des récits, éd Seuil, 1981,p7

25- G Dumézul : Mythe et épopée, l’idéologie des trois fonctions dans les épopées des peuples indo-européens ? Gallimard 1968-

26 Michel Fayol : le récit et sa construction, éd Delachaux, 1985, p35-

27 - نفسه ص 46-47

28- Jean-Michel Roy : Sémiotique, philosophie et théorie du langage, in Au nom du sens, Grasset 2000, p 275 -

29-   Littérature et sens commun,éd Seuil, 1998, p21 Antoine compagnon : Le démon de la théorie-

30- نفسه ص 20

31- La troisième république des lettres Antoine compagnon, éd seuil, 1983, p6 :

[32] -  Paul De Man, : The resistance to theory, p 7   ذكره  p 23 -24  Antoine compagnon : Le démon de la théorie

[33] - Greimas : du sens, éd seuil, p7

[34]- انظر  أمبيرتو إيكو : السميائيات والتفكيكة، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، 2000، الفصل الأول : التأويل والتاريخ.